في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

121

ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة ؛ وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق ؛ متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق ؛ ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد :

( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ؛ وسيجزي الله الشاكرين . وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ؛ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ؛ وسنجزي الشاكرين . وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، والله يحب المحسنين ) . .

إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة ، حدثت في غزوة أحد . ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل ، فركبه المشركون ، وأوقعوا بالمسلمين ، وكسرت رباعية الرسول [ ص ] وشج وجهه ، ونزفت جراحه ؛ وحين اختلطت الأمور ، وتفرق المسلمون ، لا يدري أحدهم مكان الآخر . . حينئذ نادى مناد : إن محمدا قد قتل . . وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين . فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة ، مصعدين في الجبل منهزمين ، تاركين المعركة يائسين . . لولا أن ثبت رسول الله [ ص ] في تلك القلة من الرجال ؛ وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون ، حتى فاءوا إليه ، وثبت الله قلوبهم ، وأنزل عليهم النعاس امنة منه وطمأنينة . . كما سيجيء . .

فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول ، يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ، ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ؛ ويجعلها محورا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة ، وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين :

( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .

إن محمدا ليس إلا رسولا . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ؟

إن محمدا رسول من عند الله ، جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت ، وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !

إن البشر إلى فناء ، والعقيدة إلى بقاء ، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس ، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله [ ص ] وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة . وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم ، وبكل مشاعرهم ، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره [ ص ] . . هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب ، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد [ ص ] والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده ، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .

إن الدعوة أقدم من الداعية :

( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) . .

قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن ، العميقة في منابت التاريخ ، المبتدئة مع البشرية ، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .

وهي أكبر من الداعية ، وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون ، وتبقى هي على الأجيال والقرون ، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول ، الذي أرسل بها الرسل ، وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ، ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت :

ومن ثم هذا الاستنكار ، وهذا التهديد ، وهذا البيان المنير :

( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .

وفي التعبير تصوير حي للارتداد : ( انقلبتم على أعقابكم ) . . ( ومن ينقلب على عقبيه ) . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة ، كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمدا قد قتل ، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين ، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين ، وانتهى أمر الجهاد للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا ، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب ، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم ، وقالوا له : إن محمدا قد مات : " فما تصنعون بالحياة من بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله [ ص ] " .

( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) . .

فإنما هو الخاسر ، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئا . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ، ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق ، وتعوج الأمور كلها ، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة ، وتستقيم في ظله النفوس ، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها ، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .

( وسيجزي الله الشاكرين ) . .

الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج ، فيشكرونها باتباع المنهج ، ويشكرونها بالثناء على الله ، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم ، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة ، وهو أكبر وأبقى . .

وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة ، وبهذه الآية ، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي [ ص ] وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد [ ص ] ولكن جاء فقط ليومىء إليه ، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ، كما أومأ إليه من قبله من الرسل ، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !

وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم ، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد [ ص ] إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !

وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة ، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة ، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة ، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول [ ص ] أو يقتل ، فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون !

وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ، وأن يصلهم به هو ، وبدعوته الباقية ، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .

ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه ، يهدد به من يقول : إن محمدا قد مات !

ولم يثبت إلا أبو بكر ، الموصول القلب بصاحبه ، وبقدر الله فيه ، الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع ، فإذا هم يثوبون ويرجعون !

/خ179

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ }

يعني تعالى ذكره بذلك : وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه داعيا إلى الله وإلى طاعته ، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه يقول . جلّ ثناؤه : فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما الله به صانع من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلى خلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم . ثم قال لأصحاب محمد معاتبهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأُحد : إن محمدا قتل ، ومقبحا إليهم انصراف من انصرف منهم عن عدوّهم وانهزامه عنهم : { أفِئنْ مَاتَ } محمد أيها القوم لانقضاء مدة أجله ، أو قتله عدوّكم ، { انْقَلَبْتُمْ على أعْقَابِكُمْ } يعني ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدا بالدعاء إليه ، ورجعتم عنه كفارا بالله بعد الإيمان به ، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم محمد إليه ، وحقيقة ما جاءكم به من عند ربه . { وَمَنْ يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } يعني بذلك : ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيمانه ، { فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئا } يقول : فلن يوهن ذلك عزّة الله ولا سلطانه ، ولا يدخل بذلك نقص في ملكه ، بل نفسه يضرّ بردته ، وحظّ نفسه ينقص بكفره . { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } يقول : وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه بنبوّته على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل واستقامته على منهاجه ، وتمسكه بدينه وملته بعده . كما :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ في قوله : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } : الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه . فكان عليّ رضي الله عنه يقول : كان أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أحباء الله ، وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن العلاء بن بدر ، قال : إن أبا بكر أمين الشاكرين . وتلا هذه الاَية : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } : أي من أطاعه وعمل بأمره .

وذكر أن هذه الاَية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن انهزم عنه بأُحد من أصحابه . ذكر الأخبار الواردة بذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } إلى قوله : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } ذاكم يوم أُحد حين أصابهم القرح والقتل ، ثم تنازعوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بقية ذلك ، فقال أناس : لو كان نبيا ما قتل . وقال أناس من علية أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم ، حتى يفتح الله لكم ، أو تلحقوا به . فقال الله عزّ وجلّ : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ } يقول : إن مات نبيكم ، أو قتل ، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه ، وزاد فيه : قال الربيع : وذكر لنا والله أعلم أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلّغ ، فقاتلوا عن دينكم ! فأنزل الله عز وجل : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ ؟ } يقول : ارتددتم كفارا بعد إيمانكم .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد إليهم يعني إلى المشركين أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجه خيل المشركين ، وقال : «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ ، فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِينَ ما ثَبَتّمْ مَكانَكُمْ » وأمّر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير . ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين ، فهزماهم ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فهزموا أبا سفيان¹ فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين قدم ، فرمته الرماة فانقمع . فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهونه ، بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر¹ فلما رأى خالد قلة الرماح ، صاح في خيله ، ثم حمل فقتل الرماة ، وحمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل ، تبادروا فشدّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم ، فأتى ابن قميئة الحارثي أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة ، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته ، وشجّه في وجهه فأثقله ، وتفرّق عنه أصحابه ، ودخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة ، فقاموا عليها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : «إليّ عبادَ اللّهِ ! إليّ عِبادَ اللّهِ ! » فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً ، فجعلوا يسيرون بين يديه ، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف ، فحماه طلحة ، فُرمي بسهم في يده فيبست يده ، وأقبل أبيّ بن خلف الجمحيّ وقد حلف ليقتلنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «بَلْ أنا أقْتُلُكَ » فقال : يا كَذّاب أين تفرّ ؟ فحمل عليه فطعنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنب الدرع ، فجرح جرحا خفيفا ، فوقع يخور خوران الثور ، فاحتملوه وقالوا : ليس بك جراحة ، قال : أليس قال : لأقتلنك ؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم . ولم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح . وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبيّ ، فنأخذ لنا أمنة من أبي سفيان ! يا قوم إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ! قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإنّ ربّ محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم ! اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء . ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل . وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة¹ فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال : «أنا رَسُولُ الله » ، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابه الذين قتلوا ، فقال الله عزّ وجلّ للذين قالوا : إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئا وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } قال : يرتد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه¹ وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه : أن رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاريّ : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عبد النجار ، قال : انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قد قتل محمد رسول الله . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ! واستقبل القوم فقاتل حتى قتل . وبه سمي أنس بن مالك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبوزهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : ألا إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى دينكم الأوّل ! فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } . . . الاَية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ألقي في أفواه المسلمين يوم أُحد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ، فنزلت هذه الاَية : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } . . . الاَية .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة ، والناس يفرّون ، ورجل قائم على الطريق يسألهم : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وجعل كلما مرّوا عليه يسألهم ، فيقولون : والله ما ندري ما فعل ! فقال : والذي نفسي بيده لئن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل لنعطينهم بأيدينا ، إنهم لعشائرنا وإخواننا ! وقالوا : إن محمدا إن كان حيا لم يهزم ، ولكنه قد قتل ، فترخصوا في الفرار حينئذ ، فأنزل الله عزّ وجلّ على نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } . . . الاَية .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } . . . الاَية : ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق ، قالوا يوم فرّ الناس عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وشجّ فوق حاجبه ، وكسرت رباعيته : قتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأوّل ! فذلك قوله : { أفَئِنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ } .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أفَئِنْ مات أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ } ؟ قال : ما بينكم وبين أن تدعو الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم ، إلا أن يموت محمد أو يقتل ، فسوق يكون أحد هذين ، فسوف يموت أو يقتل .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } إلى قوله : { وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين } : أي لقول الناس قتل محمد ، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوّهم ، أي أفَئِنْ مات نبيكم أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم ، وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله ، وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم¹ وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم ؟ { ومَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } : أي يرجع عن دينه ، { فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئا } : أي لن ينقص ذلك من عزّ الله ولا ملكه ولا سلطانه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال : أهل المرض والارتياب والنفاق ، حين فرّ الناس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : قد قتل محمد ، فألحقوا بدينكم الأول ! فنزلت هذه الاَية .

ومعنى الكلام : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا ! فجعل الاستفهام في حرف الجزاء ، ومعناه أن يكون في جوابه ( خبر ) وكذلك كل استفهام دخل على جزاء ، فمعناه أن يكون في جوابه ( خبر ) لأن الجواب خبر يقوم بنفسه والجزاء شرط لذلك الخبر ثم يجزم جوابه وهو كذلك ، ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء ، كما قال الشاعر :

حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدلِجِ اللّيلَ لا يَزلْ *** أمامَك بَيْتٌ مِنْ بَيُوِتيَ سائِرُ

فمعنى «لا يزل » رفع ، ولكنه جزم لمجيئه بعد الجزاء فصار كالجواب . ومثله : { أفَئِنْ مُتّ فَهُمُ الخالدونَ } و{ فَكيفَ تتقونَ إنْ كفرتم } ولو كان مكان فهم الخالدون يخلدون¹ وقيل : أفَئِنْ متّ يخلدوا جاز الرفع فيه والجزم ، وكذلك لو كان مكان «انقلبتم » «تنقلبوا » جاز الرفع والجزم لما وصفت قبل . وتركت إعادة الاستفهام ثانية مع قوله : «انقلبتم » اكتفاء بالاستفهام في أول الكلام ، وأن الاستفهام في أوله دالّ على موضعه ومكانه . وقد كان بعض القراء يختار في قوله : { أئِذا مِتْنَا وكُنّا تُرابا وعظاما أئِنّا لَمْبعُوثُون } ترك إعادة الاستفهام مع «أئنا » ، اكتفاء بالاستفهام في قوله : { أئِذَا مِتْنَا وكُنّا تُرابا } ، ويستشهد على صحة وجه ذلك باجتماع القراء على تركهم إعادة الاستفهام مع قوله : «انقلبتم » ، اكتفاء بالاستفهام في قوله : { أفَئِنْ مات } إذا كان دالاّ على معنى الكلام وموضع الاستفهام منه ، وكان يفعل مثل ذلك في جميع القرآن ، وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه .