إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَمَّا جَآءَهُمۡ كِتَٰبٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ} (89)

{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب } هو القرآن ، وتنكيرُه للتفخيم ووصفُه بقوله عز وجل { مِنْ عِندِ الله } أي كائنٌ من عنده تعالى للتشريف { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة عُبر عنها بذلك لما أن المعيةَ من موجبات الوقوفِ على ما في تضاعيفها المؤدّي إلى العلم بكونه مصدقاً لهما ، وقرئ { مصدّقاً } على أنه حال من كتاب لتخصصه بالوصف { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ } أي من قبل مجيئِه { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } أي وقد كانوا قبل مجيئه يستفتحون به على المشركين ويقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمانِ الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم : قد أظل زمانُ نبيَ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلُكم معه قتلَ عادٍ وإِرَمَ . قال ابن عباس وقتادة والسدي : نزلت في بني قُرَيظةَ والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثِه وقيل : معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويُعرِّفونهم بأن نبياً يُبعث منهم قد قرُب أوانُه والسين للمبالغة كما في استعجب أي يسألون من أنفسهم الفتحَ عليهم أو يسأل بعضُهم بعضاً أن يَفتحَ عليهم . وعلى التقديرين فالجملة حاليةٌ مفيدةٌ لكمال مكابرتِهم وعنادِهم ، وقولُه عز وعلا : { فَلَمَّا جَاءهُمُ } تكريرٌ للأول لطول العهد بتوسط الجملةِ الحاليةِ ، وقولُه تعالى : { مَا عَرَفُواْ } عبارةٌ عما سلف من الكتاب لأن معرفةَ من أنزل عليه هو معرفةٌ له ، والاستفتاحُ به استفتاح به ، وإيرادُ الموصولِ دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمالِ مكابرتِهم ، فإن معرفةَ ما جاءهم من مبادئ الإيمان به ودواعيه لا محالةَ والفاء للدلالة على تعقيب مجيئِه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدةٌ منسيةٌ له وقوله تعالى : { كَفَرُواْ بِهِ } جوابُ ( لمّا ) الأولى كما هو رأيُ المبرِّد أو جوابُهما معاً كما قاله أبو البقاء وقيل : جوابُ الأولى محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فيكونُ قولُه تعالى : وكانوا الخ جملةً معطوفةً على الشرطية عطفَ القصة على القصة والمرادُ { بما عرفوا } النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، كما هو المراد بما ( كانوا يستفتحون به ) فالمعنى ولما جاءهم كتابٌ مصدقٌ لكتابهم كذّبوه وكانوا من قبل مجيئِه يستفتحون بمن أُنزل عليه ذلك الكتابُ فلما جاءهم النبيُّ الذي عرَفوه كفروا به { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } اللامُ للعهد أي عليهم ، ووضعُ المظهرِ موضِعَ المُضْمَرِ للإيذان بأن حلولَ اللعنةِ بسبب كفرِهم كما أن الفاءَ للإيذان بترتبها عليه ، أو للجنس وهم داخلون في الحُكم دخولاً أولياً إذ الكلامُ فيهم ، وأياً ما كان فهو محقِّقٌ لمضمون قوله تعالى : { بَل لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } .