تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (111)

حين { تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا } ، كلٌّ يقول : نفسي نفسي ، لا يهمه سوى نفسه ، ففي ذلك اليوم يفتقر العبد إلى حصول مثقال ذرة من الخير .

{ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ } ، من خير وشر ، { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } ، فلا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم ، { فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (111)

يجوز أن يكون هذا استئنافاً وتذييلاً بتقدير : اذْكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ، وقع عقب التحذير والوعيد وعيداً للذين أنذروا ووعداً للذين بُشّروا .

ويجوز أن يكون متّصلاً بقوله : { إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ سورة النحل : 110 ] ، فيكون انتصاب { يوم تأتي كل نفس } على الظرفية { لغفور رحيم } ، أي يغفر لهم ويرحمهم يوم القيامة بحيث لا يجدون أثراً لذنوبهم التي لا يخلو عنها غالب الناس ويجدون رحمة من الله بهم يومئذٍ . فهذا المعنى هو مقتضى الإتيان بهذا الظرف .

والمجادلة : دفاع بالقول للتخلّص من تبعة فِعل . وتقدم عند قوله تعالى : { ولا تجادِل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) .

والنّفس الأول : بمعنى الذات والشخصِ كقوله : { أنّ النفس بالنفس } سورة المائدة ( 45 ) . والنّفس الثانية ما به الشخص شخص ؛ فالاختلاف بينهما بالاعتبار كقول أعرابي قَتل أخُوه ابناً له ( من الحماسة ) :

أقول للنفس تَأسَاءً وَتسلية *** إحدى يديّ أصابتني ولم تُرِد

وتقدم في قوله : { وتنسون أنفسكم } في سورة البقرة ( 44 ) .

وذلك أن العرب يستشعرون للإنسان جملة مركّبة من جَسد وروح فيسمونها النفس ، أي الذات وهي ما يعبّر عنه المتكلّمُ بضمير ( أنا ) ، ويستشعرون للإنسان قوّة باطنيّة بها إدراكه ويسمّونها نفساً أيضاً . ومنه أخذ علماء المنطق اسمَ النفس الناطقة .

والمعنى : يأتي كل أحد يدافع عن ذاته ، أي يدافع بأقواله ليدفع تبعات أعماله . ففاعلُ المجادلة وما هو في قوّة مفعوله شيءٌ واحد . وهذا قريب من وقوع الفاعل والمفعول شيئاً واحداً في أفعال الظنّ والدّعاء ، بكثرة مثل : أراني فاعلاً كذا ، وقولهم ؛ عَدِمْتُني وَفقَدْتُني ، وبقلّة في غير ذلك مع الأفعال نحو قول امرىء القيس :

قد بتّ أحرُسُني وحْدي ويمنعني *** صوت السّباع به يضبَحْن والهام

{ وتُوفّى } تعطَى شيئاً وافياً ، أي كاملاً غير منقوص ، و { ما عملت } مفعول ثاننٍ ل { توفّى } ، وهو على حذف مضاف تقديره : جزاء ما عملت ، أي من ثواب أو عقاب ، وإظهار كل نفس في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلّة فتجري مجرى المَثل .

والظّلم : الاعتداء على الحقّ . وأطلق هنا على مجاوزة الحدّ المعيّن للجزاء في الشر والإجحاف عنه في الخير ، لأن الله لما عيّن الجزاء على الشرّ ووعد بالجزاء على الخير صار ذلك كالحقّ لكل فريق . والعلمُ بمراتب هذا التحديد مفوّض لله تعالى : { ولا يظلم ربّك أحداً } [ سورة الكهف : 49 ] .

وضميرا { وهم لا يظلمون } عائدان إلى كل نفس بحسب المعنى ، لأن { كل نفس } يدلّ على جمع من النفوس .

وزيادة هذه الجملة للتصريح بمفهوم { وتوفى كل نفس ما عملت } ، لأن توفية الجزاء على العمل تستلزم كون تلك التوفية عدلاً ، فصرّح بهذا اللازم بطريقة نفي ضدّه وهو نفي الظلم عنهم ، وللتّنبيه على أن العدل من صفات الله تعالى . وحصل مع ذلك تأكيد المعنى الأول .