ثم لنعد سريعا إلى يوسف في الجب ، لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة :
( وجاءت سيارة ، فأرسلوا واردهم ، فأدلى دلوه قال : يا بشرى . هذا غلام . وأسروه بضاعة ، والله عليم بما يعملون . وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ، وكانوا فيه من الزاهدين )
لقد كان الجب على طريق القوافل ، التي تبحث عن الماء في مظانه ، في الآبار وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة ، ويكون في بعض الأحيان جافا كذلك :
أي قافلة سميت سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة . . .
أي من يرد لهم الماء ويكون خبيرا بمواقعه . .
لينظر الماء أو ليملأ الدلو - ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظا بالمفاجأة القصصية للقاريء والسامع - :
( قال : يا بشرى ! هذا غلام ! ) . .
ومرة أخرى يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل ، وحال يوسف ، وكيف ابتهج للنجاة ، ليتحدث عن مصيره مع القافلة :
أي اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقا . ولما لم يكن رقيقا فقد أسروه ليخفوه عن الأنظار .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 19 ) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وجاءت مارَّةُ الطريق من المسافرين ، { فأرسلوا واردهم } ، وهو الذي يرد المنهل والمنزل ، و " وروده إياه " ، مصيره إليه ، ودخوله . { فأدلى دلوه } ، يقول : أرسل دلوه في البئر .
يقال : " أدليت الدلو في البئر " : إذا أرسلتها فيه ، فإذا استقيت فيها ، قلت : " دلوْتُ أدْلُو دلوًا " .
وفي الكلام محذوف ، استغنى بدلالة ما ذكر عليه ، فترك ، وذلك : : { فأدلى دلوه } ، فتعلق به يُوسف ، فخرج ، فقال المدلي : { يا بشرى هذا غلام } .
وبالذي قلنا في ذلك ، جاءت الأخبار عن أهل التأويل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : { وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه } ، فتعلق يوسف بالحبل ، فخرج ، فلما رآه صاحب الحبل نادَى رجلا من أصحابه ، يقال له : " بُشرى " : { يا بشرى هذا غلامٌ } .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه } ، فتشبث الغلام بالدلو ، فلما خرج قال : { يا بشرى هذا غلام } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فأرسلوا واردهم } ، يقول : أرسلوا رسولهم ، فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام ، { قال يا بشرى هذا غلام } .
واختلفوا في معنى قوله : { يا بشرى هذا غلام } :
فقال بعضهم : ذلك تبشير من المدلي دلوَه أصحابَه ، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبدًا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قال يا بشرى هذا غلام } ، تباشروا به حين أخرجوه . وهي بئر بأرض بيت المقدس معلومٌ مكانها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { يا بشرى هذا غلام } ، قال : بشّرهم واردهم حين وجدَ يوسف .
وقال آخرون : بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه ، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل .
ذكر من قال ذلك : فخرج ، فلما رآه صاحب الحبل نادَى رجلا من أصحابه ، يقال له : " بُشرى " : { يا بشرى هذا غلامٌ } .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه } ، فتشبث الغلام بالدلو ، فلما خرج قال : { يا بشرى هذا غلام } .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( يا بشرى هذا غلام ) قال : بشّرهم واردهم حين وجدَ يوسف .
وقال آخرون : بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه ، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد قال ، جدثنا أسباط ، عن السدي : { يابشرى هذا غلام } ، قال : نادى رجلا من أصحابه ، يقال له : " بشرى " ، فقال : { يا بشرى هذا غلام } .
حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا خلف بن هشام قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس بن الربيع ، عن السدي في قوله : { يابشرى هذا غلام } ، قال : كا اسم صاحبه : " بشرى " .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ، حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي في قوله : { يابشرى هذا غلام } ، قال : اسم الغلام : " بشرى " ، قال : { يابشرى } ، كما تقول : " يا زيد " .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة : { يا بُشْرَيَّ } ، بإثبات ياء اٌضافة ، غير أنه أدغم الألف في الياء طلبا للكسرة التي تلزم ما قبل ياء الإضافة من المتكلم ، في قوله : " غلامي " ، و " جاريتي " ، في كل حال . وذلك من لغة طيء ، كما قال أبو ذؤيب :
سَبَقُوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ *** فَتُخُرِّمُوا ولكل جَنب مَصْرَعُ
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : { يا بُشْرَى } ، بإرسال الياء وترك الإضافة .
وإذا قرئ ذلك كذلك احتمل وجهين من التأويل :
أحدهما ما قاله السدي ، وهو أن يكون اسم رجل دعاه المستقي باسمه ، كما يقال : " يا زيد " ، و " يا عمرو " ، فيكون " بشرى " في موضع رفع بالنداء .
والآخر : أن يكون أرادَ إضافة البشرى إلى نفسه ، فحذف الياء وهو يريدها ، فيكون مفردًا وفيه نيَّة الإضافة ، كما تفعل العرب في النداء فتقول : " يا نفس اصبري " ، و " يا نفسي اصبري " ، و " يا بُنَيُّ لا تفعل " ، و " يا بُنَيِّ لا تفعل " ، فتفرد وترفع ، وفيه نية الإضافة . وتضيف أحيانًا فتكسر ، كما تقول : " يا غلامِ أقبل " ، و " يا غلامي أقبل " .
قال أبو جعفر : وأعجب القراءة في ذلك إليَّ قراءةُ من قرأه بإرسال الياء وتسكينها ؛ لأنه إن كان اسم رجل بعينِه كان معروفًا فيهم ، كما قال السدي ، فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها . وإن كان من التبشير ، فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بيَّنت .
وأما التشديد والإضافة في الياء ، فقراءة شاذة ، لا أرى القراءة بها ، وإن كانت لغة معروفة ؛ لإجماع الحجة من القرأة على خلافها .
وأما قوله : { وأسروه بضاعة } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .
فقال بعضهم : وأسرَّه الوارد المستقي وأصحابُه من التجار الذين كانوا معهم ، وقالوا لهم : " هو بضاعة استبضعناها بعضَ أهل مصر " ؛ لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه بما اشتروه به أن يطلبوا منهم فيه الشركة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وأسروه بضاعة } ، قال : صاحب الدلو ومن معه ، قالوا لأصحابهم : " إنما استبضعناه " ، خيفةَ أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه . وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثق منه لا يأبَقْ ! حتى وَقَفوه بمصر ، فقال : من يبتاعني ويُبَشَّر ؟ فاشتراه الملك ، والملك مُسلم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، غير أنه قال : خيفة أن يستشركوهم إن علموا به ، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثقوا منه لا يأبق ! حتى واقفوه بمصر . وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ،
. . . . قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه ؛ غير أنه قال : خيفة أن يشاركوهم فيه ، إن علموا بثمنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ؛ إلا أنه قال : خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا ثمنه . وقال أيضًا : حتى أوقفوه بمصر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وأسروه بضاعة } ، قال : لما اشتراه الرجلان فَرَقًا من الرفقة أن يقولوا : " اشتريناه " ، فيسألونهم الشركة ، فقالا إن سألونا ما هذا ؟ قلنا بضاعة استبضَعَناه أهل الماء . فذلك قوله : { وأسروه بضاعة } بينهم . وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأسرّه التجار بعضهم من بعض .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : { وأسروه بضاعة } ، قال : أسرّه التجار بعضهم من بعض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : { وأسروه بضاعة } ، قال : أسرّه التجار بعضهم من بعض .
وقال آخرون : معنى ذلك : أسرُّوا بيعَه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { وأسروه بضاعة } ، قال : أسروا بيعه .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن مجاهد : { وأسروه بضاعة } ، قال : قالوا لأهل الماء : إنما هو بضاعة .
وقال آخرون : إنما عني بقوله : { وأسروه بضاعة } ، إخوة يوسف ، أنهم أسرُّوا شأن يوسف أن يكون أخَاهم ، قالوا : هو عبدٌ لنا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وأسروه بضاعة ، يعني : إخوة يوسف أسرُّوا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم ، فكتم يوسف شأنه مخافةَ أن تقتله إخوته ، واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه قال : يا بشرى ! هذا غلامٌ يباع . فباعه إخوته . قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب : قولُ من قال : " وأسرَّ وارد القوم المدلي دلوَه ومن معه من أصحابه ، من رفقته السيارة ، أمرَ يوسف أنهم اشتروه ، خيفةً منهم أن يستشركوهم ، وقالوا لهم : هو بضاعة أبضَعَها معنا أهل الماء ؛ وذلك أنه عقيب الخبر عنه ، فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرًا عنه ، أشبهُ من أن يكون خبرًا عمَّن هو بالخبر عنه غيرُ متَّصِل .
وقوله : { والله عليم بما يعملون } ، يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بما يعمله باعَةُ يوسف ومشتروه في أمره ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه ، وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرتَه فيه .
وهذا ، وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيّه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تذكير من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه ، يقول : فاصبر ، يا محمد ، على ما نالك في الله ، فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون ، كما كنت قادرًا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا ، ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف عليّ ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته ، فكذلك تركي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك عليّ ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم ، ثم يصير أمرُك وأمرهم إلى عُلوّك عليهم ، وإذعانهم لك ، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم ، وعلوِّ يوسف عليهم .
{ وجاءت سيّارةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه . { فأرسلوا واردهم } الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي . { فأدلى دلوهُ } فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه . { قال يا بشرى هذا غلام } نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعال فهذا أوانك . وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه . وقرأ غير الكوفيين " يا بشراي " بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي . وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ { يا بشرى } بالإدغام وهو لغة و " بشراي " بالسكون على قصد الوقف . { وأسرّوه } أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة . وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه ، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه . { بضاعةً } نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة ، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة . { والله عليم بما يعملون } لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم .