كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف . فأمر بالتفتيش . وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه . كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش :
( فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ) !
ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم ، الحالفين ، المتحدين . . فلا يذكر شيئا عن هذا ، بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته . . بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة ، ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه :
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق .
( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . .
فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه ، إنما كان يعاقب السارق على سرقته ، دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم . وهذا هو تدبير الله الدي ألهم يوسف أسبابه . وهو كيد الله له . والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء . وإن كان الشر قد غلب عليه . وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه . وهو سوء - ولو مؤقتا - لأبيه . فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره . وهو من دقائق التعبير .
( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . . ( إلا أن يشاء الله ) . .
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه .
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة :
وإلى ما ناله من علم ، مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى :
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق :
( كذلك كدنا ليوسف . . ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . . . ) . .
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة " الدين " - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا . . إنه يعني : نظام الملك وشرعه . . فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته . إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه . وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم ؛ فطبقها يوسف عليهم عندما وجد صواع الملك في رحل أخيه . . وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها " الدين " . .
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا . سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين !
إنهم يقصرون مدلول " الدين " على الاعتقاد والشعائر . . ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ ويؤدي الشعائر المكتوبة . . . داخلا في " دين الله " مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
الأرض . . بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول " دين الملك " بانه نظام الملك وشريعته . وكذلك " دين الله " فهو نظامه وشريعته . .
إن مدلول " دين الله " قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر . . ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
لقد كان يعني دائما : الدينونة لله وحده ؛ بالتزام ما شرعه ، ورفض ما يشرعه غيره . وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء ؛ وتقرير ربوبيته وحده للناس : أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره . وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين " الله " ومن هم في " دين الملك " أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده ، وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه . أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر ، ويدينون لغير الله في النظام والشرائع !
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة ، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما .
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة " دين الله " وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي " الدين " . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين !
وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين !
إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها . فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها ؟ وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها ؟
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة ، أو يخفف عنهم العذاب فيها ؛ ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها . . ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله ، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل . وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض !
إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم . . إنه ليس دين الله قطعا . فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة . فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في " دين الله " . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في " دين الملك " . ولا جدال في هذا .
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين . لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية . والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به . إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة . . وهذه بديهية . .
وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين الله - ونتلمس لهم المعاذير ، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده ! . .
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول " دين الله " ليدخلوا فيه . . أو يرفضوه . .
هذا خير لنا وللناس أيضا . . خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين ، الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة . . وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملكلا في دين الله - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام ، ومن دين الملك إلى دين الله !
كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ففتّش يوسف أوعيتهم ورحالهم طالبا بذلك صُواع الملك ، فبدأ في تفتيشه بأوعية إخوته من أبيه ، فجعل يفتشها وعاء وعاء قبل وعاء أخيه من أبيه وأمه ، فإنّه أخّر تفتيشه ، ثم فتش آخرها وعاء أخيه ، فاستخرج الصواع من وعاء أخيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَبَدَأَ بأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أخِيهِ ذُكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلاّ استغفر الله تأثما مما قذفهم به ، حتى بقيَ أخوه ، وكان أصغر القوم ، قال : ما أرى هذا أخذ شيئا ، قالوا : بَلى فاسْتبرِه ، أَلاَ وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم . ثم استخرجها من وعاء أخيه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتاد ، قال : فاستخرجها من وعاء أخيه ، قال : كان كلما فتح متاعا استغفر تائبا مما صنع ، حتى بلغ متاع الغلام ، فقال : ما أظنّ هذا أخذ شيئا ، قالوا : بلى ، فاستبره .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : فَبَدأَ بأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وَعاءِ أخِيهِ فلما بقي رَحْلُ الغلام ، قال : ما كان هذا الغلام ليأخذه . قالوا : والله لا يترك حتى تنظر في رحله ، لنذهب وقد طابت نفسك فأدخل يده فاستخرجها من رحله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قال الرسول لهم : ولِمَنْ جاءِ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ قالوا : ما نعلمه فينا ولا معنا . قال : لستم ببارحين حتى أفتش أمتعتكم وأُعْذِر في طلبها منكم . فبدأ بأوعيتهم وعاء وعاء ، يفتشها وينظر ما فيها ، حتى مرّ على وعاء أخيه ففتشه ، فاستخرجها منه ، فأخذ برقبته ، فانصرف به إلى يوسف . يقول الله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ذُكِر لنا أنه كان كلما بَحَث متاع رجل منهم استغفر ربه تأثما ، قد علم أين موضع الذي يطلب . حتى إذا بقي أخوه وعلم أن بغيته فيه ، قال : لا أرى هذا الغلام أخذه ، ولا أبالي أن لا أبحث متاعه قال إخوته : إنه أطيب لنفسك وأنفسنا أن تستبرىء متاعه أيضا . فلما فتح متاعه استخرج بغيته منه قال الله : كذلكَ كِدْنا ليُوسُفَ .
واختلف أهل العربية في الهاء والألف اللتين في قوله : ثُمّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أخِيهِ فقال بعض نحويّي البصرة : هي من ذكر «الصواع » ، قال : وأنّث وقد قال : ولِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ لأنه عنى الصّواع . قال : والصواع مذكر ، ومنهم من يؤنث الصواع ، وعني ههنا السقاية ، وهي مؤنثة . قال : وهما اسمان لواحد مثل الثوب والملحفة مذكر ومؤنث لشيء واحد .
وقال بعض نحويّي الكوفة في قوله : ثُمّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أخِيهِ ذهب إلى تأنيث السرقة ، قال : وإن يكن الصواع في معنى الصاع ، فلعل هذا التأنيث من ذلك . قال : وإن شئت جعلته لتأنيث السقاية . قال : والصواع ذَكر ، والصاع يؤنث ويذكر ، فمن أنثه قال : ثلاث أَصْوُع ، مثل ثلاث أَدْوُر ، ومن ذكره قال : أصواع ، مثل أبواب .
وقال آخر منهم : إنما أُنث الصواع حين أنث لأنه أريدت به السقاية وذُكّر حين ذكر ، لأنه أريد به الصواع . قال : وذلك مثل الخِوَان والمائدة ، وسِنان الرمح وعاليته ، وما أشبه ذلك من الشيء الذي يجتمع فيه اسمان : أحدهما مذكر ، والاَخر مؤنث .
وقوله : كذلك كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : هكذا صنعنا ليوسف حتى يُخَلّص أخاه لأبيه وأمه من إخوته لأبيه ، بإقرار منهم أن له أن يأخذه منهم ويحتبسه في يديه ويحول بينه وبينهم وذلك أنهم قالوا إذ قيل لهم ما جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ : جزاء من سرق الصواع أن من وجد ذلك في رحله فهو مُسْتَرَقّ به ، وذلك كان حكمهم في دينهم . فكاد الله ليوسف كما وصف لنا حتى أخَذ أخاهُ منهم ، فصار عنده بحكمهم وصنع الله له .
وقوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ يقول : ما كان يوسف ليأخذ أخاه في حكم ملك مصر وقضائه وطاعته منهم ، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يُسْترقّ أحد بالسرق ، فلم يكن ليوسف أخذ أخيه في حكم ملك أرضه إلاّ أن يشاء الله بكيده الذي كاده له ، حتى أَسْلَمَ مَنْ وُجد في وعائه الصّواع إخوتُه ورفقاؤه بحكمهم عليه وطابت أنفسهم بالتسليم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ فعلةً كادها الله له ، فاعتلّ بها يوسف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ كادها الله له ، فكانت علة ليوسف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ قال : إلاّ فعلة كادها الله فاعتلّ بها يوسف .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ قال : صنعنا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : صنعنا ليوسف .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : صنعنا ليوسف .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ فقال بعضهم : ما كان ليأخذ أخاه في سلطان الملك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في سلطان الملك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما كان لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في سلْطان الملك .
وقال آخرون : معنى ذلك : في حكمه وقضائه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ يقول : ما كان ذلك في قضاء الملك أن يستعبد رجلاً بسرقة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فِي دِينِ المَلِكِ قال : لم يكن ذلك في دين الملك ، قال : حكمه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح محمد بن ليث المروزي ، عن رجل قد سماه ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي مودود المدينيّ ، قال : سمعت محمد بن كعب القُرَظيّ يقول : قالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ قال : دين الملك لا يؤخذ به من سرق أصلاً ، ولكن الله كاد لأخيه ، حتى تكلموا ما تكلموا به ، فأخذهم بقولهم ، وليس في قضاء الملك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : بلغه في قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلكِ قال : كان حكم الملك أن من سرق ضوعف عليه الغُرم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في حكم الملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ : أي بظلم ، ولكن الله كاد ليوسف ليضمّ إليه أخاه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ قال : ليس في دين الملك أن يؤخذ السارق بسرقته . قال : وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه : أن يؤخذ السارق بسرقته عبدا يُسترقّ .
وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظ قائليها في معنى دين الملك ، فمتقاربة المعاني ، لأن من أخذه في سلطان الملك عامله بعمله ، فيريناه أخذه إذا لم يغيره ، وذلك منه حكم عليه ، وحكمه عليه قضاؤه . وأصل الدّين : الطاعة ، وقد بيّنت ذلك في غير هذا الموضع بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ولكن صَنَعنا له بأنهم قالوا : فَهُوَ جَزَاؤُهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ إلاّ بعلة كادها الله ، فاعتلّ بها يوسف .
وقوله : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : «نَرْفَعُ دَرَجاتِ مَنْ نَشاءُ » بإضافة الدرجات إلى «مَنْ » بمعنى : نرفع منازل من نشاء ، رفع منازله ومراتبه في الدنيا بالعلم على غيره ، كما رفعنا مرتبة يوسف في ذلك ومنزلته في الدنيا على منازل إخوته ومراتبهم . وقرأ ذلك آخرون : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بتنوين «الدرجات » ، بمعنى : نرفع من نشاء مراتب ودرجات في العلم على غيره ، كما رفعنا يوسف . فمَن على هذه القراءة نصب ، وعلى القراءة الأولى خفض . وقد بيّنا ذلك في سورة الأنعام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : نَرْفَعُ دَرَجاتِ مَنْ نَشاءُ يوسف وإخوته أُوتوا علما ، فرفعنا يوسف فوقهم في العلم .
وقوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ يقول تعالى ذكره : وفوق كل عالم مَنْ هو أعلم منه حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى . وإنما عَنَى بذلك أن يوسف أعلم إخوته ، وأن فوق يوسف من هو أعلم من يوسف ، حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر العَقْديّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الأعلى الثعلبيّ ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه حدّث بحديث ، فقال رجل عنده : وَفَوْقَ كُلّ ذِي علْمٍ عَليمٌ فقال ابن عباس : بئسما قلت ، إن الله هو عليم ، وهو فوق كلّ عالم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير ، قال : حدّث ابن عباس بحديث ، فقال رجل عنده : الحمد لله وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فقال ابن عباس : العالم الله ، وهو فوق كلّ عالم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، قال : كنا عند ابن عباس ، فحدّث حديثا ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فقال ابن عباس : بئسما قلت : الله العليم ، وهو فوق كل عالم .
حدثنا الحسن بن محمد وابن وكيع ، قالا : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : أخبرنا أبو الأحوص ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله الخبير العليم فوق كلّ عالم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله فوق كلّ عالم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب ، قال : سأل رجل عليا عن مسئلة ، فقال فيها ، فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا ، قال عليّ : أصبت وأخطأت وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، عن خالد ، عن عكرمة ، في قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : علم الله فوق كلّ أحد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن نصر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله عزّ وجلّ .
حدثنا ابن وكيع ، حدثنا يعلى بن عبيد ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله أعلم من كلّ أحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ابن شبرمة ، عن الحسن ، في قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ قال : ليس عالم إلاّ فوقه عالم حتى ينتهي العلم إلى الله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عاصم ، قال : حدثنا جويرية ، عن بشير الهجيمي ، قال : سمعت الحسن قرأ هذه الآية يوما : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ، ثم وقف فقال : إنه والله ما أمسى على ظهر الأرض عالم إلاّ فوقه من هو أعلم منه ، حتى يعود العلم إلى الذي علمه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ ، عن جرير ، عن ابن شُبْرُمة ، عن الحسن : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : فوق كل عالم عالم ، حتى ينتهي العلم إلى الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بدىء ، وتعلمت العلماء ، وإليه يعود . في قراءة عبد الله : «وَفَوْقَ كُلّ عالِمٍ عَلِيمٌ » .
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف جاز ليوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه ثم يِسَرّق قوما أبرياء من السّرَق ، ويقول أيّتُها العِيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ ؟ قيل : إن قوله : أيّتُها العِيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ إنما هو خبر من الله عن مؤذّن أذّن به ، لا خبر عن يوسف . وجائز أن يكون المؤذّن أذن بذلكَ أنْ فَقَد الصواع ولا يعلم بصنيع يوسف . وجائز أن يكون كان أذن المؤذن بذلك عن أمر يوسف ، واستجاز الأمر بالنداء بذلك لعلمه بهم أنهم قد كانوا سرقوا سرقة في بعض الأحوال ، فأمر المؤذن أن يناديهم بوصفهم بالسّرَق ، ويوسف يعني ذلك السرق لا سرقهم الصواع . وقد قال بعض أهل التأويل : إن ذلك كان خطأ من فعل يوسف ، فعاقبه الله بإجابة القوم إياه : إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ وقد ذكرنا الرواية فيما مضى بذلك .
{ فبدأ بأوعيتهم } فبدأ المؤذن . وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر . { قبل وعاء أخيه } بنيامين نفيا للتهمة . { ثم استخرجها } أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث . { من وعاء أخيه } وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة . { كذلك } مثل ذلك الكيد . { كدنا ليوسف } بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه . { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد . { إلا أن يشاء الله } أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك ، فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه . { نرفع درجات من نشاء } بالعلم كما رفعنا درجته . { وفوق كل ذي علم عليم } أرفع درجة منه ، واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه . والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ، ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص .