اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَدَخَلَ ٱلۡمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفۡلَةٖ مِّنۡ أَهۡلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيۡنِ يَقۡتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنۡ عَدُوِّهِۦۖ فَٱسۡتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِي مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ} (15)

قوله : «وَدَخَلَ المَدِينَة » أي : ودخل موسى المدينة . قال السدي : مدينة منف من أرض مصر{[39829]} ، وقال مقاتل : قرية تدعى حانين على ( رأس ){[39830]} فرسخين من مصر{[39831]} ، وقيل : عين شمس{[39832]} ، قوله : { على حِينِ غَفْلَةٍ } في موضع الحال إمّا من الفاعل أي : كائناً على حين غَفْلَة ، أي : مُستخفياً ، وإِمَّا من المفعول{[39833]} ، وقرأ أبو طالب القارئ{[39834]} «عَلَى حِينَ » بفتح النون ، وتكلَّفَ أبو حيان تخريجها على أنه حمل المصدر على الفعل في أنه إذا أضيف الظرف إليه جاز بناؤه على الفتح{[39835]} ، كقوله :

3977 - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا{[39836]} *** . . .

و «مِنْ أَهْلِهَا » صفة ل «غَفْلَةٍ » ، أي : صادرة من أهلها .

فصل :

اختلفوا في السبب الذي لأجله دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها ، فقال السُّدِّي : إن موسى كان يسمى ابن فرعون ، فكان يركب في مراكب فرعون ، ويلبس مثل ملابسه ، فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب في أثره ، فأدركه المقيل بأرض منف ، فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد ، فذلك { على حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا }{[39837]} . وقال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به ، فلما عرف ما هو عليه من الحق فارق فرعون وقومه وخالفهم في دينهم حتى ذكر ذلك منه ، وأخافوه وخافهم ، فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً{[39838]} .

وقال ابن زيد : إِنَّ موسى ضرب رأس فرعون ونتف لحيته ، فأراد فرعون قتله ، فقالت امرأته : هو صغير ، جئ بجمرة فأخذها{[39839]} فطرحها في فيه ، فبها عقد لسانه ، فقال فرعون : لا أقتله ، ولكن أخرجوه عن الدار والبلد ، فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر ، فدخل { على حِينِ غَفْلَةٍ }{[39840]} .

قوله «يَقْتتلانِ » صفة ل «رَجُلَيْنِ »{[39841]} ، وقال ابن عطية : حالٌ منهما{[39842]} ، وسيبويه - وإن كان جوَّزها من النكرة مطلقاً {[39843]}- إلاَّ أَنَّ الأكثر يشترطون فيها ما يُسوِّغُ الابتداء بها{[39844]} .

وقرأ نعيمُ بن ميسرة{[39845]} «يقتلان » بالإدغام{[39846]} ، نقل فتحة التاء الأولى إلى القاف وأدغم . قوله { هذا مِن شِيعَتِهِ } مبتدأ وخبر في موضع الصفة ل «رَجُلَيْنِ »{[39847]} ، أو الحال من الضمير في «يَقْتتلانِ » وهو بعيدٌ لعدمِ انتِقالهَا .

وقوله : «هذَا »{[39848]} و «هذا » على حكاية الحال الماضية ، فكأنهما حاضران{[39849]} ، أي : إذا نظر الناظر إليهما ، قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه{[39850]} . وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب ، وأنشد لجرير :

3978 - هذَا ابنُ عَمِّي في دِمَشْقَ خَلِيفَة *** لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِليَّ قَطِينا{[39851]}

( فصل ){[39852]} :

{ هذا مِن شِيعَتِهِ } من بني إسرائيل ، { وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } من القبط . قال مقاتل : كانا كافرين إلا أنَّ أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل ، لقول موسى عليه السلام{[39853]} له { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ }{[39854]} [ القصص : 18 ] . والمشهور أَنَّ الإسرائيلي كان مسلماً ، قيل : إنه السامري ، والقبطي طبَّاخ فرعون{[39855]} . قال سعيد{[39856]} بن جبير عن ابن عباس : لمَّا بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلُص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع . وكان بنو{[39857]} إسرائيل قد عزوا بمكان موسى ، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم{[39858]} .

قوله «فَاسْتَغَاثَهُ » هذه قراءة العامة من الغوث أي طلب غوثه ونصره ، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون من الإِعانة{[39859]} . قال ابن عطية : هي{[39860]} تصحيف{[39861]} وقال ابن جبارة صاحب الكامل : الاختيار قراءة ابن مقسم ، لأَنَّ الإِعانة أوْلَى في هذا الباب{[39862]} قال شهاب الدين : نسبة التصحيف إلى هؤلاء غير محمودة ( كما أن تغالي ){[39863]} الهذلي في اختيار الشاذة غير محمود{[39864]} .

قوله : «فَوَكَزَهُ » أي : دفعه بجميع كَفِّه{[39865]} ، والفرق بين الوَكْزِ واللَّكْزِ : أَنَّ الأول بجميع الكف والثاني : بأطراف الأصابع ، وقيل بالعكس ، وقيل : اللكز في الصدر ، والوكز في الظهر{[39866]} ، والنَّكْزُ كاللَّكْزِ قال :

3979 - يَا أَيُّهَا الجَاهِلُ ذُو التَّنَزِّي *** لا تُوعِدني حَبَّةٌ بِالنَّكْزِ{[39867]}

وقرأ ابن مسعود «فَلَكَزَهُ »{[39868]} و «فَنَكَزَهُ »{[39869]} باللام والنون .

قوله : «فَقَضَى » أي : موسى ، أو الله تعالى ، أو ضمير الفعل أي{[39870]} : الوكز{[39871]} «فَقَضَى عَلَيْهِ » أي : أماته ، وقتله ، وفرغ من أمره ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه ، فندم موسى ولم يكن قصده القتل ، فدفنه في الرمل{[39872]} ، و { قَالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } فقوله : «هذَا » إشارة إلى القتل الصادر منه ، و { مِنْ عَمَلِ الشيطان } أي : من وسوسته وتسويله .

فصل :

احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء من وجوه :

أحدها : أن ذلك القبطي إما أن يكون مستحق القتل أو لم يكن كذلك ، فإن استحق القتل فلم قال : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } ؟ ولم قال : { ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ } ؟ وقال في سورة أخرى { فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] . وإن لم يستحق القتل كان قتله معصيةً وذنباً .

وثانيها : أنَّ قوله : { وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } يدل على أنه كان كافراً حربياً ، فكان دمه مباحاً ، فَلِمَ استغفر عنه ؟ والاستغفار من الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً .

وثالثها : أَنَّ الوكز لا يحصل عنه القتل ظاهراً . فكان ذلك قتل خطأ ، فَلِمَ استغفر منه ؟ .

والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يقال إنه لكفره مباح الدم ؟ وأما قوله { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } ففيه وجوه :

الأول : أنَّ الله تعالى وإن أباح قتل{[39873]} الكفار ، إلاَّ أنه كان الأَولى تأخير قتلهم{[39874]} إلى زمان آخر ، فلما قتل ترك ذلك المندوب ؛ وهو قوله : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } .

الثاني : أنَّ قوله : «هذَا » إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه .

( الثالث : أنَّ قوله : «هذَا » إشارة إلى المقتول ){[39875]} . ( يعني أنه من حزب الشيطان ){[39876]} وجنده ، يقال : فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه{[39877]} .


[39829]:انظر البغوي 6/325.
[39830]:رأس: سقط من ب.
[39831]:انظر البغوي 6/325، الفخر الرازي 24/233.
[39832]:وهو قول الضحاك. انظر البغوي 6/325، الفخر الرازي 24/233.
[39833]:انظر التبيان 2/1018.
[39834]:في النسختين: أبو طالب الفارسي، والتصويب من المختصر (112)، البحر المحيط 7/109. ولم أقف له على ترجمة.
[39835]:قال أبو حيان: (ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قال: على حين غفل أهلها فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرية بفعل ماض كقوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا وهذا توجيه شذوذ) البحر المحيط 7/109.
[39836]:صدر البيت من بحر الطويل، قاله النابغة الذبياني، وعجزه: وقلت ألمَّا أصح والشَّيب وازع وقد تقدم.
[39837]:انظر البغوي 6/325-366، الفخر الرازي 24/233.
[39838]:انظر البغوي 6/326.
[39839]:فأخذها: مكرر في ب.
[39840]:انظر الفرخ الرازي 24/233.
[39841]:انظر البحر المحيط 7/109.
[39842]:قال ابن عطية: (وقوله تعالى: "يقتتلان" في موضع الحال، أي: مقتتلين) تفسير ابن عطية 11/274.
[39843]:فإنه قال: (ومثل ذلك مررت برجل قائماً، وإذا جعلت المرور به في حال قيام) الكتاب 2/112.
[39844]:انظر الهمع 1/240، الأشموني 2/174-176.
[39845]:هو نعيم بن ميسرة أبو عمرو الكوفي النحوي، روى عن أبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود، وروى عنه علي بن حمزة الكسائي. مات سنة 174 هـ. طبقات القراء 2/342-343.
[39846]:المختصر (112).
[39847]:انظر التبيان 2/1018.
[39848]:هذا: سقط من ب.
[39849]:انظر البحر المحيط 7/109.
[39850]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/136.
[39851]:لم أجد ما قاله المبرد في المقتضب والكامل، وهو في البحر المحيط 7/109. والبيت من بحر الكامل، وهو في ديوانه 1/388، والكامل 3/1074، 1075، أمالي ابن الشجري 2/276، البحر المحيط 7/109، القطين: الخدم والمماليك والشاهد فيه استعمال (هذا) في الإشارة إلى غائب غير حاضر.
[39852]:ما بين القوسين بياض في الأصل.
[39853]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[39854]:انظر الفخر الرازي 24/233.
[39855]:انظر الفخر الرازي 24/233.
[39856]:في ب: عبيد. وهو تحريف.
[39857]:في ب: بني.
[39858]:انظر البغوي 6/326.
[39859]:انظر المختصر (112)، البحر المحيط 7/109.
[39860]:في الأصل: هو.
[39861]:تفسير ابن عطية 11/109.
[39862]:انظر البحر المحيط 7/109.
[39863]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39864]:الدر المصون 5/213.
[39865]:انظر اللسان (وكز).
[39866]:انظر الكشاف 3/160، القرطبي 13/260، البحر المحيط 7/103.
[39867]:رجز قاله رؤبة، وهو في ديوانه (63)، الكتاب 2/192، المقتضب 4/218، أمالي ابن الشجري 2/121، ابن يعيش 6/138، اللسان (نكز)، المقاصد النحوية 4/219. التنزي: خفة الجهل، وأصل التنزي: التوثب. النكز: الضرب والدفع، وهو موضع الشاهد هنا. واستشهد به النحاة على أن (ذو التنزي) نعت الجاهل مرفوع مع أنه مضاف، لأن الجاهل غير منادى فليس في موضع نصب حتى تنصب صفته على المحل.
[39868]:انظر المختصر (112)، الكشاف 3/160، تفسير ابن عطية 11/275، البحر المحيط 7/109.
[39869]:انظر تفسير ابن عطية 11/275، البحر المحيط 7/109.
[39870]:في ب: إلى. وهو تحريف.
[39871]:انظر البحر المحيط 7/109.
[39872]:انظر البغوي 6/327.
[39873]:في ب: عن قتل.
[39874]:في ب: قتله.
[39875]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[39876]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39877]:انظر الفخر الرازي 24/234.