{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ } على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام . { فِيهَا هُدًى } يهدي إلى الإيمان والحق ، ويعصم من الضلالة { وَنُورٌ } يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك ، والشبهات والشهوات ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } { يَحْكُمُ بِهَا } بين الذين هادوا ، أي : اليهود في القضايا والفتاوى { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } لله وانقادوا لأوامره ، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم ، وهم صفوة الله من العباد . فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها ، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء بها ؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن ، إلا بتلك العقيدة ؟ هل لهم إمام في ذلك ؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف ، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس ، والتأكل بكتمان الحق ، وإظهار الباطل ، أولئك أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار .
وقوله : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } أي : وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادواأئمة الدين من الربانيين ، أي : العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية ، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين .
والأحبار أي : العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم ، وترمق آثارهم ، ولهم لسان الصدق بين أممهم .
وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } أي : بسبب أن الله استحفظهم على كتابه ، وجعلهم أمناء عليه ، وهو أمانة عندهم ، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان ، وتعليمه لمن لا يعلمه .
وهم شهداء عليه ، بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه ، وفيما اشتبه على الناس منه ، فالله تعالى قد حمل أهل العلم ، ما لم يحمله الجهال ، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا .
وأن لا يقتدوا بالجهال ، بالإخلاد إلى البطالة والكسل ، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة ، من أنواع الذكر ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، ونحو ذلك من الأمور ، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا .
وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم ، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم ، ولهذا قال : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } فتكتمون الحق ، وتظهرون الباطل ، لأجل متاع الدنيا القليل ، وهذه الآفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته ، بأن يكون همه الاجتهاد في العلم والتعليم ، ويعلم أن الله قد استحفظه ما{[266]} أودعه من العلم واستشهده عليه ، وأن يكون خائفا من ربه ، ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم من القيام بما هو لازم له ، وأن لا يؤثر الدنيا على الدين .
كما أن علامة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة ، غير قائم بما أمر به ، ولا مبال بما استحفظ عليه ، قد أهمله وأضاعه ، قد باع الدين بالدنيا ، قد ارتشى في أحكامه ، وأخذ المال على فتاويه ، ولم يعلم عباد الله إلا بأجرة وجعالة .
فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة ، كفرها ودفع حظا جسيما ، محروما منه غيره ، فنسألك اللهم علما نافعا ، وعملا متقبلا ، وأن ترزقنا العفو والعافية من كل بلاء يا كريم .
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } من الحق المبين ، وحكم بالباطل الذي يعلمه ، لغرض من أغراضه الفاسدة { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه . وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد .
لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها . ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله ، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيءٍ من لدن عظيم ، والعظيم يتخيّل عَالياً ، كما تقدّم غير مرّة .
والنّور استعارة للبيان والحقّ ، ولذلك عطف على الهُدى ، فأحكامها هادية وواضحة ، والظرفية . حقيقية ، والهدى والنّور دلائلهما . ولك أن تجعل النّور هنا مستعاراً للإيمان والحكمة ، كقوله : { يخرجهم من الظلمات إلى النّور } [ البقرة : 132 ] ، فيكون بينَه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق ، فالنّور أعمّ ، والعطفُ لأجل تلك المغايرة بالعموم .
والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل ، موسى والأنبياءُ الّذين جاءوا من بعده . فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء ، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام ، وهي الحنيفية الحقّ ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة ، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط ، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء . ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله : { فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] كما تقدّم هنالك . وقد قال يوسف عليه السّلام في دعائه : { توفَّنِي مُسلماً وألْحقني بالصّالحين } [ يوسف : 101 ] . والمقصود من الوصف بقوله : { الّذين أسلموا } على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء . ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيماً له .
واللام في قوله : { للّذين هادوا } للأجل وليست لتعدية فعل { يحكم } إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم . والّذين هادوا هم اليهود ، وهو اسم يرادف معنى الإسرائليين ، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم ، فغلب عليهم من بعد ، كما قدّمناه عند قوله تعالى : { إنُّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصابئين } الآية في سورة البقرة ( 62 ) .
والرّبّانيون جمع ربّاني ، وهو العالم المنسوب إلى الربّ ، أي إلى الله تعالى . فعلى هذا يكون الربّاني نَسباً للربّ على غير قياس ، كما قالوا : شعراني لكثير الشعَر ، ولحياني لعظيم اللّحية . وقيل : الربّاني العالم المُربي ، وهوَ الّذي يبتدىء النّاس بصغار العلم قبل كباره . ووقع هذا التّفسير في صحيح البخاري . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولكن كونوا رَبَّانيّين } في سورة آل عمران ( 79 ) .
والأحبار جمع حَبْر ، وهو العالم في الملّة الإسرائليّة ، وهو بفتح الحاء وكسرها ، لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المِداد الّذي يكتب به . وعطف { الربّانيّون والأحبار } على { النّبيئون } لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين .
والاستحفاظ : الاستئمان ، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته .
استعير الاستحفاظ الّذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتّبليغ للأمّة على ما هو عليه .
فالباء في قوله { بما استحفظوا } للملابسة ، أي حكماً ملابساً للحقّ متّصلاً به غير مبدّل ولا مغيّر ولا مؤوّل تأويلاً لأجل الهوى . ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان . ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد ما حكاه عياض في « المدارك » ، عن أبي الحسن بن المنتاب ، قال : كنت عند إسماعيل يوماً فسئل : لم جاز التّبديل على أهل التّوراة ولم يجز على أهل القرآن ، فقال : لأنّ الله تعالى قال في أهل التّوراة { بما استحفظوا من كتاب الله } فوكل الحفظ إليهم . وقال في القرآن : { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] . فتعهّد الله بحفظه فلم يجز التّبديل على أهل القرآن . قال : فذكرت ذلك للمُحاملي ، فقال : لا أحْسَنَ من هذا الكلام .
و { من } مبيّنة لإبهام ( ما ) في قوله : { بما استحفظوا } . و { كتاب الله } هو التّوراة ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار ، ليتأتّى التّعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التّوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى .
وضميرُ { وكانوا } للنبيئين والربانيّين والأحبار ، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله ، أي شهداء على حفظه من التّبديل ، فحرف ( على ) هنا دالّ على معنى التمكّن وليس هو ( على ) الّذي يتعدّى به فعل شَهِد ، إلى المحقوق كما يتعدّى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له ، أي المحِقّ ، بل هو هنا مثل الّذي يتعدّى به فعل ( حفظ ورقب ) ونحوهما ، أي وكانوا حفَظَة على كتاب الله وحُرّاساً له من سوء الفهو وسوء التّأويل ويحملون أتباعه على حَقّ فهمِه وحقّ العمل به .
ولذلك عقّبه بجملة { فلا تخشوا النّاس واخْشَوْن } المتفرّعة بالفاء على قوله : { وكانوا عليه شهداء } ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حقّ الأمانة لا يخشى أحداً في القيام بوجه أمانته ولكنّه يخشى الّذي استأمنه . فيجوز أن يكون الخطاب بقوله : { فلا تخشوا النّاس } ليهود زمان نزول الآية ، والفاء للتفريع عمّا حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين ، والجملة على هذا الوجه معترضة ؛ ويجوز أن يكون الخطاب للنّبيئين والربّانيّين والأحبار فهيَ على تقدير القَول ، أي قلنا لهم : فلا تخشوا النّاس . والتّفريع ناشىء عن مضمون قوله : { بما استحفظوا من كتاب الله } ، لأنّ تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالنّاس رضُوا أم سخطوا ، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى .
وتقدّم الكلام في معنى { ولا تَشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } في سورة البقرة ( 41 ) .
وقولُه { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله : { فلا تخشوا النّاس واخشون } ، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تُخالَف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس ، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً عقّبت به تلك العظات الجليلة .
وعلى الوجهين فالمقصود اليهودُ وتحذير المسلمين من مثل صنعهم .
و ( مَن ) الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } ، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم ؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومَة عندهم . والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق . ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر . وقد اقتضى هذا قضيتين :
إحداهما : كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافراً ، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافراً ؛ والثّانية : قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله .
فأمَّا القضيةُ الأولى : فالّذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا . لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم . وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر ، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة . وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مُجملة ، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة ؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب ، ومساق الآية يبيّن إجمالها . ولذلك قال جمهور العلماء : المراد بمن لم يحكم هنا خصوصَ اليهود ، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجَه مسلم في « صحيحه » . فعلى هذا تكون ( مَنْ ) موصولة ، وهي بمعنى لام العهد . والمعنى عليه : ومن ترك الحكم بما أنزل الله تَركا مثل هذا التّرك ، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته . وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى ؛ فيكون القَصر إدّعائياً وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلاً لها ؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلاً للخبر . وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له ، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إنْ سألتَ عن الكافرين فهم هُم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع .
وقال جماعة : المراد من لم يحكم بما أنزل الله مَن ترك الحكم به جحداً له ، أو استخفافاً به ، أو طعناً في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله ، سمِعه المكلّف بنفسه . وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، ف { من } شرطية وتركُ الحكم مُجمَل بيانُه في أدلّة أخر . وتحت هذا حالة أخرى ، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تُقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخلُ تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات ، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية .
وأعظمُ منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمورِ ، وهو مراتب متفاوتة ، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله . ٍ
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكُفر فقيل عُبّر بالكفر عن المعصيّة ، كما قالت زوجة ثابت بن قيس « أكره الكُفر في الإسلام » أي الزّنى ، أي قد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين ، وروى هذا عن ابن عبّاس . وقال طاووس « هو كفر دونَ كفر وليس كفراً ينقل عن الإيمان » . وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى ، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصيّة ، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعاً في دلالته على الحكم ، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير .
وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين . وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى : { فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّمون فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ] الآية وبيّنّا وجوهه ، وسيأتي في قوله تعالى : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } إلى قوله { بل أولئك هم الظّالمون } في سورة النّور ( 48 50 ) .
وأمّا القضيّة الثّانية : فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم المعبّر عنه مجازاً بالكفر ، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر ، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام .
واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما ، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله . وهذا تأويل ثالث في الآية ، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره ، بأنّ ترك الحكم بين النّاس ، أو دَعا إلى الصلح ، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم ، وإلاّ للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم ، وكفرُ كلّ من ليس بحاكم . فالمعنى : ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله .