( أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ) . .
إن سنة الله لا تتخلف ؛ ومشيئة الله لا تتوقف . فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم ؟
وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك ، بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى ، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة . . ألا إن مصارع الخالين قبلهم ، ووراثتهم لهم ، وسنة الله الجارية . . كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا ؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب ، والاستهتار السادر ، والغفلة المردية ، وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم . عسى ألا يكون فيهم . لو كانوا يسمعون !
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين ؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار . فالفزع الدائم من المجهول ، والقلق الدائم من المستقبل ، وتوقع الدمار في كل لحظة . . قد تشل طاقة البشر وتشتتها ؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض . . إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى ، ومراقبة النفس ، والعظة بتجارب البشر ، ورؤية محركات التاريخ الإنساني ، وإدامة الاتصال بالله ، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة .
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة ، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به ، وإذا هم أخلصوا العبودية له ؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة . فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري . وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة . وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة .
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله . وما كان يركن إلى سواه . وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان ، مطمئناً بذكر الله ، قوياً على الشيطان وعلى هواه ، مصلحاً في الأرض بهدى الله ، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه .
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع ، ومن مكر الله الذي لا يدرك . لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة ، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية ، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان .
والمنهج القرآني - مع ذلك - إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة ، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة ، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم . فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله ، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة . ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله ، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة . وربك أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } . .
يقول : أو لم يبين للذين يستخلفون في الأرض بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها ، فساروا سيرتهم وعملوا أعمالهم ، وعتوا عن أمر ربهم أنْ لَوْ نَشاءُ أصَبْناهُمْ بِذُنُوبهِمْ يقول : إن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم ، فأخذناهم بذنوبهم ، وعجّلنا لهم بأسنا كما عجلناه لمن كان قبلهم ممن ورثوا عنه الأرض ، فأهلكناهم بذنوبهم . وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ يقول : ونختم على قلوبهم فهم لا يَسْمَعونَ موعظة ولا تذكيرا سماع منتفع بهما .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوَ لمْ يَهْدِ قال : يبّين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ لَمْ يَهْدِ أو لم يبين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : أو لَمْ يَهْدِ للّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أهْلِها يقول : أو لم يبين لهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أوَ لَمْ يَهْدِ للّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أهْلِها يقول : أو لم يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها هم المشركون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوَ لَمْ يَهْدِ للّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أهْلِها أو لم نبين لهم ، أنْ لَوْ نَشاءُ أصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ قالوا : والهدى : البيان الذي بعث هاديا لهم مبينا لهم ، حتى يعرفوا ، ولولا البيان لم يعرفوا .
{ أوَلم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } أي يخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم ، وإنما عدي يهد باللام لأنه بمعنى يبين . { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ، وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولا . { ونطبع على قلوبهم } عطف على ما دل عليه ، أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ، و لا يجوز عطفه على أصبناهم على أنه بمعنى وطبعنا لأنه في سياقه جواب لولا فضائه إلى نفي الطبع عنهم { فهم لا يسمعون } سماع تفهم واعتبار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.