في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

1

ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي [ ص ] وكان المنافقون يرتابون فيها - كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها - فهنا يتحدى القرآن الجميع . إذ كان الخطاب إلى " الناس " جميعا . يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة :

( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) .

ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال . . يصف الرسول [ ص ] بالعبودية لله : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) . . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة : فهو أولا تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى ؛ دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك . وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية ، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده ، واطراح الأنداد كلها من دونه . فها هو ذا النبي في مقام الوحي - وهو أعلى مقام - يدعى بالعبودية لله ، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام .

أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة . . فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم ، فإن كانوا يرتابون في تنزيله ، فدونهم فليأتوا بسورة من مثله ؛ وليدعوا من يشهد لهم بهذا - من دون الله - فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

قال أبو جعفر : وهذا من الله عزّ وجلّ احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وإياهم يخاطب بهذه الاَيات ، وضُرباءَهم يعني بها ، قال الله جل ثناؤه : وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شكّ وهو الريب مما نزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي ، وأني الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول ، فأتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوّة على صدقه في دعواه النبوّة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق ، ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه وبرهانه على نبوّته ، وأن ما جاء به من عندي ، عَجْزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله . وإذا عجزتم عن ذلك ، وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية ، فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز . كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوّته من الاَيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي . فيتقرّر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوّله ولم يختلقه ، لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقوّلاً لم يعجزوا وجميع خلقه عن الإتيان بمثله ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بشرا مثلكم ، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان ، فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه ، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعني من مثل هذا القرآن حقّا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يقول : بسورة مثل هذا القرآن .

وحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ مثل القرآن .

وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قال : مثله ، مثل القرآن .

فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما ، أن الله جل ذكره قال لمن حاجّه في نبيه صلى الله عليه وسلم من الكفار : فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب ، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم .

وقد قال قوم آخرون : إن معنى قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ : من مثل محمد من البشر ، لأن محمدا بشر مثلكم .

قال أبو جعفر : والتأويل الأوّل الذي قاله مجاهد وقتادة هو التأويل الصحيح لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى : أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ . ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه ، فيجوز أن يقال : فأتوا بسورة مثل محمد .

فإن قال قائل : إنك ذكرت أن الله عنى بقوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ من مثل هذا القرآن ، فهل للقرآن من مثل فيقال : ائتوا بسورة من مثله ؟ قيل : إنه لم يعن به : ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره ، وإنما عنى : ائتوا بسورة من مثله في البيان لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي ، فكلام العرب لا شكّ له مثل في معنى العربية فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين ، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه . وإنما احتجّ الله جل ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتجّ به له عليهم من القرآن ، إذ ظهر القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان ، إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم ، وكلاما نزل بلسانهم ، فقال لهم جل ثناؤه : وإن كنتم في ريب من أنّ ما أنزلت على عبدي من القرآن من عندي ، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية ، إذْ كنتم عربا ، وهو بيان نظير بيانكم ، وكلام شبيه كلامكم . فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن ، فيقدروا أن يقولوا : كلفتنا ما لو أحسنّاه أتينا به ، وإنا لا نقدر على الإتيان به ، لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به ، فليس لك علينا حجة بهذا لأنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنا لسنا بأهله ، ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به . ولكنه جل ثناؤه قال لهم : ائتوا بسورة مثله ، لأن مثله من الألسن ألسنتكم ، وأنتم إن كان محمد اختلقه وافتراه ، إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم أقدر على اختلاقه ووضعه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه فلن تعجزوا وأنتم جميع عما قدر عليه محمد من ذلك وهو وحده ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدا افتراه واختلقه وأنه من عند غيري .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فقال ابن عباس بما :

حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ يعني أعوانكم على ما أنتم عليه ، إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ناس يشهدون .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : قوم يشهدون لكم .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاح ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ قال : ناس يشهدون . قال ابن جريج : شهداءكم عليها إذا أتيتم بها أنها مثله مثل القرآن .

وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : فادْعُوا يعني استنصروا واستعينوا ، كما قال الشاعر :

فَلَمّا الْتَقَتْ فُرْسانُنا وَرِجَالُهُم ْدَعَوْا يا لَكَعْبٍ واعْتَزَيْنا لِعامِرِ

يعني بقوله : دعوا يالكعب : استنصروا كعبا واستعانوا بهم .

وأما الشهداء فإنها جمع شهيد ، كالشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب . والشهيد يسمى به الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه ، وقد يسمى به المشاهد للشيء كما يقال فلان جليس فلان ، يعني به مجالسه ، ونديمه يعني به منادمه ، وكذلك يقال : شهيده يعني به مشاهده . فإذا كانت الشهداء محتملة أن تكون جمع الشهيد الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفت ، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن يكون معناه : واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشهداءَكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم إن كنتم محقين في جحودكم أن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء ، لتمتحنوا أنفسكم وغيركم : هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله ، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا ؟

وأما ما قاله مجاهد وابن جريج في تأويل ذلك فلا وجه له لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافا ثلاثة : أهل إيمان صحيح ، وأهل كفر صحيح ، وأهل نفاق بين ذلك . فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين ، فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شهداء على حقيقة ما كانوا يأتون به لو أتوا باختلاق من الرسالة ، ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من المؤمنين . فأما أهل النفاق والكفر فلا شك أنهم لو دُعوا إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم ، فمن أيّ الفريقين كانت تكون شهداءهم لو ادّعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن ؟ ولكن ذلك كما قال جل ثناؤه : قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنّ على أنْ يأتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية أن مثل القرآن لا يأتي به الجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به وتحدّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة ، فقال تعالى : وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزّلْنَا على عَبْدِنَا فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِين يعني بذلك : إن كنتم في شك في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي ، فأتوا بسورة من مثله ، وليستنصر بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم حتى تعلموا أنكم إذا عجزتم عن ذلك أنه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم ولا من البشر أحد ، ويصح عندكم أنه تنزيلي ووحيي إلى عبدي .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة } لما قرر وحدانيته تعالى وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ، ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي بذت فصاحة كل منطق وإفحامه ، من طولب بمعارضته من مصاقع الخطباء من العرب العرباء مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة ، وتهالكهم على المعازة والمعارة ، وعرف ما يتعرف به إعجازه ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه . وإنما قال : { مما نزلنا } لأن نزوله نجما منجما بحسب الوقائع على ما ترى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم ، كما حكى الله عنهم فقال { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } . فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاما للحجة ، وأضاف العبد إلى نفسه تعالى تنويها بذكره ، وتنبيها على أنه مختص به منقاد لحكمه تعالى ، وقرئ " عبادنا " يريد محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته . والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات ، وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها ، أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السورة التي هي الرتبة ، قال النابغة :

ولرهط حراب وقد سورة *** في المجد ليس غرابها بمطار

لأن السور كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ ، أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة . وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشيء . والحكمة في تقطيع القرآن سورا : إفراد الأنواع ، وتلاحق الأشكال ، وتجاوب النظم ، وتنشيط القارئ وتسهيل الحفظ ، والترغيب فيه . فإنه إذا ختم سورة نفس ذلك عنه ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى بريدا ، والحافظ متى حذفها اعتقد أنه أخذ من القرآن حظا تاما ، وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها ، فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غير ذلك من الفوائد .

{ من مثله } صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا ، و{ من } للتبعيض أو للتبيين . وزائدة عند الأخفش أي بسورة مماثلة للقرآن العظيم في البلاغة وحسن النظم . أو لعبدنا ، و{ من } للابتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله عليه الصلاة والسلام من كونه بشرا أميا لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم . أو صلة { فأتوا } ، والضمير للعبد صلى الله عليه وسلم ، والرد إلى المنزل أوجه لأنه المطابق لقوله تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } ولسائر آيات التحدي ، ولأن الكلام فيه لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم ، ولأن مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جلدتهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أوتي به هذا آخر مثله ، ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } . ولأن رده إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ، ولا يلائمه قوله تعالى .

{ وادعوا شهداءكم من دون الله } فإنه أمر بأن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم . والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر ، أو الإمام . وكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور ، إذ التركيب للحضور إما بالذات أو بالتصور ، ومنه قيل : للمقتول في سبيل الله شهيد لأنه حضر ما كان يرجوه ، أو الملائكة حضروه . ومعنى { دون } أدنى مكان من الشيء ومنه تدوين الكتب ، لأنه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطي أمر إلى آخر ، قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين . قال أمية :

يا نفس مالك دون الله من واق *** . . .

أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره ، و{ من } متعلقة ب{ ادعوا } . والمعنى { وادعوا } للمعارضة من حضركم ، أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى ، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله . أو { وادعوا } من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ، ولا تستشهدوا بالله فإنه من ديدن المبهوت العاجز عن إقامة الحجة . أو ب{ شهدائكم } أي الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء وآلهة ، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة . أو الذين يشهدون لكم بين يدي الله تعالى على زعمكم من قول الأعشى :

تريك القذى من دونها وهي دونه *** . . .

ليعينوكم وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد في معارضة القرآن العزيز غاية التبكيت والتهكم بهم . وقيل : { من دون الله } أي من دون أوليائه ، يعني فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله ، فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده وبان اختلاله .

{ إن كنتم صادقين } أنه من كلام البشر ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله . والصدق : الإخبار المطابق ، وقيل : مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة ، لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم : { إنك لرسول الله } ، لما لم يعتقدوا مطابقته ، ورد بصرف التكذيب إلى قولهم { نشهد } ، لأن الشهادة إخبار عما علمه وهم ما كانوا عالمين به .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

قوله عز وجل :( {[336]} )

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )

الريب الشك ، وهذه الآية تقتضي أن الخطاب( {[337]} ) المتقدم إنما هو لجماعة المشركين الذي تحدوا ، وتقدم تفسير لفظ سورة في صدر هذا التعليق . وقرأ يزيد بن قطيب : «أنزلنا » بألف .

واختلف المتأولون على من يعود الضمير في قوله { مثله } : فقال جمهور العلماء : هو عائد على القرآن ثم اختلفوا . فقال الأكثر : من مثل نظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي يعرفونها ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خُصَّ به القرآن ، وبه وقع الإعجاز على قول حذاق أهل النظر . ( {[338]} )

وقال بعضهم : { من مثله } في غيوبه وصدقه وقدمه ، فالتحدي عند هؤلاء وقع بالقدم( {[339]} ) ، والأول أبين و { من } على هذا القول زائدة ، أو لبيان الجنس ، وعلى القول الأول هي للتعبيض ، أو لبيان الجنس .

وقالت فرقة : الضمير في قوله { من مثله } عائد على محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلفوا .

فقالت طائفة : من أمي صادق مثله .

وقالت طائفة : من ساحر أو كاهن أو شاعر مثله على زعمكم أيها المشركون .

وقالت طائفة : الضمير في { مثله } عائد على الكتب القديمة التوراة والإنجيل والزبور . ( {[340]} )

وقوله تعالى : { وادعوا شهداءكم } معناه دعاء استصراخ ، والشهداء من شهدهم وحضرهم من عون ونصير ، قاله ابن عباس . وقيل عن مجاهد : إن المعنى دعاء استحضار .

والشهداء جمع شاهد ، أي من يشهد لكم أنكم عارضتم ، وهذا قول ضعيف .

وقال الفراء : شهداؤهم يراد بهم آلهتهم .

وقوله تعالى : { إن كنتم صادقين } أي فيما قلتم من الريب . هذا قول بعض المفسرين .

وقال غيره : فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة . ويؤيد هذا القول أنه قد حكى عنهم في آية أخرى : { لو نشاء لقلنا مثل هذا }( {[341]} ) [ الأنفال : 31 ] .


[336]:- [وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله] لما ذكر سبحانه الأدلة على وحدانيته وربوبيته، ورسم الطريق إلى إثباتها، وإقامة الحجة عليها، عطف على ذلك الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وأراهم كيف يتعرفون قضية الوحي أهو من عند الله كما يدعي أم هو من عند نفسه كما يدعون – بإرشادهم إلى معارضته، والإتيان بسورة من مثله. ويعم ذلك كل سورة في القرآن، طويلة كانت أم قصيرة، لأنها نكرة في سياق الشرط فنعم، كما هو مقرر في محله. فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، فكل (سورة) معجزة لا يستطيع البشر معارضتها. قال الإمام الشاففعي رحمه الله: "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم [والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر].
[337]:- أي قوله تعالى: [يأيها الناس اعبدوا ربكم] الآية، وسبق أنها دعوة عامة.
[338]:- وهذا الوجه أعني بلوغ القرآن في الفصاحة والبلاغة إلى حد خرج عن طوق البشر كاف وحده في الإعجاز، وقد انضم إلى ذلك وجوه أخرى، كإخباره عن الأمور الغائبة التي ظهرت كما أخبر – وككونه لا يمله السمع، لحلاوته وإن تكرر- وكجمعه لعلوم لم تكن معهودة لا عند العرب، ولا عند العجم- وكإنبائه عن الوقائع الحالية، وأحوال الأمم الماضية، والحال أن الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، لاستغنائه عن ذلك بالوحي، ومن الوجوه المعجزة كما قاله بعض علماء الشيعة: كونه قاهرا لمن يُقاومه، وغالبا على من يغالبه، ونافذا في إزهاق من يخالفه- وكونه مؤثرا في إيجاد الأمة، وبناء الشريعة، ونفوذ الحكم، وثبوت الكلمة، لما جعل الله فيه من النور والهداية والرحمة- ومن تدبر القرآن، وجد فيه من وجوه الإعجاز، فنونا ظاهرة، وخفية، من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى- كل ذي حجر، وسواه من المعجزات انقضى بانقضاء وقته، فلم يبق منه إلا الخبر.
[339]:- أي: وما ذكر معه.
[340]:- يعني فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تُصدِّق ما فيه.
[341]:- من الآية 31 من سورة الأنفال.