{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا } إما وقت القائلة ، أو غير ذلك من الأوقات التي بها يغفلون عن الانتشار . { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ } أي : يتخاصمان ويتضاربان { هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ } أي : من بني إسرائيل { وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ } القبط .
{ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } لأنه قد اشتهر ، وعلم الناس أنه من بني إسرائيل ، واستغاثته لموسى ، دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغا يخاف منه ، ويرجى من بيت المملكة والسلطان .
{ فَوَكَزَهُ مُوسَى } أي : وكز الذي من عدوه ، استجابة لاستغاثة الإسرائيلي ، { فَقَضَى عَلَيْهِ } أي : أماته من تلك الوكزة ، لشدتها وقوة موسى .
فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه ، و { قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي : من تزيينه ووسوسته ، { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة ، وحرصه على الإضلال .
واختلف المتأولون في قوله تعالى { ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها } فقال السدي : كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون وكان يركب مراكبه حتى أنه كان يدعى موسى بن فرعون ، فقالوا فركب فرعون يوماً وسار إلى مدينة من مدائن مصر يقال لها منف ثم علم موسى بركوب فرعون فركب بعده ولحق بتلك المدينة في وقت القائلة وهو حين الغفلة ، قاله ابن عبس وقال أيضاً هو ما بين العشاء والعتمة ، وقال ابن إسحاق بل { المدينة } مصر نفسها ، وكان موسى في هذا الوقت قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون فكان مختفياً بنفسه متخوفاً منهم فدخل متنكراً حذراً مغتفلاً للناس ، وقال ابن زيد : بل كان فرعون قد نابذه وأخرجه من المدينة وغاب عنها سنين فنسي أمره وجاء هو والناس على غفلة بنسيانهم لأمره وبعد عهدهم به ، وقيل كان يوم عيد ، وقوله تعالى : { يقتتلان } في موضع الحال أي مقتتلين ، و { شيعته } بنو إسرائيل ، و { عدوه } القبط ، وذكر الأخفش سعيد بن مسعدة{[9122]} أنها «فاستعانه » بالعين غير معجمة{[9123]} وبالنون وهي تصحيف لا قراءة{[9124]} ، وذكر الثعلبي أن الذي { من شيعته } هو السامري وأن الآخر طباخ فرعون ، وقوله { هذا } { وهذا } حكاية حال قد كانت حاضرة ولذلك عبر ب { هذا } عن غائب ماض ، «والوكز » الضرب باليد مجموعاً كعقد ثلاثة وسبعين ، وقرأ ابن مسعود «فلكزه » والمعنى واحد ، إلا أن اللكز في اللحا ، والوكز على القلب ، وحكى الثعلبي أن في مصحف ابن مسعود «فنكزه » بالنون المعنى واحد ، «وقضى عليه » ، معناه قتله مجهزاً ، وكان موسى عليه السلام لم يرد قتل القبطي لكن وافقت وكزته الأجل وكان عنها موته فندم ورأى أن ذلك من نزغ الشيطان في يده ، وأن الغضب الذي اقترنت به تلك الوكزة كان من الشيطان ومن همزه ، ونص هو عليه السلام على ذلك وبهذا الوجه جعله من عمله{[9125]} وكان فضل قوة موسى ربما أفرط في وقت غضبه بأكثر مما يقصد .
طويت أخبار كثيرة تنبىء عنها القصة وذلك أن موسى يفع وشب في قصر فرعون فكان معدوداً من أهل بيت فرعون ، وقيل : كان يدعى موسى ابن فرعون .
وجملة { ودخل المدينة } عطف على جملة { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضيعه } [ القصص : 7 ] عطف جزء القصة على جزء آخر منها ، وقد علم موسى أنه من بني إسرائيل ، لعله بأن أمه كانت تتصل به في قصر فرعون وكانت تقص عليه نبأه كله . والمدينة هي ( منفيس ) قاعدة مصر الشمالية .
ويتعلق { على حين غفلة } ب { دخل } . و { على } للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى { على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ، أي متمكناً من حين غفلة .
وحين الغفلة : هو الوقت الذي يغفل فيه أهل المدينة عما يجري فيها وهو وقت استراحة الناس وتفرقهم وخُلوّ الطريق منهم . قيل : كان ذلك في وقت القيلولة وكان موسى مجتازاً بالمدينة وحده ، قيل ليلحق بفرعون إذ كان فرعون قد مر بتلك المدينة . والمقصود من ذكر هذا الوقت الإشارة إلى أن قتله القبطي لم يشعر به أحد تمهيداً لقوله بعد { قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس } [ القصص : 19 ] الآيات ومقدمة لذكر خروجه من أرض مصر .
والإشارتان في قوله { هذا من شيعته وهذا من عدوه } تفصيل لما أجمل في قوله { رجلين يقتتلان } .
واسم الإشارة في مثل هذا لا يراعى فيه بُعدٌ ولا قُرب ، فلذلك قد تكون الإشارتان متماثلتين كما هنا وكما في قوله تعالى { لا إلى هؤلاء } [ النساء : 143 ] . ويجوز اختلافهما كقول المتلمس :
ولا يقيم على ضيم يراد به *** إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد
والشيعة : الجماعة المنتمية إلى أحد ، وتقدم آنفاً في قوله { وجعل أهلها شيعاً } [ القصص : 4 ] . والعدو : الجماعة التي يعاديها موسى ، أي يُبغضها . فالمراد بالذي من شيعته أنه رجل من بني إسرائيل ، وبالذي من عدوه رجل من القبط قوم فرعون . والعدو وصف يستوي فيه الواحد والجمع كما تقدم عند قوله تعالى { فإنهم عدو لي } في سورة [ الشعراء : 77 ] .
ومعنى كون { هذا من شيعته وهذا من عدوه } يجوز أن يكون المراد بهذين الوصفين أن موسى كان يعلم أنه من بني إسرائيل بإخبار قصة التقاطه من اليمّ وأن تكون أمه قد أفضت إليه بخبرها وخبره كما تقدم ، فنشأ موسى على عداوة القبط وعلى إضمار المحبة لبني إسرائيل .
وأما وكزه القبطي فلم يكن إلا انتصاراً للحق على جميع التقادير ، ولذلك لما تكررت الخصومة بين ذلك الإسرائيلي وبين قبطي آخر وأراد موسى أن يبطش بالقبطي لم يقل له القبطي : إن تريد إلا أن تنصر قومك وإنما قال { إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض } [ القصص : 19 ] .
قيل : كان القبطي من عملة مخبز فرعون فأراد أن يحمل حطباً إلى الفرن فدعا إسرائيلياً ليحمله فأبى فأراد أن يجبره على حمله وأن يضعه على ظهره فاختصما وتضاربا ضرباً شديداً وهو المعبر عنه بالتقاتل على طريق الاستعارة .
والاستغاثة : طلب الغوث وهو التخليص من شدة أو العون على دفع مشقة . وإنما يكون هذا الطلب بالنداء فذكر الاستغاثة يؤذن بأن الإسرائيلي كان مغلوباً وأن القبطي اشتد عليه وكان ظالماً إذ لا يجبر أحد على عمل يعمله .
والوكز : الضرب باليد بجمع أصابعها كصورة عقد ثلاثة وسبعين ، ويسمى الجمع بضم الجيم وسكون الميم .
و { فقضى عليه } جملة تقال بمعنى مات لا تغيّر . ففاعل ( قضى ) محذوف أبداً على معنى قضى عليه قاض وهو الموت . ويجوز أن يكون عائداً إلى الله تعالى المفهوم من المقام إذ لا يقضي بالموت غيره كقوله { فلما قضينا عليه الموت } [ سبأ : 14 ] . وقيل ضمير { فقضى } عائد إلى موسى وليس هذا بالبيّن . فالمعنى : فوكزه موسى فمات القبطي . وكان هذا قتل خطأ صادف الوكز مقاتل القبطي ولم يرد موسى قتله . ووقع في سفر الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني أن موسى لما رأى المصري يضرب العبراني التفت هنا وهناك ورأى أن ليس أحد فقتل المصري وطمره في الرمل .
وجملة { قال هذا من عمل الشيطان } مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً سأل : ماذا كان من أمر موسى حين فوجىء بموت القبطي . وحكاية ذلك للتنبيه على أن موسى لم يخطر بباله حينئذ إلا النظر في العاقبة الدينية . وقوله هو كلامه في نفسه .
والإشارة بهذا إلى الضربة الشديدة التي تسبب عليها الموت أو إلى الموت المشاهد من ضربته ، أو إلى الغضب الذي تسبب عليه موت القبطي . والمعنى : أن الشيطان أوقد غضبه حتى بالغ في شدة الوكز . وإنما قال موسى ذلك لأن قتل النفس مستقبح في الشرائع البشرية فإن حفظ النفس المعصومة من أصول الأديان كلها . وكان موسى يعلم دين آبائه لعله بما تلقّاه من أمه المرأة الصالحة في مدة رضاعه وفي مدة زيارته إياها .
وجملة { إنه عدو مضل مبين } تعليل لكون شدة غضبه من عمل الشيطان إذ لولا الخاطر الشيطاني لاقتصر على زجر القبطي أو كفه عن الذي من شيعته ، فلما كان الشيطان عدواً للإنسان وكانت له مسالك إلى النفوس استدل موسى بفعله المؤدي إلى قتل نفس أنه فعل ناشىء عن وسوسة الشيطان ولولاها لكان عمله جارياً على الأحوال المأذونة .
وفي هذا دليل على أن الأصل في النفس الإنسانية هو الخير وأنه الفطرة وأن الانحراف عنها يحتاج إلى سبب غير فطري وهو تخلل نزغ الشيطان في النفس .
ومتعلق { عدو } محذوف لدلالة المقام أي عدو لآدم وذرية آدم .
ورتب على الإخبار عنه بالعداوة وصفه بالإضلال لأن العدو يعمل لإلحاق الضر بعدوه و { مبين } وصف ل { مضل } لا خبر ثان ولا ثالث .