وقرب نهاية الخط يجيء عيسى بن مريم :
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم . .
أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم . فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم .
ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم : ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ) . . وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح - عليه السلام - وروحها السمحة وتطهرها الروحي ، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام ، ممن أحسنوا اتباعه . وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم ، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام ، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق ، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .
كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم : ( ورهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان الله ) . .
والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام ، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وابتعادا عن أوضار الحياة ، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء . ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها ، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع ، وقناعة وعفة ، وذكر وعبادة . . مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله ، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها .
ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة . فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل :
( فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والأشكال ، ولا بالطقوس والمسوح . إنما يأخذهم بالعمل والنية ، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك . وهو الذي يعلم خبايا القلوب وذوات الصدور .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ قَفّيْنَا عَلَىَ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبيّنات على آثار نوح إبراهيم برسلنا ، وأتبعنا بعيسى ابن مريم وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ يعني : الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته رأَفَةً وهو أشدّ الرحمة وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها يقول : أحدثوها ما كَتَبَناها عَلَيْهِمْ يقول : ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم إلاّ ابْتِغاءِ رِضْوَانِ اللّهِ يقول : لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها .
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها ، فقال بعضهم : هم الذين ابتدعوها ، لم يقوموا بها ، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى : فتنصّروا وتهوّدوا .
وقال آخرون : بل هم قوم جاؤوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها ، لأنهم كانوا كفارا ولكنهم قالوا : نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليا ، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها .
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الأحرف إلى الموضع الذي ذكرنا أن أهل التأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوه رأفَةً ورحْمَةً فهاتان من الله ، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم ، ولم تُكتب عليهم ، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله ، فما رعوها حقّ رعايتها ، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء ، واتخذوا الصوامع .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَرهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها قال : لم تُكتب عليهم ، ابتدعوها ابتغاء رضوان الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال فلم ؟ قال : ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعا ، فما رَعوْها حقّ رعايتها . ذكر من قال : الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها . ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم .
حدثنا الحسين بن الحريث ( أبو عمار المَرْوَزِيّ ) قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كانت ملوك بعد عيسى بدّلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل ، فقيل لملكهم : ما نجد شيئا أشدّ علينا من شتم يشتُمناه هؤلاء أنهم يقرأون وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهَ فأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ هؤلاء الاَيات مع ما يعببوننا به في قراءتهم ، فادعهم فليقرأوا كما نقرأ ، وليؤمنوا كما آمنا به ، قال : فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل ، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل ، إلا ما بدّلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك فدعونا قال : فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ، فلا نردّ عليكم ، وقالت طائفة منهم : دعونا نسيح في الأرض ، ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش ، فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي ، ونحتفر الاَبار ، ونحترث البقول ، فلا نردّ عليكم ، ولا نمرّ بكم ، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم قال : ففعلوا ذلك ، فأنزل الله جلّ ثناؤه وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَق رِعايَتِها الاَخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان . ونتخذ دورا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم قال : فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، انحطّ رجل من صومعته ، وجاء سائح من سياحته ، وجاء صاحب الدار من داره ، وآمنوا به وصدّقوه ، فقال الله جلّ ثناؤه يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا الله وآمَنُوا برسوله يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحْمَتِهِ قال : أجرين لإيمانهم بعيسى ، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل ، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به . قال وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُونَ بِهِ القرآن ، واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وأنّ الفَضْلَ بِيَدٍ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا داود بن المحبر ، قال : حدثنا الصعق بن حزن ، قال : حدثنا عقيل الجعديّ ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ ، عن سويد بن غفلة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثٌ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ : فِرْقَةٌ مِنَ الثّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وَقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِموَازَاة المُلُوكِ ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيَسى ابن مَرْيَم صَلَوَاتُ اللّهُ عَلَيْهِ ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ ، وَنَشَرْتهُمْ بالمِناشِير وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُوَنَهُمْ إلى دِينِ اللّه وَدِينِ عِيسَى صَلَواتُ اللّهُ عَلَيْهِ ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجِبالِ ، فَتَرَهّبُوا فِيها » فَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال : «ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله » فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها قال : «ما رعاها الذين من بعدهم حقّ رعايتها » فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال : «وهم الذين آمنوا بي ، وصدّقوني » . قال وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال : «فهم الذين جحدوني وكذّبوني » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها قال الاَخرون ممن تعبد من أهل الشرك ، وفني من فني منهم ، يقولون : نتعبّد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم . ذكر من قال : الذين لم يرعوها حقّ رعايتها : الذين ابتدعوها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلْنا فِي قُلُوب الّذِينَ اتّبَعُوهُ رأفَةً وَرَحْمَةً . . . إلى قوله : حَقّ رِعايِتها يقول : ما أطاعوني فيها ، وتكلّموا فيها بمعصية الله ، وذلك أن الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم ، فلما استخرج أهل الإيمان ، ولم يبق منهم إلا قليل ، وكثر أهل الشرك وذهب الرسل وقهروا ، اعتزلوا في الغيران ، فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم ، وتركوا أمر الله عزّ وجلّ ودينه ، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية ، فلم يرعوها حقّ رعايتها وثبتت طائفة على دين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ، حين جاءهم بالبينات وبعث الله عزّ وجلّ محمدا رسولاً صلى الله عليه وسلم وهم كذلك فذلك قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحْمَتِهِ . إلى وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُواها ما كَتَبْناها عَلَيْهمْ كان الله عزّ وجل كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما استخرج أهل الإيمان ، ولم يبق منهم إلا القليل ، وكثر أهل الشرك ، وانقطعت الرسل ، اعتزلوا الناس ، فصاروا في الغيران ، فلم يزالوا كذلك حتى غيرت طائفة منهم ، فتركوا دين الله وأمره وعهده الذي عهده إليهم ، وأخذوا بالبدع ، فابتدعوا النصرانية واليهودية ، فقال الله عزّ وجلّ لهم : ما رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها وثبتت طائفة منهم على دين عيسى صلوات الله عليه ، حتى بَعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا به .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا بن أبي مريم ، قال : سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول : إن الله كتب عليكم صيام رمضان ، ولم يكتب عليكم قيامه ، وإنما القيام شيء ابتدعتموه ، وإن قوما ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم ، ابتغوا بها رضوان الله ، فلم يرعوها حقّ رعايتها ، فعابهم الله بتركها ، فقال : وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَقّ رِعايتِها .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها ، بعض الطوائف التي ابتدعتها ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال : فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها ، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه : فآتَيْنا الّذِينَ آمَنوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها ، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم ، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها ، فجائز في كلام العرب أن يقال : لم يرعها القوم على العموم . والمراد منهم البعض الحاضر ، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب .
وقوله : فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ يقول تعالى ذكره : فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله ، وإيمانهم به وبرسوله في الاَخرة ، وكثير منهم أهل معاص ، وخروج عن طاعته ، والإيمان به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال : الذين رعوا ذلك الحقّ .
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم أي أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم أو من عاصرهما من الرسل لا للذرية فإن الرسل الملقى بهم من الذرية وآتيناه الإنجيل وقرئ بفتح الهمزة وأمره أهون من أمر البرطيل لأنه أعجمي وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة وقرئ رآفة على فعالة ورحمة ورهبانية ابتدعوها أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها أو رهبانية مبتدعة على أنها من المجعولات وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان ما كتبناها عليهم ما فرضناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله وقيل متصل فإن ما كتبناها عليهم بمعنى ما تعبدناهم بها وهو كما ينفي الإيجاب المقصود منه دفع العقاب ينفي الندب المقصود منه مجرد حصول مرضاة الله وهو يخالف قوله ابتدعوها إلا أن يقال ابتدعوها ثم ندبوا إليها أو ابتدعوها بمعنى استحدثوها وأتوا بها أو لأنهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم فما رعوها أي فما رعوها جميعا حق رعايتها بضم التثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة والكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحوها إليها فآتينا الذين آمنوا أتوا بالإيمان الصحيح ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وحافظوا حقوقها منهم من المتسمين باتباعه أجرهم وكثير منهم فاسقون خارجون عن حال الاتباع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبيّنات على آثار نوح إبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم" وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ "يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته "رأَفَةً" وهو أشدّ الرحمة "وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها" يقول: أحدثوها "ما كَتَبَناها عَلَيْهِمْ" يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم "إلاّ ابْتِغاءِ رِضْوَانِ اللّهِ" يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله "فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها".
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها؛ فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، لم يقوموا بها، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى: فتنصّروا وتهوّدوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاؤوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها، لأنهم كانوا كفارا ولكنهم قالوا: نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليا، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها...
عن قتادة "وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوه رأفَةً ورحْمَةً" فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء، واتخذوا الصوامع...
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا داود بن المحبر، قال: حدثنا الصعق بن حزن، قال: حدثنا عقيل الجعديّ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثٌ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ: فِرْقَةٌ مِنَ الثّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وَقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِموَازَاة المُلُوكِ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيَسى ابن مَرْيَم صَلَوَاتُ اللّهُ عَلَيْهِ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ، وَنَشَرْتهُمْ بالمِناشِير وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُوَنَهُمْ إلى دِينِ اللّه وَدِينِ عِيسَى صَلَواتُ اللّهُ عَلَيْهِ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجِبالِ، فَتَرَهّبُوا فِيها» فَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال: «ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله» فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها قال: «ما رعاها الذين من بعدهم حقّ رعايتها» فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال: «وهم الذين آمنوا بي، وصدّقوني». قال وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: «فهم الذين جحدوني وكذّبوني»...
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال: فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه: "فآتَيْنا الّذِينَ آمَنوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ" إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم. والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وقوله: "فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ" يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله، وإيمانهم به وبرسوله في الاَخرة، وكثير منهم أهل معاص، وخروج عن طاعته والإيمان به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {فما رعوها حق رعايتها} أخبر أنهم ابتدعوا شيئا لم يكتب عليهم، ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته؛ ذمهم لتركهم الرعاية لما ابتدعوه؛ ففيه دلالة أن من افتتح قربة، لم تفرض عليه من صلة أو صوم أو نحو ذلك ثم لم يقم بوفائها وإتمامها لحقه ذم كما لحق هؤلاء.
{أجرهم وكثير منهم فاسقون} أي كافرون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة...
{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.. والرأفة في المشهور: الرحمة، لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم.. أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم. فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم. ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة).. وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح -عليه السلام- وروحها السمحة وتطهرها الروحي، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام، ممن أحسنوا اتباعه. وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق. كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم: (ورهبانية ابتدعوها -ما كتبناها عليهم- إلا ابتغاء رضوان الله).. والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وابتعادا عن أوضار الحياة، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء. ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع، وقناعة وعفة، وذكر وعبادة.. مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها. ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة. فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل: (فما رعوها حق رعايتها. فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم} للتراخي الرتبي لأن بعثه رسل الله الذين جاءوا بعد نوح وإبراهيم ومن سَبق من ذريتهما أعظمُ مما كان لدى ذرية إبراهيم قبل إرسال الرسل الذين قفّى الله بهم...
والآثار: جمع الأثر، وهو ما يتركه السائر من مواقع رجليه في الأرض... {على آثارهم} عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوءة والكتاب، فأما الذين كانت فيهم النبوءة فكثيرون، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل.و (على) للاستعلاء. وأصل (قفى على أثره)...بمعنى بعده بقليل أو متصلاً شأنه بشأن سابقه...
.ومعنى جَعْل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتّبعوه أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها، أو إن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه السلام أرسخَ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى لأنه أمرهم به ويسّره عليهم،ذلك أن عيسى بُعث لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيال طويلة...
{كتبناها} فالمعنى: لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، أي أن يبتغوا رضوان الله بكل عمل لا خصوص الرهبانية التي ابتدعوها، أي أن الله لم يكلفهم بها بعينها.
{إلا ابتغاء رضوان الله} يجوز أن يكون نفياً لتكليف الله بها ولو في عموم ما يشملها، أي ليست مما يشمله الأمر برضوان الله تعالى وهم ظنوا أنهم يرضون الله بها. ويجوز أن يكون نفياً لبعض أحوال كتابة التكاليف عليهم وهي كتابة الأمر بها بعينها فتكون الرهبانية مما يبتغَى به رضوان الله، أي كتبوها على أنفسهم تحقيقاً لما فيه رضوان الله...
{فما رعوها حق رعايتها} وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به. والرعي: الحفظ، أي ما حفظوها حق حفظها... فإذا وقع التقصير في التزامها في بعض الأزمان أو التفريط في بعض الأنواع فقد انتفى حق حفظها. و {حق رعايتها} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي رعايتها الحق. وحق الشيء: هو وقوعه على أكمل أحوال نوعه، وهو منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع.والمعنى: ما حفظوا شؤون الرهبانية حفظاً كاملاً فمصبّ النفي هو القيد بوصف {حق رعايتها}. وهذا الانتفاء له مراتب كثيرة، والكلام مسوق مساق اللوم على تقصيرهم فيما التزموه أو نذروه، وذلك تقهقر عن مراتب الكمال وإنما ينبغي للمتقي أن يكون مزداداً من الكمال...
{وكثير منهم فاسقون}، أي وكثير من الذين التزموا دينه خارجون عن الإِيمان، فالمراد بالفسق ما يشمل الكفر وما دونه مثل الذين بدلوا الكتاب واستخفوا بشرائعه...
... ثم يصف أتباعه {وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً..} الرأفة هي التي تزيل الآلام والشقاء {وَرَحْمَة..} والرحمة أنْ تعطي بالزيادة والإحسان.
{وَرَهْبَانيَّة ابْتَدَعُوها..} الرهبانية هي المبالغة في التعبد، وقد بالغ أتباع عيسى في التعبد، فانقطعوا في الصوامع وحرموا أنفسهم من النساء، وقد وردت الرهبانية في كتاب ألّفوه سنة 1935، هذا الكتاب تكلم عن وادي النطرون وعنوان الكتاب: وادي النطرون ورهبانه، وقالوا: إن الرهبانية وُجدت من بعد عيسى بمائة وخمسين سنة...