الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَمَّا جَآءَهُمۡ كِتَٰبٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ} (89)

قوله تعالى : { مِّنْ عِندِ اللَّهِ } . . فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه في محلِّ رفع صفةً لكتاب ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي كتابٌ كائنٌ من عندِ الله .

والثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ لابتداءِ غايةِ المجيء قالَه أبو البقاء . وقد ردَّ الشيخ هذا الوجهَ فقال : " لا يُقال إنه يُحْتمل أن يكونَ { مِّنْ عِندِ اللَّهِ } متعلقاً بجاءهم ، فلا يكونُ صفةً ، للفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بما هو معمولٌ لغير أحدهِما " يعني أنه ليس معمولاً للموصوفِ ولا للصفةِ فَلا يُغْتَفَرُ الفصلُ به بينهما .

والجمهورُ على رفع " مُصَدِّقٌ " على أنه صفةٌ ثانيةٌ ، وعلى هذا يُقال : قد وُجِدَ صفتان إحداهُما صريحةٌ والأخرى مؤولةٌ ، وقد قُدِّمَتِ المؤولةُ ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك غيرُ ممتنع وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً . والذي حَسَّنَ تقديمَ غير الصريحة أنَّ الوصفَ بكينونَتِه مِنْ عندِ الله آكدُ ، وأنَّ وصفَه بالتصديقِ ناشىءٌ عن كونه من عندِ الله . وقرأ ابن أبي عبلة " مُصَدِّقاً " نصباً ، وكذلك هو في مصحفِ أُبيّ ، ونصبُه على الحال ، وفي صاحِبها قولان ، أحدُهما أنه " كتاب " . فإنْ قيل : كيفَ جاءت الحالُ مِن النكرة ؟ فالجوابُ أنها قد قَرُبَتْ من المعرفة لتخصيصِها بالصفةِ وهي

{ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } كما تقدَّم . على أنَّ سيبويهِ أجاز مجيئَها منها بلا شرطٍ ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري . والثاني : أنه الضمير الذي تَحَمَّله الجارُّ والمجرورُ لوقوعِه صفةً ، والعاملُ فيها إمَّا : الظرفُ أو ما يتعلَّق به على الخلاف لمشهور ، ولهذا اعترَضَ بعضُهم على سيبويه في قوله :

لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلٌ *** يَلُوح كأنَّه خِلَلُ

إنَّ " موحشاً " حالٌ من " طَلَل " ، وساغَ ذلك لتقدُّمِهِ ، فقال : لا حاجةَ إل ذلك ، إذ يمكنُ أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في قوله : " لميَّةَ " الواقعَ خبراً لطلل ، وللجوابِ ، عن ذلك موضعٌ آخرُ . واللام في { لِّمَا مَعَهُمْ } مقويةٌ لتعدية " مُصَدِّق " لكونِه فَرْعاً ، و " ما " موصولةٌ ، والظرفُ صلتُها .

قوله : { وَكَانُواْ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على " جاءهم " فيكونُ جوابُ " لَمَّا " مرتَّباً على المجيءِ والكونِ . والثاني : أن يكونَ حالاً أي : وقد كانُوا ، فيكونُ جوابُ " لَمَّا " مرتَّباً على المجيءِ بقيدٍ في مفعولِه وهم كونُهم يَسْتَفْتِحون . قال الشيخ : " وظاهرُ كلامِ الزمخشري أن " وكانوا " ليسَتْ معطوفةً على الفعلِ بعد " لَمَّا " ولا حالاً ، لأنه قدَّر جوابَ " لَمَّا " محذوفاً قبل تفسيره " يستفتحون " ، فَدلَّ على أنَّ قوله " وكانوا " جملةٌ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ من قولِه : ولَمَّا ، وهذا هو الثالثُ .

و { مِن قَبْلُ } متعلقٌ بيَسْتَفْتِحون ، والأصل ، من قبلِ ذلك ، فلمَّا قُطِعَ بُنِيَ على الضمِّ .

و " يَسْتَفْتحون " في محلِّ النصبِ على خبر " كان " . واختلف النحويون في جوابِ " لَمَّا " الأولى والثانية . فَذَهَبَ الأخفش والزجاج إلى أنَّ جوابَ الأولى محذوفٌ تقديرُه : ولَمَّا جاءهم كتابٌ كفروا به . وقَدَّره الزمخشري : " كَذَّبوا به واستهانوا بمجيئه " وهو حَسَنٌ . وذهب الفراء إلى أنَّ جوابَها الفاءُ الداخلةُ على لَمَّا ، وهو عندَه نظير { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] قال : " ولا يجوزُ أن تكونَ الفاءُ ناسقةً إذ لا يَصْلُح موضِعَهَا الواوُ " و " كفروا " جوابُ لَمَّا الثانية على القولَيِْن . وقال أبو البقاء : " في جواب لَمَّا الأولى وجهانِ ، أحدُهما : جوابُها " لَمَّا " الثانية وجوابُها . وهذا ضعيفٌ لأنَّ الفاءَ مع " لمَّا " الثانيةِ ، و " لمَّا " لا تُجَابُ بالفاءِ إلا أَنْ يُعْتقدَ زيادةُ الفاءِ على ما يُجيزه الأخفش " قلت : ولو قيل برأي الأخفش في زيادةِ الفاءِ من حيث الجملةُ فإنه لا يمكنُ ههنا لأنَّ " لَمَّا " لا يُجابُ بمثلِها ، لا يُقال : " لَمَّا جاء زيدٌ لَمَّا قَعَد أكرمتُك " على أن يكونَ " لَمَّا قعد " جوابَ " لمَّا جاء " . والله أعلم .

وذهب المبردُ إلى أنَّ " كفروا " جوابُ " لَمَّا " الأولى وكُرِّرت الثانيةُ لطولِ الكلام ، ويُفيد ذلك تقريرَ الذنبِ وتأكيدَه ، وهو حسنٌ ، لولا أنَّ الفاءَ تَمْنع من ذَلك . وقال أبو البقاء بعد أن حَكَى وجهاً أولَ : " والثاني : أنَّ " كفروا " جوابُ الأولى والثانية لأنَّ مقتضاهما واحدٌ . وقيل : الثانيةُ تكريرٌ فلم يُحْتَجْ إلى جواب " قلت : " قولُه : " وقيل الثانية تكريرٌ " هو ما حَكَيْتُ عن المبرد ، وهو في الحقيقة ليس مغايراً للوجه الذي ذَكَره قبله من كون " كفروا " جواباً لهما بل هو هو .

قوله : { فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } جملةٌ من مبتدأ أو خبرٍ مُتَسَبِّبَةٌ عَمَّا تقدَّم . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعل ، وأتى ب " على " تنبيهاً على أنَّ اللعنةَ قد استعْلَتْ عليهم وشَمِلَتْهم . وقال : { عَلَى الْكَافِرِينَ } ولم يقُلْ " عليهم " إقامةً للظاهر مُقامَ المضمرِ لينبِّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفرُ .