في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (243)

243

فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص :

( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ؛ فقال لهم الله : موتوا . ثم أحياهم . إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) . .

لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات ، عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت . . من هم ؟ وفي أي أرض كانوا ؟ وفي أي زمان خرجوا ؟ . . . . فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين ، كما يجيء القصصالمحدد في القرآن . إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها ، ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها . وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئا على عبرة القصة ومغزاها . .

إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة ، وأسبابهما الظاهرة ، وحقيقتهما المضمرة ؛ ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة . والاطمئنان إلى قدر الله فيهما . والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع ، فالمقدر كائن ، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف . .

يراد أن يقال : إن الحذر من الموت لا يجدي ؛ وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة ، ولا يمدان أجلا ، ولا يردان قضاء ؛ وإن الله هو واهب الحياة ، وهو آخذ الحياة ؛ وإنه متفضل في الحالتين : حين يهب ، وحين يسترد ؛ والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد . وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك ؛ وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء :

( إن الله لذو فضل على الناس . ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) .

إن تجمع هؤلاء القوم ( وهم ألوف )وخروجهم من ديارهم ( حذر الموت ) . . لا يكون إلا في حالة هلع وجزع ، سواء كان هذا الخروج خوفا من عدو مهاجم ، أو من وباء حائم . . إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئا :

( فقال لهم الله . . موتوا ) . .

كيف قال لهم ؟ كيف ماتوا ؟ هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا ؟ هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا ؟ كل ذلك لم يرد عنه تفصيل ، لأنه ليس موضع العبرة . إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر ، لم تغير مصيرهم ، ولم تدفع عنهم الموت ، ولم ترد عنهم قضاء الله . وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله . .

( ثم أحياهم ) . .

كيف ؟ هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة ؛ هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء ؟ . . ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل . فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل ، لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير . . إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير منهم . في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم .

إن الهلع لا يرد قضاء ؛ وإن الفزع لا يحفظ حياة ؛ وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء . . إذن فلا نامت أعين الجبناء !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (243)

القول في تأويل قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " ألم تر " ، ألم تعلم ، يا محمد ؟ وهو من " رؤية القلب " لا " رؤية العين " ، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر ، و " رؤية القلب " : ما رآه ، وعلمه به . فمعنى ذلك : ألم تعلم يا محمد ، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ؟ ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وهم ألوف " . فقال بعضهم : في العدد ، بمعنى جماع " ألف " . ذكر من قال ذلك :

5596- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي= وحدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع= قال ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، كانوا أربعة آلاف ، خرجوا فرارا من الطاعون ، قالوا : " نأتي أرضا ليس فيها موت " ! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا ، قال لهم الله : " موتوا " . فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم ، فأحياهم ، فتلا هذه الآية : ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) .

5597- حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم الله ، فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم .

5598- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد : أنه سمع وهب بن منبه يقول : أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان ، فشكوا ما أصابهم وقالوا : " يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه " ! فأوحى الله إلى حزقيل : إن قومك صاحوا من البلاء ، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا ، وأي راحة لهم في الموت ؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت ؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا ، فإن فيها أربعة آلاف قال وهب : وهم الذين قال الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فقم فيهم فنادهم ، وكانت عظامهم قد تفرقت ، فرقتها الطير والسباع . فناداهم حزقيل فقال : " يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي " ! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا . ثم نادى ثانية حزقيل فقال : " أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم " ، فاكتست اللحم ، وبعد اللحم جلدا ، فكانت أجسادا . ثم نادى حزقيل الثالثة فقال : " أيتها الأرواح ، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك " ! فقاموا بإذن الله ، وكبروا تكبيرة واحدة .

5599- حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، يقول : عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم ، فذلك قوله : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

5600- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أشعث بن أسلم البصري قال : بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه = وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى= فقال أحدهم لصاحبه ، أهو هو ؟ فلما انفتل عمر قال : أرأيت قول أحدكما لصاحبه : أهو هو ؟ فقالا إنا نجده في كتابنا : " قرنا من حديد ، يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيى الموتى بإذن الله " . فقال عمر : ما نجد في كتاب الله " حزقيل " ولا " أحيى الموتى بإذن الله " ، إلا عيسى . فقالا أما تجد في كتاب الله وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، فقال عمر : بلى ! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك : إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء ، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله ، فبنوا عليهم حائطا ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله ، فبعثهم الله له ، فأنزل الله في ذلك : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، الآية .

5601- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن الحجاج بن أرطأة قال : كانوا أربعة آلاف .

5602- حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، إلى قوله : ( ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) ، قال : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط ، وقع بها الطاعون ، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها ، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون ، فلم يمت منهم كبير . فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا ، لو صنعنا كما صنعوا بقينا ! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم ! فوقع في قابل فهربوا ، وهم بضعة وثلاثون ألفا ، حتى نزلوا ذلك المكان ، وهو واد أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا ! فماتوا ، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم ، مر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه ، فأوحى الله إليه : يا حزقيل ، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم ؟ قال : وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم فقال : نعم ! فقيل له : ناد ! فنادى : " يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تجتمعي ! " ، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض ، حتى كانت أجسادا من عظام ، ثم أوحى الله إليه أن ناد : " يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما " ، فاكتست لحما ودما ، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها . ثم قيل له : ناد ! فنادى : " يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي " ، فقاموا .

5603- حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، قال : فزعم منصور بن المعتمر ، عن مجاهد : أنهم قالوا حين أحيوا : " سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت " ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم .

5604- حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة ، عن عطاء الخراساني : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، قال : كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر .

5605- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف ، حظر عليهم حظائر ، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا ، فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ثم أحياهم ، فأمرهم بالجهاد ، فذلك قوله : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية .

5606- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع ، خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي وهو ابن العجوز ، وإنما سمي " ابن العجوز " أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت ، فوهبه الله لها ، فلذلك قيل له " ابن العجوز " وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " . .

5607- حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون ، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت ، وهم ألوف ، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله : " موتوا " ، فماتوا جميعا . فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، ثم تركوهم فيها ، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا . فمرت بهم الأزمان والدهور ، حتى صاروا عظاما نخرة ، فمر بهم حزقيل بن بوزى ، فوقف عليهم ، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم ، فقيل له : أتحب أن يحييهم الله ؟ فقال : نعم ! فقيل له : نادهم فقل : " أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت ، ليرجع كل عظم إلى صاحبه " . فناداهم بذلك ، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا . ثم قيل له : قل : " أيها اللحم والعصب والجلد ، اكس العظام بإذن ربك " ، قال : فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار ، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح . ثم دعا لهم بالحياة ، فتغشاه من السماء شيء كربه حتى غشي عليه منه ، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون : " سبحان الله ، سبحان الله " قد أحياهم الله .

وقال آخرون : معنى قوله " وهم ألوف " وهم مؤتلفون . ذكر من قال ذلك :

5608- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قول الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " ، قال : قرية كانت نزل بها الطاعون ، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة ، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت ، والتي خرجت لم يصبهم شيء . ثم ارتفع ، ثم نزل العام القابل ، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت . فلما كان العام الثالث ، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم ، فقال الله تعالى ذكره : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، ليست الفرقة أخرجتهم ، كما يخرج للحرب والقتال ، قلوبهم مؤتلفة ، إنما خرجوا فرارا . فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة ، قال لهم الله : " موتوا " ، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة . فماتوا ، ثم أحياهم الله ، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ . قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف ينظر فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ " ، فأماته الله مائة عام .

ذكر الأخبار عمن قال : كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون .

5609- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن الأشعث ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال . خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم قبل آجالهم ، ثم أحياهم إلى آجالهم .

5610- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : فروا من الطاعون ، فقال لهم الله : ( مُوتُوا ) ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم .

5611- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : وقع الطاعون في قريتهم ، فخرج أناس وبقي أناس ، فهلك الذين بقوا في القرية ، وبقي الآخرون . ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية ، فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي . فنجى الله الذين خرجوا ، وهلك الذين بقوا . فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [ وقد أنكروا قريتهم ، ومن تركوا ] . وكثروا بها ، حتى يقول بعضهم لبعض : من أنتم ؟

5612- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : وقع الطاعون في قريتهم ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .

5613- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " الآية ، مقتهم الله على فرارهم من الموت ، فأماتهم الله عقوبة ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم .

5614- حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن هلال بن يساف في قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا " الآية ، قال : هؤلاء القوم من بني إسرائيل ، كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم ، وأقام فقراؤهم وسفلتهم . قال : فاستحر الموت على المقيمين منهم ، ونجا من خرج منهم . فقال الذين خرجوا : لو أقمنا كما أقام هؤلاء ، لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء ، لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد ، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم . فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق . قال : فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد ، فمر بهم نبي فقال : يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك ! قال : أو أحب إليك أن أفعل ؟ قال نعم ! قال : فقل : كذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام ، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه . ثم تكلم بما أمر ، فإذا العظام تكسى لحما . ثم أمر بأمر فتكلم به ، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون . ثم قيل لهم : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

5615- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن حماد بن عثمان ، عن الحسن : أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال : هم قوم فروا من الطاعون ، فأماتهم الله عقوبة ومقتا ، ثم أحياهم لآجالهم .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في تأويل قوله : " وهم ألوف " بالصواب ، قول من قال : " عنى بالألوف كثرة العدد " دون قول من قال : " عنى به الائتلاف " ، بمعنى ائتلاف قلوبهم ، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض ، ولكن فرارا : إما من الجهاد ، وإما من الطاعون لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية ، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين .

وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب ، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف ، دون من حده بأربعة آلاف ، وثلاثة آلاف ، وثمانية آلاف . وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا ، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم : " ألوف " . وإنما يقال " هم آلاف " ، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف . وغير جائز أن يقال : هم خمسة ألوف ، أو عشرة ألوف .

وإنما جمع قليله على " أفعال " ، ولم يجمع على " أفعل " مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله . وشأن العرب في كل حرف كان أوله ، ياء أو واوا أو ألفا ، اختيار جمع قليله على أفعال ، كما جمعوا " الوقت " " أوقاتا " و " اليوم " " أياما " ، و " اليسر " و " أيسارا " ، للواو والياء اللتين في أول ذلك . وقد يجمع ذلك أحيانا على " أفعل " ، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا ، ومنه قول الشاعر :

كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ***ألفين أعجم من بني الفدام

وأما قوله : " حذر الموت " ، فإنه يعني : أنهم خرجوا من حذر الموت ، فرارا منه . كما :

5616- حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " حذر الموت " ، فرارا من عدوهم ، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه . فأمرهم فرجعوا ، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله ، وهم الذين قالوا لنبيهم : ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

قال أبو جعفر : وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية ، على المواظبة على الجهاد في سبيله ، والصبر على قتال أعداء دينه . وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم ، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه ، دون خلقه وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء ، إلى التحصن في الحصون ، والاختباء في المنازل والدور ، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته ، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته ، كما لم ينفع الهاربين من الطاعون ، الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فرارهم من أوطانهم ، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة ، وبالموئل النجاة من المنية ، حتى أتاهم أمر الله ، فتركهم جميعا خمودا صرعى ، وفي الأرض هلكى ، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء ، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء .

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله لذو فضل ومن . على خلقه ، بتبصيره إياهم سبيل الهدى ، وتحذيره لهم طرق الردى ، وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم ، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم ، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم ، عبرة يعتبرون بهم ، وليعلموا أن الأمور كلها بيده ، فيستسلموا لقضائه ، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه .

ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة ، ويمن عليه بمننه الجسيمة ، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره ، ويتخذ إلها من دونه ، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ، ومن الحمد ما يثقله ، فقال تعالى ذكره : " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " ، يقول : لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم ، وفضلي الذي تفضلت به عليهم ، بعبادتهم غيري ، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا .