{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }
أي : ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء ، المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة ، وقد علموا به ، وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع{[93]} بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب ، استنصروا بهذا النبي ، وتوعدوهم بخروجه ، وأنهم يقاتلون المشركين معه ، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا ، كفروا به ، بغيا وحسدا ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فلعنهم الله ، وغضب عليهم غضبا بعد غضب ، لكثرة كفرهم وتوالى شكهم وشركهم .
معطوف على قوله : { وقالوا قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضاً مجرداً عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقاً لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين . فقوله : { من عند الله } متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمراً مشاهداً معلوماً حتى يوصف به . وقوله : { مصدق لما معهم } وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى : { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم } [ البقرة : 41 ] .
والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } [ الأنفال : 19 ] وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة . وجوز أن يكون { يستفتحون } بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارىء أي علمه الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولاً سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين . وقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا } أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول . ووقع التعبير بما الموصولة دون مَن لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل .
والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسداً قال تعالى : { حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } [ البقرة : 109 ] ويصير معنى الآية : « ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم » وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين .
وجملة : { وكانوا من قبل يستفتحون } في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان .
وقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا } بالفاء عطف على جملة { كانوا يستفتحون } . و { لما } الثانية تتنازع مع { لما } الأولى الجواب وهو قوله : { كفروا به } فكان موقع جملة { وكانوا } إلخ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقاً موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه « مصدقاً لما معهم » وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة { لما جاءهم كتاب من عند الله } إلخ وجملة { لما جاءهم ما عرفوا } إلخ واحد وإعادة { لما } في الجملة الثانية دون أن يقول : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع ، وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحداً طريقة عربية فصحى ، قال تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } [ آل عمران : 188 ] وقال : { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون } [ المؤمنون : 35 ] فأعاد ( أنكم ) قبل خبر الأولى وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة المبرد وطريقة الفراء المذكورات في { حاشية الخفاجي وعبد الحكيم } وصغناه من محاسن تلك الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر .
وقوله : { فلعنة الله على الكافرين } جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوباً بالأدعية وهذا كقوله : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم } [ المائدة : 64 ] وقوله : { قاتلهم الله أنى يؤفكون } [ التوبة : 30 ] وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : { عليهم دائرة السوء } في سورة براءة ( 98 ) .
والفاء للسببية والمراد التسبب الذكري بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم :
وكنت امرءاً لا أسمع الدهر سبـة *** أسب بها إلا كشفت غطاءها
فإني في الحرب الضروس موكل *** بإقدام نفس ما أريد بقاءهـا
فعطف قوله : ( فإني ) على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام .
واللام في { الكافرين } للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم بل هم أول أفراده سبقاً للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم . وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداءً بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بَشَامَةُ بن حَزن النهشلي :
إنَّا محيوك يا سَلْمى فحيينا *** وإن سَقَيْتِ كرام الناس فاسقِينا
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما جاءهم كتاب من عند الله}، يعني قرآن محمد صلى الله عليه وسلم، {مصدق لما معهم} في التوراة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وقرآنه في التوراة، نزلت في اليهود... {وكانوا من قبل} أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا {يستفتحون على الذين كفروا}... {فلما جاءهم} محمد {ما عرفوا} أي بما عرفوا من أمره في التوراة. {كفروا به فلعنة الله على الكافرين} يعني اليهود...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّق لِمَا مَعَهُمْ}: ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم،} كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ {يعني بالكتاب: القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.} مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ {يعني مصدّق للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله من قبل القرآن...من التوراة والإنجيل.
{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا}: وكان هؤلاء اليهود الذين لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم من الكتب التي أنزلها الله قبل الفرقان، كفروا به يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعنى الاستفتاح: الاستنصار يستنصرون الله به على مشركي العرب من قبل مبعثه أي من قبل أن يبعث... عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قالوا: فينا والله وفيهم يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة، يعني: {وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا} قالوا: كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية، ونحن أهل الشرك، وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبيّا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قَتْلَ عادٍ وإرَم فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه كفروا به. يقول الله:"فَلَمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ"... عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شِرْك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: {وَلَمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ على الكافِرِينَ}...
فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيّا خارج.
فإن قال لنا قائل: فأين جواب قوله: {وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدق لِمَا مَعَهُمْ}؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في جوابه، فقال بعضهم: هو مما تُرك جوابه استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن. وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام، فتأتي بأشياء لها أجوبة فتحذف أجوبتها لاستغناء سامعيها بمعرفتهم بمعناها عن ذكر الأجوبة، كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ أَنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوّ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَمِعيا فترك جوابه. والمعنى:
{ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسُيّرت بهذا القرآن} استغناءً بعلم السامعين بمعناه. قالوا: فكذلك قوله: "وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ".
وقال آخرون: جواب قوله:} وَلَمّا جاءَهُمْ كِتاب مِنْ عِنْدِ اللّهِ {في «الفاء» التي في قوله: {فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وجواب الجزاءين في «كفروا به» كقولك: لما قمت فلما جئتنا أحسنت، بمعنى: لما جئتنا إذْ قمتَ أحسنتَ.
} فَلَعنَةُ اللّهِ على الكافِرِينَ {: فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحقّ عليهم لله ولأنبيائه المنكرين، لما قد ثبت عندهم صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ففي إخبار الله عزّ وجل عن اليهود بما أخبر الله عنهم بقوله: {فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد قيام الحجة بنبوّته عليهم وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} فلولا أنهم عرفوا أن هذا الكتاب هو موافق لما معهم من الكتاب غير مخالف له، لأظهروا الخلاف لو عرفوا ذلك، ولتكلفوا إطفاء هذا النور ودفعه. فدل سكوتهم عن ذلك وترك اشتغالهم بذلك أنهم عرفوا موافقته لما معهم من التوراة؛ ففيه آية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم...
فلما لم يجئهم على هواهم ومرادهم كفروا به {فلعنة الله على الكافرين}.
{مصدق لما معهم} لا شبهة في أن القرآن مصدق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة واللائق بذلك هو كونه موافقا لما معهم في دلالة نبوته إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلة القرآن، لأن جميع كتب الله كذلك ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة وما يدل عليها من العلامات والنعوت والصفات.
[و] يحتمل أن يقال: {كفروا به} لوجوه.
(أحدها): أنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل وكانوا يرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه، فلما بعث الله تعالى محمدا من العرب من نسل إسماعيل صلوات الله عليه، عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب وخالفوا طريقهم الأول.
(وثانيها): اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم وأموالهم فأبوا وأصروا على الإنكار.
(وثالثها): لعلهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصة فلا جرم كفروا به. أنه تعالى كفرهم بعدما بين كونهم عالمين بنبوته، وهذا يدل على أن الكفر ليس هو الجهل بالله تعالى فقط.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
والاستفتاح: الاستنصار. استفتحت: استنصرت. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معطوف على قوله: {وقالوا قلوبنا غلف} [البقرة: 88] لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضاً مجرداً عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقاً لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين.
فقوله: {من عند الله} متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمراً مشاهداً معلوماً حتى يوصف به. وقوله: {مصدق لما معهم} وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر...
وقوله: {فلما جاءهم ما عرفوا} أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول.
ووقع التعبير بما الموصولة دون مَن لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل...
والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم...
وجملة: {وكانوا من قبل يستفتحون} في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان...
وجملة {لما جاءهم ما عرفوا} إلخ واحد وإعادة {لما} في الجملة الثانية دون أن يقول: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع، وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحداً طريقة عربية فصحى.
وقوله: {فلعنة الله على الكافرين} جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوباً بالأدعية...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقا لما معهم} أخبر سبحانه وتعالى أنهم جاءهم كتاب، وهو قد جاء مع رسول من بني إسماعيل عليه السلام بهذا الكتاب، فذكر الكتاب، وهو يقتضي أن يكون مع رسول، فأعلم بالكتاب لأن الأمر أنه كتاب يشتمل على المواثيق مثل المواثيق التي أخذت عليهم، ونقضوها، فهو ميثاق جديد للمواثيق التي جاءتهم من قبل، ولم يذكر اسم الرسول؛ لأن الاعتبار لهذا الكتاب الذي وصفه تعالى بوصفين:
أنه من عند الله تعالى، وما يكون من عند الله جدير بأن يتقبلوه بقبول حسن، وأن يأخذوه بمأخذ الطاعة لأوامره ونواهيه.
والوصف الثاني: أنه مصدق لما معهم، فهو مصدق لما جاء في التوراة من وصف للنبي صلى الله عليه وسلم، ومصدق للمواثيق التي أخذت عليهم من ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن يحسنوا إلى الأبوين وذوي القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يقولوا للناس حسنا من القول، ويترتب على ذلك المعاملة الطيبة، وإن هذا النبي الذي جاء معه الكتاب الذي أنزله الله تعالى، وهو مصدق لما معهم من أوامر ونواه ومواثيق أخذت عليهم بقوة، قد كانوا يعلمون بمجيئه ويتوقعونه و [ليس] معنى تصديق الكتاب لما معهم أنه تصديق لما معهم من كتاب كانوا يكتبونه بأيديهم، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، حتى يجيء بعض البهتانيين الكاذبين من دعاة نصرانية بولس، فيقولون إن القرآن صدق ما بأيديهم من محرف التوراة المحرفة والمنحرفة والإنجيل المحرف، إنما صدق القرآن الأوامر الأصلية مما اشتمل المواثيق التي أخذت عليهم بقوة، ولم يصدق الذي حرفوه ولا المنحرف عن الحق والخلق المستقيم...
لقد كان اليهود يعيشون في المدينة.. وكان معهم الأوس والخزرج وعندما تحدث بينهم خصومات كانوا يهددونهم بالرسول القادم... فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به وبما أنزل عليه من القرآن.
واليهود في كفرهم كانوا أحد أسباب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم... لأن الأوس والخزرج عندما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام قالوا هذا النبي الذي يهددنا به اليهود وأسرعوا يبايعونه... فكأن اليهود سخرهم الله لنصرة الإسلام وهم لا يشعرون. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يذهب إلى الناس في الطائف... وينتظر القبائل عند قدومها إلى مكة في موسم الحج ليعرض عليهم الدعوة فيصدونه و يضطهدونه... وعندما شاء الله أن تنتشر دعوة الإسلام جاء الناس إلى مكة ومعهم الأوس والخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذهب هو إليهم، وأعلنوا مبايعته والإيمان برسالته ونشر دعوته.. دون أن يطلب عليه الصلاة والسلام منهم ذلك... ثم دعوه ليعيش بينهم في دار الإيمان... كل هذا تم عندما شاء الله أن ينصر الإسلام بالهجرة إلى المدينة وينصره بمن اتبعوه. { {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا}... أي أنهم قبل أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستفتحون بأنه قد أطل زمن رسول سنؤمن به ونتبعه... فلما جاء الرسول كذبوه وكفروا برسالته.
وقوله تعالى: {على الذين كفروا}.. أي كفار المدينة من الأوس والخزرج الذين لم يكونوا أسلموا بعد...
[و] الحق سبحانه وتعالى يعطينا تمام الصورة في قوله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}. وهكذا نرى أن بني إسرائيل فيهم جحود مركب جاءهم الرسول الذي انتظروه وبشروا به... ولكن أخذهم الكبر رغم أنهم موقنون بمجيء الرسول الجديد وأوصافه موجودة عندهم في التوراة إلا أنهم رفضوا أن يؤمنوا فاستحقوا بذلك لعنة الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا...}
وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة، مهما كان الفرد عاشقاً لهذه الحقيقة وتوّاقاً للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها، بل تستطيع الأهواء أيضاً أن تحوّل هذا الفرد إلى عدوّ لدود لهذه الحقيقة...