في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

ثم يكشف عن صفة تحمل معنى العلة لكفر الكافرين بنعمة الله التي يحملها رسوله الكريم :

( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) . . ( ويصدون عن سبيل الله ، ويبغونها عوجا ، أولئك في ضلال بعيد ) . .

فاستحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان ؛ ويتعارض مع الاستقامة على الصراط . وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة ، لأنه عندئذ تصلح الدنيا ، ويصبح المتاع بها معتدلا ، ويراعى فيه وجه الله . فلا يقع التعارض بين استحباب الآخرة ومتاع هذه الحياة .

إن الذين يوجهون قلوبهم للآخرة ، لا يخسرون متاع الحياة الدنيا - كما يقوم في الأخيلة المنحرفة . فصلاح الآخرة في الإسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا . والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض . وحسن الخلافة في الأرض هو استعمارها والتمتع بطيباتها . إنه لا تعطيل للحياة في الإسلام انتظارا للآخرة ، ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله ، وتمهيدا للآخرة . . هذا هو الإسلام .

فأما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الأرض ، ومن الكسب الحرام ، ومن استغلال الناس وغشهم واستعبادهم . . لا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم هذه في نور الإيمان بالله ، وفي ظل الاستقامة على هداه . ومن ثم يصدون عن سبيل الله . يصدون أنفسهم ويصدون الناس ، ويبغونها عوجا لا استقامة فيها ولا عدالة . وحين يفلحون في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله ، وحين يتخلصون من استقامة سبيله وعدالتها ، فعندئذ فقط يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن يغشوا وأن يخدعوا وأن يغروا الناس بالفساد ، فيتم لهم الحصول على ما يبغونه من الاستئثار بخيرات الأرض ، والكسب الحرام ، والمتاع المرذول ، والكبرياء في الأرض ، وتعبيد الناس بلا مقاومة ولا استنكار .

إن منهج الإيمان ضمانة للحياة وضمانة للأحياء من أثرة الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، واستئثارهم بخيرات هذه الحياة .

/خ27

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الاَخِرَةِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلََئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الحَياةَ الدّنْيا على الاَخرَةِ ، الذين يختارون الحياة الدنيا ومتاعهم ومعاصيَ الله فيها على طاعة الله وما يقربهم إلى رضاه من الأعمال النافعة في الاَخرة . وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول : ويمنعون من أراد الإيمان بالله واتباع رسوله على ما جاء به من عند الله من الإيمان به واتباعه . وَيَبْغُونَها عِوَجا يقول : ويلتمسون سبيل الله ، وهي دينه الذي ابتعث به رسوله . عوجا : تحريفا وتبديلاً بالكذب والزور . «والعِوَج » بكسر العين وفتح الواو في الدين والأرض وكلّ ما لم يكن قائما ، فأما في كل ما كان قائما كالحائط والرمح والسنّ فإنه يقال بفتح العين والواو جميعا «عَوَج » يقول الله عزّ ذكره : أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ يعني : هؤلاء الكافرين الذي يستحبون الحياة الدنيا على الاَخرة ، يقول : هم في ذهاب عن الحقّ بعيد ، وأخذ على غير هدى ، وجَوْر عن قصد السبيل .

وقد اختلف أهل العربية في وجه دخول «على » في قوله : على الاَخِرَةِ فكان بعض نحوييّ البصرة يقول : أوصل الفَعَل ب «على » ، كما قيل : ضربوه في السيف ، يريد بالسيف ، وذلك أن هذه الحروف يوصل بها كلها وتحذف ، نحو قول العرب : نزلت زيدا ، ومررت زيدا ، يريدون : مررت به ، ونزلت عليه . وقال بعضهم : إنما أدخل ذلك ، لأن الفعل يؤدّي عن معناه من الأفعال ، ففي قوله : يَسْتَحبّونَ الحَياةَ الدّنيْا على الاَخِرَةِ ولذلك أدخلت «على » . وقد بيّنت هذا ونظائره في غير موضع من الكتاب بما أغنى عن الإعادة .