وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة . . تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب ، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات . . يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة ، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة ، وليكونوا لها أهلا : أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم ؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر ؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة ؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم ، لم تزعزعهم شدة ، ولم ترهبهم قوة ، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة . . استحقوا نصر الله ، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله ، مأمونون على ما ائتمنوا عليه ، صالحون لصيانته والذود عنه . واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل ، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء . فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة ، وارفع ما تكون عن عالم الطين :
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب ) . .
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى ، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ، وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين ، الذين يكل إليهم رايته ، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . . إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله ، والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم : ( متى نصر الله ؟ )ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف ، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب ، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب : ( متى نصر الله ؟ )
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . . عندئذ تتم كلمة الله ، ويجيء النصر من الله :
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ، فهم يتطلعون فحسب إلى ( نصر الله ) ، لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ، مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان ، والصبر والثبات ، والتجرد لله وحده ، والشعور به وحده ، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها ، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة ، والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها ، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون ، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . . وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق : إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }
وأما قوله : أمْ حَسِبْتُمْ كأنه استفهم ب«أم » في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام لمسبوق كلام هو به متصل ، ولو لم يكن قبله كلام يكون به متصلاً ، وكان ابتداء لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام ، لأن قائلاً لو كان قال مبتدئا كلاما لاَخر : أم عندك أخوك ؟ لكان قائلاً ما لا معنى له ولكن لو قال : أنت رجل مدلّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك ؟ كان مصيبا . وقد بينا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته .
فمعنى الكلام : أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة ، ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار ، فتبتلوا بما ابتلوا واختبروا به من البأساء وهو شدّة الحاجة والفاقة والضرّاء ، وهي العلل والأوصاب ولم تزلزلوا زلزالهم ، يعني : ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهد حتى يستبطىء القوم نصر الله إياهم ، فيقولون : متى الله ناصرنا . ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريب ، وأنه معليهم على عدوّهم ، ومظهرهم عليه ، فنجز لهم ما وعدهم ، وأعلى كلمتهم ، وأطفأ نار حرب الذين كفروا .
وهذه الآية فيما يزعم أهل التأويل نزلت يوم الخندق ، حين لقي المؤمنون ما لقوا من شدة الجهد ، من خوف الأحزاب ، وشدة أذى البرد ، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذٍ ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْها » إلى قوله : وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ وَتظُنّونَ باللّهِ الظّنُونا هُنالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَلاً شَدِيدا . ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنةَ وَلمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَستّهُمُ البَأساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا قال : نزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم : ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله وَلمّا يأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسّتْهُمُ البَأساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا قال : نزلت في يوم الأحزاب ، أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاء وحصر ، فكانوا كما قال الله جل وعز : وَبَلغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ .
وأما قوله : وَلمّا يَأتِكُمْ فإن عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى : ولم يأتكم ، ويزعمون أن ما صلة وحشو ، وقد بينت القول في «ما » التي يسميها أهل العربية صلة «ما » ، حكمها في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
وأما معنى قوله : مَثَلُ الّذِين خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فإنه يعني : شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم . وقد دللت في غير هذا الموضع على أن المثل الشبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ وَلَمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتهُمْ البْأسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن عبد الملك بن جريج ، قال قوله : حتّى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِين آمَنُوا قال : هو خيرهم وأعلمهم بالله .
وفي قوله : حتى يَقُولَ الرّسُولُ وجهان من القراءة : الرفع ، والنصب . ومن رفع فإنه يقول : لما كان يحسن في موضعه «فعل » أبطل عمل «حتى » فيها ، لأن «حتى » غير عاملة في «فَعَلَ » ، وإنما تعمل في «يفعل » ، وإذا تقدمها «فعل » وكان الذي بعدها «يفعل » ، وهو مما قد فعل وفرغ منه ، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول ، فالفصيح من كلام العرب حينئذٍ الرفع في «يفعل » وإبطال عمل «حتى » عنه ، وذلك نحو قول القائل : قمت إلى فلان حتى أضربه ، والرفع هو الكلام الصحيح في «أضربه » ، إذا أراد : قمت إليه حتى ضربته ، إذا كان الضرب قد كان وفُرغ منه ، وكان القيام غير متطاول المدة . فأما إذا كان ما قبل «حتى » من الفعل على لفظ «فعل » متطاول المدة ، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقض ، فالصحيح من الكلام نصب «يفعل » وإعمال «حتى » ، وذلك نحو قول القائل : ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك ، وجعل ينظر إليك حتى يثبتك فالصحيح من الكلام الذي لا يصحّ غير النصب ب«حتى » ، كما قال الشاعر :
مَطَوْتُ بِهِمْ حتى تَكِلّ مَطِيّهُمْ *** وحتّى الجِيَادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ
فنصب تكل والفعل الذي بعد حتى ماض ، لأن الذي قبلها من المطو متطاول ، والصحيح من القراءة إذا كان ذلك كذلك : «وزلزلوا حتى يقولَ الرسول » ، نصب يقول ، إذ كانت الزلزلة فعلاً متطاولاً ، مثل المطو بالإبل . وإنما الزلزلة في هذا الموضع : الخوف من العدوّ ، لا زلزلة الأرض ، فلذلك كانت متطاولة وكان النصب في «يقول » وإن كان بمعنى «فعل » أفصح وأصحّ من الرفع فيه .