قوله : «وَدَخَلَ المَدِينَة » أي : ودخل موسى المدينة . قال السدي : مدينة منف من أرض مصر{[39829]} ، وقال مقاتل : قرية تدعى حانين على ( رأس ){[39830]} فرسخين من مصر{[39831]} ، وقيل : عين شمس{[39832]} ، قوله : { على حِينِ غَفْلَةٍ } في موضع الحال إمّا من الفاعل أي : كائناً على حين غَفْلَة ، أي : مُستخفياً ، وإِمَّا من المفعول{[39833]} ، وقرأ أبو طالب القارئ{[39834]} «عَلَى حِينَ » بفتح النون ، وتكلَّفَ أبو حيان تخريجها على أنه حمل المصدر على الفعل في أنه إذا أضيف الظرف إليه جاز بناؤه على الفتح{[39835]} ، كقوله :
3977 - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا{[39836]} *** . . .
و «مِنْ أَهْلِهَا » صفة ل «غَفْلَةٍ » ، أي : صادرة من أهلها .
اختلفوا في السبب الذي لأجله دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها ، فقال السُّدِّي : إن موسى كان يسمى ابن فرعون ، فكان يركب في مراكب فرعون ، ويلبس مثل ملابسه ، فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب في أثره ، فأدركه المقيل بأرض منف ، فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد ، فذلك { على حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا }{[39837]} . وقال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به ، فلما عرف ما هو عليه من الحق فارق فرعون وقومه وخالفهم في دينهم حتى ذكر ذلك منه ، وأخافوه وخافهم ، فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً{[39838]} .
وقال ابن زيد : إِنَّ موسى ضرب رأس فرعون ونتف لحيته ، فأراد فرعون قتله ، فقالت امرأته : هو صغير ، جئ بجمرة فأخذها{[39839]} فطرحها في فيه ، فبها عقد لسانه ، فقال فرعون : لا أقتله ، ولكن أخرجوه عن الدار والبلد ، فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر ، فدخل { على حِينِ غَفْلَةٍ }{[39840]} .
قوله «يَقْتتلانِ » صفة ل «رَجُلَيْنِ »{[39841]} ، وقال ابن عطية : حالٌ منهما{[39842]} ، وسيبويه - وإن كان جوَّزها من النكرة مطلقاً {[39843]}- إلاَّ أَنَّ الأكثر يشترطون فيها ما يُسوِّغُ الابتداء بها{[39844]} .
وقرأ نعيمُ بن ميسرة{[39845]} «يقتلان » بالإدغام{[39846]} ، نقل فتحة التاء الأولى إلى القاف وأدغم . قوله { هذا مِن شِيعَتِهِ } مبتدأ وخبر في موضع الصفة ل «رَجُلَيْنِ »{[39847]} ، أو الحال من الضمير في «يَقْتتلانِ » وهو بعيدٌ لعدمِ انتِقالهَا .
وقوله : «هذَا »{[39848]} و «هذا » على حكاية الحال الماضية ، فكأنهما حاضران{[39849]} ، أي : إذا نظر الناظر إليهما ، قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه{[39850]} . وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب ، وأنشد لجرير :
3978 - هذَا ابنُ عَمِّي في دِمَشْقَ خَلِيفَة *** لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِليَّ قَطِينا{[39851]}
( فصل ){[39852]} :
{ هذا مِن شِيعَتِهِ } من بني إسرائيل ، { وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } من القبط . قال مقاتل : كانا كافرين إلا أنَّ أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل ، لقول موسى عليه السلام{[39853]} له { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ }{[39854]} [ القصص : 18 ] . والمشهور أَنَّ الإسرائيلي كان مسلماً ، قيل : إنه السامري ، والقبطي طبَّاخ فرعون{[39855]} . قال سعيد{[39856]} بن جبير عن ابن عباس : لمَّا بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلُص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع . وكان بنو{[39857]} إسرائيل قد عزوا بمكان موسى ، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم{[39858]} .
قوله «فَاسْتَغَاثَهُ » هذه قراءة العامة من الغوث أي طلب غوثه ونصره ، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون من الإِعانة{[39859]} . قال ابن عطية : هي{[39860]} تصحيف{[39861]} وقال ابن جبارة صاحب الكامل : الاختيار قراءة ابن مقسم ، لأَنَّ الإِعانة أوْلَى في هذا الباب{[39862]} قال شهاب الدين : نسبة التصحيف إلى هؤلاء غير محمودة ( كما أن تغالي ){[39863]} الهذلي في اختيار الشاذة غير محمود{[39864]} .
قوله : «فَوَكَزَهُ » أي : دفعه بجميع كَفِّه{[39865]} ، والفرق بين الوَكْزِ واللَّكْزِ : أَنَّ الأول بجميع الكف والثاني : بأطراف الأصابع ، وقيل بالعكس ، وقيل : اللكز في الصدر ، والوكز في الظهر{[39866]} ، والنَّكْزُ كاللَّكْزِ قال :
3979 - يَا أَيُّهَا الجَاهِلُ ذُو التَّنَزِّي *** لا تُوعِدني حَبَّةٌ بِالنَّكْزِ{[39867]}
وقرأ ابن مسعود «فَلَكَزَهُ »{[39868]} و «فَنَكَزَهُ »{[39869]} باللام والنون .
قوله : «فَقَضَى » أي : موسى ، أو الله تعالى ، أو ضمير الفعل أي{[39870]} : الوكز{[39871]} «فَقَضَى عَلَيْهِ » أي : أماته ، وقتله ، وفرغ من أمره ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه ، فندم موسى ولم يكن قصده القتل ، فدفنه في الرمل{[39872]} ، و { قَالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } فقوله : «هذَا » إشارة إلى القتل الصادر منه ، و { مِنْ عَمَلِ الشيطان } أي : من وسوسته وتسويله .
احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء من وجوه :
أحدها : أن ذلك القبطي إما أن يكون مستحق القتل أو لم يكن كذلك ، فإن استحق القتل فلم قال : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } ؟ ولم قال : { ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ } ؟ وقال في سورة أخرى { فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] . وإن لم يستحق القتل كان قتله معصيةً وذنباً .
وثانيها : أنَّ قوله : { وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } يدل على أنه كان كافراً حربياً ، فكان دمه مباحاً ، فَلِمَ استغفر عنه ؟ والاستغفار من الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً .
وثالثها : أَنَّ الوكز لا يحصل عنه القتل ظاهراً . فكان ذلك قتل خطأ ، فَلِمَ استغفر منه ؟ .
والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يقال إنه لكفره مباح الدم ؟ وأما قوله { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } ففيه وجوه :
الأول : أنَّ الله تعالى وإن أباح قتل{[39873]} الكفار ، إلاَّ أنه كان الأَولى تأخير قتلهم{[39874]} إلى زمان آخر ، فلما قتل ترك ذلك المندوب ؛ وهو قوله : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } .
الثاني : أنَّ قوله : «هذَا » إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه .
( الثالث : أنَّ قوله : «هذَا » إشارة إلى المقتول ){[39875]} . ( يعني أنه من حزب الشيطان ){[39876]} وجنده ، يقال : فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه{[39877]} .