{ 99 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وهذا من أعظم مننه العظيمة ، التي يضطر إليها الخلق ، من الآدميين وغيرهم ، وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس إليه ، فأنبت الله به كل شيء ، مما يأكل الناس والأنعام ، فرتع الخلق بفضل الله ، وانبسطوا برزقه ، وفرحوا بإحسانه ، وزال عنهم الجدب واليأس والقحط ، ففرحت القلوب ، وأسفرت الوجوه ، وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم ، ما به يتمتعون وبه يرتعون ، مما يوجب لهم ، أن يبذلوا جهدهم في شكر من أسدى النعم ، وعبادته والإنابة إليه ، والمحبة له .
ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء ، من أنواع الأشجار والنبات ، ذكر الزرع والنخل ، لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لأكثر الناس فقال : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ } أي : من ذلك النبات الخضر ، { حَبًّا مُتَرَاكِبًا } بعضه فوق بعض ، من بر ، وشعير ، وذرة ، وأرز ، وغير ذلك ، من أصناف الزروع ، وفي وصفه بأنه متراكب ، إشارة إلى أن حبوبه متعددة ، وجميعها تستمد من مادة واحدة ، وهي لا تختلط ، بل هي متفرقة الحبوب ، مجتمعة الأصول ، وإشارة أيضا إلى كثرتها ، وشمول ريعها وغلتها ، ليبقى أصل البذر ، ويبقى بقية كثيرة للأكل والادخار .
{ وَمِنَ النَّخْلِ } أخرج الله { مِنْ طَلْعِهَا } وهو الكفرى ، والوعاء قبل ظهور القنو منه ، فيخرج من ذلك الوعاء { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } أي : قريبة سهلة التناول ، متدلية على من أرادها ، بحيث لا يعسر التناول من النخل وإن طالت ، فإنه يوجد فيها كرب ومراقي ، يسهل صعودها .
{ و } أخرج تعالى بالماء { جنات مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } فهذه من الأشجار الكثيرة النفع ، العظيمة الوقع ، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع الأشجار والنوابت .
وقوله { مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون ، أي : مشتبها في شجره وورقه ، غير متشابه في ثمره .
ويحتمل أن يرجع ذلك ، إلى سائر الأشجار والفواكه ، وأن بعضها مشتبه ، يشبه بعضه بعضا ، ويتقارب في بعض أوصافه ، وبعضها لا مشابهة بينه وبين غيره ، والكل ينتفع به العباد ، ويتفكهون ، ويقتاتون ، ويعتبرون ، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به ، فقال : { انْظُرُوا } نظر فكر واعتبار { إِلَى ثَمَرِهِ } أي : الأشجار كلها ، خصوصا : النخل { إذا أثمر }
{ وَيَنْعِهِ } أي : انظروا إليه ، وقت إطلاعه ، ووقت نضجه وإيناعه ، فإن في ذلك عبرا وآيات ، يستدل بها على رحمة الله ، وسعة إحسانه وجوده ، وكمال اقتداره وعنايته بعباده .
ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر ، أدرك المعنى المقصود ، ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقال : { إِنَّ فِي ذَلِكَم لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان ، على العمل بمقتضياته ولوازمه ، التي منها التفكر في آيات الله ، والاستنتاج منها ما يراد منها ، وما تدل عليه ، عقلا ، وفطرة ، وشرعا .
{ السماء } في هذا الموضع السحاب ، وكل ما أظلك فهو سماء ، و { ماء } أصله موه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فجاء ماه فبدلت الهاء بالهمزة لأن الألف والهاء ضعيفان مهموسان ، وقوله : { نبات كل شيء } قال بعض المفسرين أي مما ينبت ، وحسن إطلاق العموم في { كل شيء } لأن ذكر النبات قبله قد قيد المقصد وقال الطبري والمراد ب { كل شيء } ما ينمو من جميع الحيوانات والنبات والمعادن وغير ذلك ، لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء ، والضمير في { منه } يعود على النبات ، وفي الثاني يعود على الخضر ، و { خضراً } بمعنى أخضر ، ومنه قوله عليه السلام : «الدنيا خضرة حلوة »{[5031]} بمعنى خضراء .
قال القاضي أبو محمد : وكأن «خضراً » إنما يأتي أبداً لمعنى النضارة وليس للون فيه مدخل ، وأخضر إنما تمكنه في اللون ، وهو في النضارة تجوز ، وقوله : { حباً متراكباً } يعم جميع السنابل وما شاكلها كالصنوبر ، والرمان وغيرها من جميع النبات ، وقوله تعالى : { ومن النخل } تقديره ونخرج من النخل و { من طلعها قنوان } ابتداء خبره مقدم ، والجملة في موضع المفعول بنخرج ، و «الطلع » أول ما يخرج من النخلة في أكمامه ، و { قنوان } جمع قنو وهو العِذق بكسر العين وهي الكباسة ، والعرجون : عوده الذي ينتظم التمر ، قرأ الأعرج «قنوان » بفتح القاف ، وقال أبو الفتح ينبغي أن يكون اسماً للجمع غير مكسر لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع قال المهدوي : وروي عن الأعرج ضم القاف ، وكذلك أنه جمع «قُنو » بضم القاف ، قال الفراء وهي لغة قيس وأهل الحجاز ، والكسر أشهر في العرب ، وقنو يثنى قنوان منصرفة النون ، و { دانية } معناه قريبة من المتناول ، قاله ابن عباس والبراء بن عازب والضحاك وقيل قريبة بعضها من بعض ، وقرأ الجمهور «وجناتٍ » بنصب جَنات عطفاً على قوله نبات ، وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى ورويت عن أبي بكر عن عاصم «وجناتٌ » بالرفع على تقدير ولكم جنات أو نحو هذا ، وقال الطبري وهو عطف على قنوان .
قال القاضي أبو محمد : وقوله ضعيف{[5032]} و{ الزيتون والرمان } بالنصب إجماعاً عطفاً على قوله : { حباً } ، { ومشتبها وغير متشابه } قال قتادة : معناه تتشابه في اللون وتتباين في الثمر ، وقال الطبري : جائز أن تتشابه في الثمر وتتباين في الطعم ، ويحتمل أن يريد تتشابه في الطعم وتتباين في المنظر ، وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات ، وقوله تعالى : { انظروا } وهو نظر بصر يترتب عليه فكرة قلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم «إلى ثَمَره » بفتح الثاء والميم وهو جمع ثمرة كبقرة وبقر وشجرة وشجر ، وقرأ يحيى بن وثاب ومجاهد «ثُمُره » بضم الثاء والميم قالا وهي أصناف المال .
قال القاضي أبو محمد : كأن المعنى انظروا إلى الأموال التي تتحصل منه ، وهي قراءة حمزة والكسائي ، قال أبو عليك والأحسن فيه أن يكون جمع ثمره كخشبة وخشب وأكمة وأكم ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَرَى الأكْمَ فيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ{[5033]}
نظيره في المعتل لابة ولوب وناقة ونوق وساحة وسوح .
ويجوز أن يكون جمع جمع فتقول ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر ، وقرأت فرقة «إلى ثُمْره » بضم الثاء وإسكان الميم كأنها ذهبت إلى طلب الخفة في تسكين الميم ، والثمر في اللغة جنى الشجر وما يطلع ، وإن سمي الشجر ثماراً فتجوز ، وقرأ جمهور الناس و «يَنعه » بفتح الياء وهو مصدر ينع يينع إذا نضج ، يقال ينع وأينع وبالنضج فسر ابن عباس هذه الآية ومنه قول الحجاج «إني لأرى رؤوساً قد أينعت » ويستعمل ينع بمعنى استقل واخضر ناضراً ، ومنه قول الشاعر : [ المديد ]
في قبابٍ حَوْلَ دَسْكَرَة حَوْلَها الزّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا{[5034]}
وقيل في { ينعه } إنه جمع يانع مثل في تاجر وتجر وراكب وركب ذكره الطبري ، وقرأ ابن محيصن وقتادة والضحاك «ويُنعه » بضم الياء أي نضجه ، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني . «ويانعه » ، وقوله { إن في ذلكم لآيات } إيجاب تنبيه وتذكير وتقدم تفسير مثله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده، فقال: {وهو الذي أنزل من السماء ماء}: المطر، {فأخرجنا به} "بالمطر، {نبات كل شيء}: الثمار والحبوب وألوان النبات، {فأخرجنا منه خضرا}: أول النبات، {نخرج منه حبا متراكبا}، يعني السنبل قد ركب بعضه بعضا، {و} أخرجنا بالماء {ومن النخل من طلعها}: من ثمرها، {قنوان}، يعني قصار النخل، {دانية}، يعني ملتصقة بالأرض تجنى باليد، {و} أخرجنا بالماء {وجنات}، يعني البساتين، ثم نعت البساتين، فقال: {من} نخيل و {أعناب والزيتون والرمان مشتبها}، ورقها في المنظر يشبه ورق الزيتون وورق الرمان، ثم قال: {وغير متشابه} في اللون مختلف في الطعم، {انظروا إلى ثمره إذا أثمر} حين يبدو غضا أوله صيصا، {وينعه إن في ذلكم}: إن في هذا الذي ذكر من صنعه وعجائبه لعبرة، {لآيات لقوم يؤمنون}: يصدقون بالتوحيد.
{انظروا إلى ثمره إذا أثمر} [الأنعام: 99]. 398- ابن العربي: قال مالك: الينع: الطيب، دون فساد ولا علاج.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شركة فيه لشيء سواه، هو الإله "الّذي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاء مَاءً فأخْرَجْنا به نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ": فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحش، وأرزاق بني آدم وأقواتهم ما يتغذّون به ويأكلونه فينبتون عليه وينمون.
وإنما معنى قوله: "فَأخْرَجْنَا بِهِ نَباتَ كُلّ شَيْءٍ": فأخرجنا به ما ينبت به كلّ شيء وينمو عليه ويصلح. ولو قيل معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات فيكون كلّ شيء هو أصناف النبات، كان مذهباً وإن كان الوجه الصحيح هو القول الأوّل.
وقوله: "فأخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً "يقول: فأخرجنا منه -يعني من الماء الذي أنزلناه من السماء- خضراً: رطباً من الزرع، والخَضِرُ: هو الأخضر... والخضر: رطب البقول... ويقال: هو لك خضراً مضراً: أي هنيئاً مريئاً. قوله: "نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مُتَرَاكِباً" يقول: نخرج من الخضر حبّا، يعني: ما في السنبل، سنبل الحنطة والشعير والأرز، وما أشبه ذلك من السنابل التي حبها يركب بعضه بعضاً.
"وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ": ومن النخل من طلعها قنوان دانية... والقنوان: جمع قِنْو... وهو العِذْق... ويعني بقوله: «دانية»: قريبة متهدلة...
عن ابن عباس: "قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ" يعني بالقنوان الدانية: قصار النخل لاصقة عذوقها بالأرض...
"وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ والزّيْتُونَ والرّمّانِ مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه".
يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضاً جنات من أعناب، يعني: بساتين من أعناب...
وقوله: "والزّيْتُونَ والرّمّانِ" عطف بالزيتون على «الجنات» بمعنى: وأخرجنا الزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه.
وكان قتادة يقول في معنى "مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه"...: مشتبهاً ورقه، مختلفاً تمره.
وجائز أن يكون مراداً به: مشتبهاً في الخلق مختلفاً في الطعم...
"انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ".
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة: "انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ" بفتح الثاء والميم، وقرأه بعض قراء أهل مكة وعامة قرّاء الكوفيين: "إلى ثُمُرِهِ" بضم الثاء والميم. فكأنّ من فتح الثاء والميم من ذلك وجّه معنى الكلام: انظروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمر وأن الثّمَر جمع ثمرة، كما القَصَب جمع قصبة، والخشب جمع خشبة. وكأن من ضمّ الثاء والميم، وجه ذلك إلى أنه جمع ثمار، كما الحُمُر جمع حمار، والجُرُب جمع جراب... عن يحيى بن وثاب، أنه كان يقرأ: «إلى ثُمُرِهِ» يقول: هو أصناف المال...
عن مجاهد، قال الثّمُر: هو المال، والثّمَر: ثمر النخل.
وأولى القراءتين في ذلك عند بالصواب، قراءة من قرأ: انْظُرُوا إلى ثُمُرِهِ بضمّ الثاء والميم، لأن الله جلّ ثناؤه وصف أصنافاً من المال، كما قال يحيى بن وثاب. وكذلك حبّ الزرع المتراكب، وقنوان النخل الدانية، والجنات من الأعناب والزيتون والرمان، فكان ذلك أنواعاً من الثمر، فجمعت الثمرة ثَمراً ثم جمع الثمر ثماراً، ثم جمع ذلك فقيل: «انظروا إلى ثُمُره»، فكان ذلك جمع الثمار، والثمار جمع الثمرة، وإثماره: عقد الثمر.
وأما قوله:"وَيَنْعِهِ" فإنه نضجه وبلوغه حين يبلغ...
"إنّ فِي ذَلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره: إن في إنزال الله تعالى من السماء الماء الذي أخرج به نبات كلّ شيء، والخضر الذي أخرج منه الحبّ المتراكب، وسائر ما عدّد في هذه الآية من صنوف خلقه "لآيات" يقول: في ذلكم أيها الناس إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره، وعند ينعه وانتهائه، فرأيتم اختلاف أحواله وتصرّفه في زيادته ونموّه، علمتم أن له مدبراً ليس كمثله شيء، ولا تصلح العبادة إلاّ له دون الآلهة والأنداد، وكان فيه حجج وبرهان وبيان "لَقوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يقول: لقوم يصدّقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء. وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون، لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها، دون من قد طبع على قلبه فلا يعرف حقّا من باطل ولا يتبين هدى من ضلالة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالماء {نَبَاتَ كُلّ شيء} نبت كل صنف من أصناف النامي، يعني أن السبب واحد وهو الماء، والمسببات صنوف مفتنة، كما قال: {يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} [الرعد: 4]...
{دَانِيَةٌ}: سهلة المجتنى معرضة للقاطف، كالشيء الداني القريب المتناول؛ ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر لا تنتظر الطول. وقال الحسن: دانية قريب بعضها من بعض. وقيل: ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة، لأنّ النعمة فيها أظهر وأدلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81]...
{مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه}... والمعنى: بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليل على التعمد دون الإهمال {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به. وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال.
اعلم أن هذا النوع الخامس من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه. واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضا نعم بالغة، وإحسانات كاملة، والكلام إذا كان دليلا من بعض الوجوه، وكان إنعاما وإحسانا من سائر الوجوه، كان تأثيره في القلب عظيما، وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا} هذه الآية المنزلة مرشدة إلى نوع آخر من آيات التكوين وهو إيجاد الماء، وإنزاله من السماء، وجعله سببا للنبات، وجعل النبات المسبب عنه أنواعا كثيرة، مشتبهة وغير متشابهة، وبذلك يلتقي آخر هذه السياق بأوله. أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب هذا الماء الواحد نبات كل شيء من أصناف هذا النامي الذي يخرج من الأرض فأخرجنا منه أي من النبات خضرا أي شيئا غضا أخضر بالخلقة لا بالصناعة وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحب كساق النجم وأغصان الشجر، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب من النبات آنا بعد آن حبا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل- فهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه، وعطف عليه حال نظيره من الشجر فقال:
{ومن النخل من طلعها قنوان دانية} النخل الشجر الذي ينتج التمر... و « من طلعها» بدل مما قبله، وطلعها أول ما يطلع أي يظهر من زهرها الذي يكون منه ثمرها وقبل أن ينشق عنه كافوره أي وعاؤه، وما ينشق عنه الكافور من الطلع يسمى الغريض والإغريض، والقنوان جمع قنو (بالكسر) وهو العذق الذي يكون فيه الثمر، ومثله في وزنه واستواء مثناه وجمعه الصنو والصنوان وهو ما يخرج من أصل الشجرة من الفروع. والقنوان من النخل كالعناقد من العنب والسنابل من القمح. والمعنى أنه يخرج من طلع النخل قنوان دانية القطوف سهلة التناول أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها.
{وجنات من أعناب} قرأ الجمهور « جنات» بالنصب وتقدير الكلام: ونخرج منه أي من ذلك الخضر- جنات من أعناب. وقرأها أبو بكر عن عاصم بالرفع وهو المروي عن علي المرتضى وابن مسعود والأعمش وغيرهم وتقدير الكلام: ولكم جنات من أعناب- أو- وهناك جنات- أو- ومن الكرم جنات الخ وسنبين حكمة اختلاف الإعراب بعد {والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه} أي وأخص من نبات كل شيء الزيتون والرمان حال كونه مشتبها في بعض الصفات غير متشابه في بعض آخر، قيل إن هذه الحال من الرمان وحده فإنه أنواع تشتبه في شكل الورق والثمر وتختلف في لون الثمر وطعمه، فمنه الحلو والحامض والمر. وقيل إن الحال من مجموع الزيتون والرمان أي مشتبها ما ذكر منهما في شكل ورق الشجر، وغير متشابه في الثمر- أو المعنى كل منهما مشتبه وغير متشابه وذلك ظاهر مما قبله. وصرحوا بأن المشتبه والمتشابه هنا بمعنى إذ يقال اشتبه الأمران وتشابها كما يقال استويا وتساويا. وقد قرئ في الشواذ متشابها وغير متشابه وهو ما أجمعوا عليه في آية {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} [الأنعام:141] الخ وسيأتي، والحق أن بين الصيغتين فرقا فمعنى اشتبها: التبس أحدهما بالآخر من شدة الشبه بينهما، ومعنى تشابها أشبه أحدهما الآخر ولو في بعض الوجوه والصفات فهذا أعم مما قبله. ولا شك في أن بعض ما ذكر يتشابه ولا يشتبه وبعضه حتى يشتبه حتى على البستاني الماهر، كما شاهدنا ذلك واختبرناه في بعض أنواع الرمان الحلو مع الحامض، وهذا دقة تعبير التنزيل في تحديد الحقائق.
{انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} أي انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمر ما ذكر إذا هو تلبس واتصف بالأثمار، وإلى ينعه عندما يينع، أي يبدو صلاحه وينضج، وتأملوا صفاته في كل من الحالين وما بينهما، يظهر لكم من لطف الله وتدبيره، وحكمته في تقديره، ما يدل أوضح الدلالة على وجوب توحيده {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (99)} أي في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه والنظر فيه دلائل عظيمة أو كثيرة للمستعدين للاستدلال من المؤمنين بالفعل والمستعدين للإيمان، وأما غيرهم فإن نظرهم كنظر الطفل وإن كانوا من العالمين بأسرار عالم النبات، والغواصين على ما فيه من المحاسن والنظام. لا يتجاوز هذه الظواهر، ولا يعبرها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق، ومن إثبات صفاته التي تتجلى فيها، ووحدته التي ينتهي النظام إليها، وإن كانوا يعلمون أن وحدة النظام في الأشياء المختلفة، لا يمكن أن تصدر عن إرادات متعددة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا نجد من خلال هذه الجولة القرآنية مع النظام الكوني، في النبات والإنسان وفي النجوم وحركة الزمن، أن بإمكان الباحث عن الحقيقة أن يجد الله في كل شيءٍ من حوله، لأنها تمثِّل الآيات البارزة الواضحة في الدلالة على وجوده وقدرته وحكمته، وبذلك تتحرك العقيدة في وعي الإنسان، مع كل الظواهر الكونية والحياتية التي تحيط به، أو تتمثل في كيانه، بما يجعل من قضية الإلحاد والشرك، قضية جهلٍ، أو تجاهلٍ، أو هروبٍ من الجوّ الفكري المسؤول الذي يدفع إلى التفكير ويوحي بالحقّ، لأنه لا يستند إلى أساسٍ، أيّ أساسٍ كان.