بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله [ ص ] في أمر القبلة ؛ ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود ، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم . . في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة ، ووقايتها من البلبلة والفتنة :
قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره . وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله بغافل عما يعملون . ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض . ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون . الحق من ربك فلا تكونن من الممترين . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ، إن الله على كل شيء قدير . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام . وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة . إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون . .
وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيرا مصورا لحالة النبي [ ص ] :
( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) . .
وهو يشي بتلك الرغبة القوية في أن يوجهه ربه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها . بعدما كثر لجاج اليهود وحجاجهم ؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس . . فكان [ ص ] يقلب وجهه في السماء ، ولا يصرح بدعاء ، تأدبا مع ربه ، وتحرجا أن يقترح عليه شيئا ، أو أن يقدم بين يديه شيئا .
ولقد إجابه ربه إلى ما يرضيه . والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود :
ثم يعين له هذه القبلة التي علم - سبحانه - أنه يرضاها :
( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . .
قبلة له ولأمته . من معه منها ومن يأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها :
( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . .
من كل اتجاه ، في أنحاء الأرض جميعا . . قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها ، واختلاف مواقعها من هذه القبلة ، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها . . قبلة واحدة ، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها . فتحس أنها جسم واحد ، وكيان واحد ، تتجه إلى هدف واحد ، وتسعى لتحقيق منهج واحد . منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا ، وتؤمن برسول واحد ، وتتجه إلى قبلة واحدة .
وهكذا وحد الله هذه الأمة . وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها . وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات . ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها ؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها ؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها . . إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان ؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب ، وقبلة العبادة ، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة !
ثم . . ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة ؟
( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) . .
إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم . جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين . وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه . .
ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه . فلا على المسلمين منهم ؛ فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم :
( وما الله بغافل عما يعملون ) . .
إنهم لن يقتنعوا بدليل ، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل ؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى ، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه :
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء . ويعني بالتقلب : التحوّل والتصرّف . ويعني بقوله : في السّماء نحو السماء وقِبَلها .
وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا ، لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ قال : كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء يحبّ أن يصرفه الله عزّ وجلّ إلى الكعبة حتى صرفه الله إليها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ فكان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، يَهْوَى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام ، فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثني إسحاق ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ يقول : نظرك في السماء . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس ، وكان يَهْوَى قبلة البيت الحرام ، فولاه الله قبلة كان يهواها .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان الناس يصلون قِبَل بيت المقدس ، فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره ، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر ، وكان يصلي قبل بيت المقدس . فنسختها الكعبة ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يصلي قِبَل الكعبة ، فأنزل الله جل ثناؤه : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ الآية .
ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة .
قال بعضهم : كره قبلة بيت المقدس ، من أجل أن اليهود قالوا : يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قالت اليهود : يخالفنا محمد ، ويتبع قبلتنا فكان يدعو الله جل ثناؤه ، ويستفرض للقبلة ، فنزلت : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وانقطع قول يهود : يخالفنا ويتبع قبلتنا في صلاة الظهر ، فجعل الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعته ، يعني ابن زيد يقول : قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ الله قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَؤُلاَءِ قَوْمُ يَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتا مِنْ بُيُوتِ اللّهِ » لبيت المقدس «لو أنا اسْتَقْبَلْنَاهُ » ، فاستقبله النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فبلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله جل ثناؤه : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ الآية .
وقال آخرون : بل كان يَهْوَى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله عزّ وجل أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عزّ وجل : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ . . . الآية .
فأما قوله : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فإنه يعني : فلنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها ، تهواها وتحبها .
وأما قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ يعني اصرف وجهك وحوّله . وقوله : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني بالشطر : النحو والقصد والتلقاء ، كما قال الهذلي :
إنّ العَسِير بِهَا دَاءٌ مُخامِرُها فَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَيْن مَحْسُورُ
يعني بقوله شطرها : نحوها . وكما قال ابن أحمر :
تَعْدُو بِنا شَطْرَ جَمْعٍ وهْيَ عاقِدَةٌ قَدْ كارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِها الحَقَبا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبيّ ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن ابن أبي العالية : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام يعني تلقاءه .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ نحوه .
حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ أي تلقاء المسجد الحرام .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : نحو المسجد الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ أي تلقاءه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قال : شطره : نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال : قِبَله .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : شَطْرَهُ ناحيته جانبه ، قال : وجوانبه : شطوره .
ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام .
فقال بعضهم : القبلة التي حوّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم وعناها الله تعالى ذكره بقوله : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا عثمان ، قال : أنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، عن عبد الله بن عمرو : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب ، وتلا هذه الآية : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا قال : هذه القبلة هي هذه القبلة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم بإسناده عن عبد الله بن عمرو نحوه ، إلا أنه قال : استقبل الميزاب فقال : هذا القبلة التي قال الله لنبيه : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا .
وقال آخرون : بل ذلك البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : البيت كله قبلة ، وهذه قبلة البيت ، يعني التي فيها الباب .
والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ فالمولّي وجهه شطر المسجد الحرام هو المصيب القبلة . وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه ، كما أن على من ائتمّ بإمام فإنما عليه الائتمام به وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه ، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر عن يمينه أو عن يساره ، بعد أن يكون من خلفه مؤتما به مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام . فكذلك حكم القبلة ، وإن لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوجه إليها ببدنه غير أنه متوجه إليها ، فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بينه وبينها ، أو قرب من عن يمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه . كما :
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عميرة بن زياد الكندي ، عن عليّ : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : شطره قِبَله .
قال أبو جعفر : وقبلة البيت : بابه . كما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، والفضل بن الصباح ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء قال : قال أسامة بن زيد : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال : «هَذِهِ القِبْلَةُ ، هَذِهِ القِبْلَةُ » .
حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : حدثني أسامة بن زيد ، قال : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من البيت ، فصلى ركعتين مستقبلاً بوجهه الكعبة ، فقال : «هذه القِبْلَةُ » مرّتين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أسامة بن زيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبيّ ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : سمعت ابن عباس يقول : إنما أمرتم بالطواف ، ولم تؤمروا بدخوله . قال : لم يكن ينهى عن دخوله ، ولكني سمعته يقول : أخبرني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصلّ حتى خرج ، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين وقال : «هذه القِبْلَةُ » .
قال أبو جعفر : فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة ، وأن قبلة البيت بابه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .
يعني جل ثناؤه بذلك : فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوّلوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه . والهاء التي في «شطره » عائدة إلى المسجد الحرام .
فأوجب جلّ ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى . وأدخلت الفاء في قوله : فَوَلّوا جوابا للجزاء ، وذلك أن قوله : حَيْثُمَا كُنْتُمْ جزاء ، ومعناه : حيثما تكونوا فولّوا وجوهكم شطره .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وإن الذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وعلماء النصارى . وقد قيل إنما عنى بذلك اليهود خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنزل ذلك في اليهود . وقوله : لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب ، يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحقّ الذي فرضه الله عزّ وجلّ على إبراهيم وذرّيته وسائر عباده بعده .
ويعني بقوله : مِنْ رَبّهِمْ أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره ، وهو الحقّ من عند ربهم فرضه عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .
يعني بذلك تبارك وتعالى : وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون في اتباعكم أمره وانتهائكم إلى طاعته فيما ألزمكم من فرائضه وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام ، ولا هو ساهٍ عنه ، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدّخره لكم عنده حتى يجازيكم به أحسن جزاء ، ويثيبكم عليه أفضل ثواب .
{ قد نرى } ربما نرى { تقلب وجهك في السماء } تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ، ولمخالفة اليهود ، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل { فلنولينك قبلة } فلنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا ، إذا صيرته واليا له ، أو فلنجعلنك تلي جهتها { ترضاها } تحبها وتتشوق إليها ، لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته . { فول وجهك } اصرف وجهك . { شطر المسجد الحرام } نحوه . وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء إذا انفصل ، ودار شطور : أي منفصلة عن الدور ، ثم استعمل لجانبه ، وإن لم ينفصل كالقطر ، والحرام المحرم أي محرم فيه القتال ، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه ، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة والسلام كان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلا القريب . روي : أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين . وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمي المسجد مسجد القبلتين . { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } خص الرسول بالخطاب تعظيما له وإيجابا لرغبته ، ثم عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وتضيضا للأمة على المتابعة . { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } جملة لعلمهم بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة ، وتفصيلا لتضمن كتبهم أنه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين ، والضمير للتحويل أو التوجه { وما الله بغافل عما تعملون } وعد ووعيد للفريقين . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالياء .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 144 )
المقصد تقلب البصر ، وذكر الوجه لأنه أعم وأشرف ، وهو المستعمل في طلب الرغائب ، تقول : بذلت وجهي في كذا ، وفعلت لوجه فلان ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
رَجَعْتُ بما أَبْغي وَوَجْهي بمائِهِ . . . وأيضاً فالوجه يتقلب بتقلب البصر( {[1373]} ) ، وقال قتادة والسدي وغيرهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة ، وقيل( {[1374]} ) كان يقلب ليؤذن له في الدعاء ، ومعنى التقلب نحو السماء أن السماء جهة قد تعود العالم منها الرحمة كالمطر والأنوار والوحي فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم ، و { ترضاها } معناه تحبها وتقر بها عينك .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الكعبة والتحول عن بيت المقدس لوجوه ثلاثة رويت ، فقال مجاهد : لقول اليهود ما علم محمد دينه حتى اتبعنا ، وقال ابن عباس : وليصيب قبلة إبراهيم عليه السلام ، وقال الربيع والسدي : وليستألف العرب لمحبتها في الكعبة ، وقال عبد الله بن عمر : إنما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته حيال ميزاب الكعبة ، وقال ابن عباس وغيره : بل وجه إلى البيت كله .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والميزاب هو قبلة المدينة والشام ، وهنالك قبلة أهل الأندلس بلا ريب ، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق( {[1375]} ) ، وقوله تعالى : { فولِّ وجهك شطر المسجد } الآية ، أمر بالتحول ونسخ لقبلة الشام ، وقيل : نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة ، وذكر أبو الفرج( {[1376]} ) أن عباد بن نهيك كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة( {[1377]} ) ، وقيل : إنما نزلت هذه الآية في غير صلاة وكانت أول صلاة إلى الكعبة العصر ، و { شطر } نصب على الظرف ويشبه المفعول به لوقوع الفعل عليه( {[1378]} ) ومعناه نحو وتلقاء( {[1379]} ) ، قال ابن أحمر : [ البسيط ]
تَعْدُو بِنا شَطْرَ نَجْدٍ وهيَ عاقدة . . . قَدْ كَارَبَ العِقْدَ مِنْ إيفادِهَا الحقبَا( {[1380]} )
أقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقيمي . . . صُدُورِ العِيسِ شَطْرَ بني تَميمِ( {[1381]} )
وقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ . . . هَوْلٌ له ظُلَمٌ تَغْشَاكُمُ قِطَعا( {[1382]} )
وقال غيره( {[1383]} ) [ خفاف بن عمير ] : [ الوافر ]
أَلا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْراً رَسُولاً . . . وما تُغْني الرِّسَالةُ شَطْرَ عَمْرِو
و { حيث ما كنتم فولوا } أمر للأمة ناسخ ، وقال داود بن أبي هند : إن في حرف ابن مسعود : { فول وجهك تلقاء المسجد الحرام } ، وقال محمد بن طلحة : إن فيه : فولوا وجوهكم قبله ، وقرأ ابن أبي عبلة : «فولوا وجوهكم تلقاءه » ، و { الذين أوتوا الكتاب } : اليهود والنصارى ، وقال السدي : المراد اليهود .
قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر ، والمعنى أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم إمام الأمم ، وأن استقبالها هو الحق الواجب على الجميع اتباعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «عما تعملون » بتاء على المخاطبة ، فإما على إرادة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى الوجهين( {[1384]} ) ، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل العباد ولا يغفل عنها ، وضمنه الوعيد ، وقرأ الباقون بالياء من تحت .
استئناف ابتدائي وإفضاء لِشرع استقبال الكعبة ونَسْخِ استقبال بيت المقدس فهذا هو المقصود من الكلام المفتتح بقوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] بَعْد أن مَهَّد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعدادِ الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله : { ولله المشرق والمغرب ثم قوله : ولن ترضى عنك اليهود } [ البقرة : 120 ] ثم قوله : { وإذا جعلنا البيت } [ البقرة : 125 ] ثم قوله : { سيقول السفهاء } .
و ( قد ) في كلام العرب للتحقيق أَلاَ ترى أهلَ المعاني نَظَّروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إِنَّ مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو أخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا اهـ .
ولما كان علم الله بذلك مما لا يَشُك فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يُحتاجَ لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملاً في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يُطَمئِنهَ لأن النبي كان حريصاً على حصوله ويَلزم ذلكَ الوعدُ بحصوله فتحصل كنايتان مترتبان .
وجيء بالمضارع مَعَ ( قد ) للدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيداً لذلك اللازم وهو الوعد ، فمن أجْل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل . قال عبيد بن الأَبْرَص :
قد أَتْركُ القِرن مُصْفَرَّا أَنامِلُه *** كَأَنَّ أَثوابه مُبحَّت بفِرصاد
وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } [ الأنعام : 33 ] في سورة الأنعام .
والتقلب مطاوع قَلَّبه إذا حَوَّله وهو مثل قلبهُ بالتخفيف ، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله عن جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء ، وقد أخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالةَ على معنى التكثير في هذا التحويل ، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية ، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقع في رُوعه إلهاماً أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول جبريل بذلك ، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيؤ نزول الآية وإلاّ لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب .
والفاء في { فلنولينك } فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لها بالكناية في قوله : { قد نرى تقلب وجهك } ، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] ، فمعنى { فلنولينك قبلة } لنوجهنك إلى قبلة ترضاها . فانتصب { قبلة } على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك مِن قِبلة وكذلك قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } .
والمعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد . وهذا وعد اشتمل على أداتي تأكيد وأداةِ تعقيب وذلك غاية اللطف والإحسان .
وعبر بترضاها للدلالة على أن ميله إلى الكعبة ميل لقصد الخير بناء على أن الكعبة أجدر بيُوتِ الله بأن يدل على التوحيد كما تقدم فهو أجدر بالاستقبال من بيت المقدس ، ولأن في استقبالها إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب . ولما كان الرضى مشعراً بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تُحبها أو تهواها أو نحوهما فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم يربو عن أن يتعلق ميله بما ليس بمصلحة راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس ، ألا ترى أنه لما جاء في جانب قبلتهم بعد أن نسخت جاء بقوله : { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } الآية .
وقوله : { فول وجهك } تفريع على الوعد وتعجيل به والمعنى فول وجهك في حالة الصلاة وهو مستفاد من قرينة سياق الكلام على المجادلة مع السفهاء في شأن قبلة الصلاة .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر متوجه إليه باعتبار ما فيه من إرضاء رغبته ، وسيعقبه بتشريك الأمة معه في الأمر بقوله : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .
والشَّطْر بفتح الشين وسكون الطاء الجهة والناحية وفسره قتادة بتلقاء ، وكذلك قرأه أبي بن كعب ، وفَسر الجُبَّائي وعبد الجبار الشطر هنا بأنه وسَط الشيء ، لأن الشطر يطلق على نصف الشيء فلما أضيف إلى المسجد والمسجد مكان اقتضى أن نصفه عبارة عن نصف مقداره ومساحته وذلك وسطه ، وجعَلا شطر المسجد الحرام كناية عن الكعبة لأنها واقعة من المسجد الحرام في نصف مساحته من جميع الجوانب ( أي تقريباً ) قال عبد الجبار ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان أحدهما أن المصلى لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولا يكون متوجهاً إلى الكعبة لا تصح صلاته ، الثاني لو لم نفسر الشطر بما ذكرنا لم يبق لذكر الشطر فائدة إذ يغني أن يقول : { فول وجهك المسجد الحرام } ولكان الواجب التوجه إلى المسجد الحرام لا إلى خصوص الكعبة .
فإن قلت ما فائدة قوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } قبل قوله : { فول وجهك } وهلا قال : في السماء فول وجهك إلخ ، قلت فائدته إظهار الاهتمام برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها بحيث يعتنى بها كما دل عليه وصف القبلة بجملة { ترضاها } .
ومعنى ( نولينك ) نوجهنك ، وفي التوجيه قرب معنوي لأن ولي المتعدي بنفسه إذا لم يكن بمعنى القرب الحقيقي فهو بمعنى الارتباط به ، ومنه الولاء والولي ، والظاهر أن تعديته إلى مفعول ثان من قبيل الحذف والتقدير ولى وجهه إلى كذا ثم يَعدونه إلى مفعول ثالث بحرف عن فيقولون ولَّى عن كذا وينزلونه منزلة اللازم بالنسبة للمفعولين الآخرين فيقدرون ولى وجهه إلى جهة كذا منصرفاً عن كذا أي الذي كان يليه من قبل ، وباختلاف هاته الاستعمالات تختلف المعاني كما تقدم .
فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلى وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول كما تقدم .
والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفاً للمسجد هو الممنوع . أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه . وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع عن الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : { عند بيتك الحرام } [ إبراهيم : 37 ] ، أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى : { أولم نمكن لهم حرماً أمناً } [ القصص : 57 ] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علماً على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية .
والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة ، قال ابن العربي « وَذَكَرَ المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت بما يجاوره أو بما يشتمل عليه » وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب . قال الفخر وهذا قول مالك ، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه .
وانتصب { شطر المسجد } على المفعول الثاني لولِّ وليس منصوباً على الظرفية .
وقوله : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين بعموم ضميري { كنتم } و { وجوهكم } لوقوعهما في سياق عموم الشرط بحيثما وحينما لتعميم أقطار الأرض لئلا يظن أن قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم اقتضى الحال تخصيصه بالخطاب به لأنه تفريع على قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } ليكون تبشيراً له ويعلم أن أمته مثله لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلاّ إذا دل دليل على تخصيص أحدهما ، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصاً به أو أن تجزىء فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد ، ولذلك جيء بالعطف بالواو لكن كان يكفي أن يقول وولوا وجوهكم شطره فزيد عليه ما يدل على تعميم الأمكنة تصريحاً وتأكيداً لدلالة العموم المستفاد من إضافة { شطر } إلى ضمير { المسجد الحرام } لأن شطر نكرة أشبهت الجمع في الدلالة على أفراد كثيرة فكانت إضافتها كإضافة الجموع ، وتأكيداً لدلالة الأمر التشريعي على التكرار تنويهاً بشأن هذا الحكم فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم أولاهما إجمالية والثانية تفصيلية .
وهذه الآيات دليل على وجوب هذا الاستقبال وهو حكمة عظيمة ، ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى وبمقدار استحضار المعبود يقوى الخضوع له فتترتب عليه آثاره الطيبة في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته وذلك ملاك الامتثال والاجتناب . ولهذا جاء في الحديث الصحيح : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ولما تنزه الله تعالى عن أن يحيط به الحس تعين لمحاول استحضار عظمته أن يجعل له مذكراً به من شيء له انتساب خاص إليه ، قال فخر الدين : ( إن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات ، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام ، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية ، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم لا بد من أن يستقبله بوجهه ويبالغ في الثناء عليه بلسانه وفي الخدمة له ، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك ، والقرآنُ والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة ) اهـ .
فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس فاستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك أو بالشبه كالغزال عند المحبين ، وقديماً ما استهترت الشعراء بآثار الأحبة كالأطلال في قوله : * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * وأقوالهم في البرق والريح ، وقال مالك بن الرَّيب :
دَعاني الهَوى من أهل ودي وجيرتي *** بذِي الطَّيِّسَيْنِ فالتفتُّ وَرائيا
والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار ذاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه تعالى . لا جرم أن أولى المخلوقاتِ بأن يجعل وسيلة لاستحضار الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التي كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال مع تجردها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة وتلك هي المساجد التي بناها إبراهيم عليه السلام وجردها من أن يضع فيها شيئاً يوهم أنه المقصود بالعبادة ، ولم يسمها باسم غير الله تعالى فبنى الكعبة أول بيت ، وبنى مسجداً في مكان المسجد الأقصى ، وبنى مساجد أخرى ورد ذكرها في التوراة بعنوان مذابح ، فقد بنت الصابئة وأهل الشرك بعد نوح هيَاكل لتمجيد الأوثان وتهويل شأنها في النفوس فأضافوها إلى أسماء أناس مثل ود وسواع ، أو إلى أسماء الكواكب ، وذكر المسعودي في « مروج الذهب » عدة من الهياكل التي أقيمت في الأمم الماضية لهذا الشأن ومنها هيكل سندوساب ببلاد الهند وهيكل مصلينا في جهة الرقة بناه الصابئة قبل إبراهيم وكان آزر أبو إبراهيم من سدنته ، وقيل إن عاداً بنوا هياكل منها جلق هيكل بلاد الشام .
فإذا استقبل المؤمن بالله شيئاً من البيوت التي أقيمت لمناقضة أهل الشرك وللدلالة على توحيد الله وتمجيده كان من استحضار الخالق بما هو أشدُّ إضافةً إليه ، بيد أن هذه البيوت على كثرتها لا تتفاضل إلاّ بإخلاص النية من إقامتها ، وبكون إقامتها لذلك وبأسبقية بعضها على بعض في هذا الغرض ، وإن شئت جعلت كل هذه المعاني ثلاثةً في معنى واحد وهو الأسبقية لأن السابق منها قد امتاز على اللاَّحق بكونه هو الذي دل مؤسسَ ذلك اللاحق على تأسيسه قال تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } [ التوبة : 108 ] ، وقال في ذكر مسجد الضرار : { لا تقم فيه أبداً } ، أي لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين ، وقال : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } [ آل عمران : 96 ] فجعله هدى للناس لأنه أول بيت فالبيوت التي أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء اهتداه بانُوها بالبيت الأول .
وقد قال بعض العلماء إن الكعبة أول هيكل أقيم للعبادة وفيه نظر سيأتي عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } في سورة آل عمران ، ولا شك أن أول هيكل أقيم لتوحيد الله وتنزيهه وإعلان ذلك وإبطال الإشراك هو الكعبة التي بناها إبراهيم أول من حاج الوثنيين بالأدلة وأول من قاوم الوثنية بقوة يده فجعل الأوثان جذاذاً ، ثم أقام لتخليد ذكر الله وتوحيده ذلك الهيكل العظيم ليعلم كل أحد يأتي أن سبب بنائه إبطال عبادة الأوثان ، وقد مضت على هذا البيت العصور فصارت رؤيته مذكرة بالله تعالى ، ففيه مزية الأولية ، ثم فيه مزية مباشرة إبراهيم عليه السلام بناءه بيده ويد ابنه إسماعيل دون معونة أحد ، فهو لهذا المعنى أعرق في الدلالة على التوحيد وعلى الرسالة معاً وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره .
ثم سَن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى ولتعميمها في الأمم الأخرى ، فلا جرم أن يكون أولى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة وما بنيت بيوت الله مثل المسجد الأقصى إلاّ بعده بقرون طويلة ، فكان هو قبلة المسلمين .
قدمنا آنفاً أن شرط استقبال جهة معينة لم يكن من أحكام الشرائع السالفة وكيف يكون كذلك والمسجد الأقصى بني بعد موسى بما يزيد على أربعمائة سنة وغاية ما كان من استقباله بعد دعوة سليمان أنه استقبال لأجل تحقق قبول الدعاء والصلاة لا لكونه شرطاً ، ثم إن اختيار ذلك الهيكل للاستقبال وإن كان دعوة فهي دعوة نبيء لا تكون إلاّ عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذٍ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء الأقطار بأيديهم .
ويجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين ، فتشريعه الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفاً لصاحبها ولأمته إن كان الاحتمال الأول ، فإن كان الثاني فالأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضاراً لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا .
ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارناً لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي فعلَّته أنه المسجد الذي عظمه أهل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى ، وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب أهل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبيء وللمسلمين من اتبعهم من أهل الكتاب حقاً ومن اتبعهم نفاقاً لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهراً ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجاً على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستبطنيه من الكفر كما أشار له قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول } [ البقرة : 142 ] الآية .
ولعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن أهله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه ، كما قد يكون قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [ البقرة : 114 ] وقوله : { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] إيماء إليه كما قدمناه ، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعة بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم ، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه .
اعتراض بين جملة : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } وجملة { ومن حيث خرجت فول وجهك } [ البقرة : 149 ] الآية . والأظهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وأحبار النصارى كما روى عن السُّدِّي كما يشعر به التعبير عنهم بصلة : { أوتوا الكتاب } دونَ أن يقال وإنَّ أهل الكتاب . ومعنى كونهم يعلمون أنه الحق أن عِلْمهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم حسب البشارة به في كتبهم يتضمن أن ما جاء به حق . والأظهر أيضاً أن المراد بالذين أوتوا الكتاب هم الذين لم يزالوا على الكفر ليظهر موقع قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } فإن الإخبار عنهم بأنهم يعلمون أنه الحق مع تأكيده بمؤكِّدَين ، يقتضي أن ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبال الكعبة أنهم أنكروه لاعتقادهم بطلانه وأن المسلمين يظنونهم معتقدين ذلك ، وليظهر موقع قوله { وما الله بغافل عما يعلمون } الذي هو تهديد بالوعيد .
وقد دل التعريف في قوله : { أنه الحق } على القصر أي يعلمون أن الاستقبال للكعبة هو الحق دون غيره تبعاً للعلم بنسخ شريعتهم بشريعة الإسلام ، وقيل إنهم كانوا يجدون في كتبهم أن قبلتهم ستبطل ولعل هذا مأخوذ من إنذارات أنبيائهم مثل أرميا وأشعيا المنادية بخراب بيت المقدس فإن استقباله يصير استقبال الشيء المعدوم .
وقوله : { وما الله بغافل عما يعملون } قرأه الجمهور بياء الغيبة والضميرُ للذين أوتوا الكتاب أي عن عملهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العملُ ونحوه من المكابرة والعناد والسفه . وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلاّ عدم العلم فلذلك كان وعيداً لهم ووعيدُهم يستلزم في المقام الخطابي وَعْداً للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة ، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يَغفل عن عمل هؤلاء فيجازي كلاً بما يستحق .
وقَرأه ابنُ عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد للمسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة . ويستلزم وعيداً للكافرين على عكس ما تقتضيه القراءة السابقة ؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي لِيأخُذ كلٌّ حظهُ منه وهو اعتراض بين جملة : { وإن الذين أوتوا } وجملة : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } [ البقرة : 145 ] الآية .
وفي قوله : { ليعلمون } وقوله : { عما يعملون } [ البقرة : 96 ] الجناس التام المُحَرَّف على قراءة الجمهور والجناسُ الناقص المضارع على قراءة ابن عامر ومن وافقه .