{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ }
وهذه الشرائع من أصول الدين ، التي أمر الله بها في كل شريعة ، لاشتمالها على المصالح العامة ، في كل زمان ومكان ، فلا يدخلها نسخ ، كأصل الدين ، ولهذا أمرنا بها في قوله : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى آخر الآية .
فقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به ، استعصوا ، فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة ، والعهود الموثقة { لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } هذا أمر بعبادة الله وحده ، ونهى عن الشرك به ، وهذا أصل الدين ، فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها ، فهذا حق الله تعالى على عباده ، ثم قال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : أحسنوا بالوالدين إحسانا ، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم ، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين ، أو عدم الإحسان والإساءة ، لأن الواجب الإحسان ، والأمر بالشيء نهي عن ضده .
وللإحسان ضدان : الإساءة ، وهي أعظم جرما ، وترك الإحسان بدون إساءة ، وهذا محرم ، لكن لا يجب أن يلحق بالأول ، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى ، والمساكين ، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد ، بل تكون بالحد ، كما تقدم .
ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما فقال : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتعليمهم العلم ، وبذل السلام ، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب .
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله ، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق ، وهو الإحسان بالقول ، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار ، ولهذا قال تعالى : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده ، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله ، غير فاحش ولا بذيء ، ولا شاتم ، ولا مخاصم ، بل يكون حسن الخلق ، واسع الحلم ، مجاملا لكل أحد ، صبورا على ما يناله من أذى الخلق ، امتثالا لأمر الله ، ورجاء لثوابه .
ثم أمرهم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود ، والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد .
{ ثُمَّ } بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل ، عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها ، ، وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليكم { تَوَلَّيْتُمْ } على وجه الإعراض ، لأن المتولي قد يتولى ، وله نية رجوع إلى ما تولى عنه ، وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر ، فنعوذ بالله من الخذلان .
وقوله : { إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ } هذا استثناء ، لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم ، فأخبر أن قليلا منهم ، عصمهم الله وثبتهم .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ }( 83 )
المعنى : «واذكروا إذ أخذنا » ، وقال مكي رحمه الله : «هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر » ، وهذا ضعيف ، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام ، وأخذ الميثاق قول ، فالمعنى قلنا لهم { لا تعبدون } ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «لا يعبدون » بالياء من أسفل ، وقرأ الباقون بالتاء من فوق ، حكاية ما قيل لهم ، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «لا تعبدوا » على النهي . قال سيبويه : { لا تعبدون } متعلق لقسم ، والمعنى وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون ، وقالت طائفة : تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله ، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها ، { فلا تعبدون } على هذا معمول لحرف النصب( {[869]} ) ، وحكي عن قطرب أن { لا تعبدون إلا الله } في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحدين( {[870]} ) ، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير ، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة( {[871]} ) ، وقال قوم { لا تعبدون إلا الله } نهي في صيغة خبر( {[872]} ) ، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي لا تعبدوا .
والباء في قوله { وبالوالدين } قيل هي متعلقة بالميثاق عطفاً على الباء المقدرة أولاً على قول من قال التقدير بأن لا تعبدوا ، وقيل : تتعلق بقوله و { إحساناً } والتقدير قلنا لهم لا تعبدون إلا الله ، وأحسنوا إحساناً بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له( {[873]} ) ، وقيل تتعلق الباء بأحسنوا المقدر والمعنى وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وهذا قول حسن ، وقدم اللفظ { وبالوالدين } تهمماً فهو نحو قوله تعالى { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها ، { وذي القربى } عطف على الوالدين ، و { القربى } بمعنى القرابة ، وهو مصدر كالرجعى والعقبى ، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم ، { واليتامى }( {[874]} ) : جمع يتيم كنديم وندامى ، واليتم في بني آدم فقد الأب ، وفي البهائم فقد الأم ، وقال عليه السلام : «لا يتم بعد بلوغ »( {[875]} ) ، وحكى الماوردي( {[876]} ) أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم ، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم ، { والمساكين } : جمع مسكين وهو الذي لا شيء له ، لأنه مشتق من السكون وقد قيل : إن المسكين هو الذي له بلغة( {[877]} ) من العيش ، وهو على هذا مشتق من السكن ، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين .
وقوله تعالى : { وقولوا للناس حسناً } ، أمر عطف على ما تضمنه { لا تعبدون إلا الله } وما بعده من معنى الأمر والنهي ، أو على أحسنوا المقدر في قوله { وبالوالدين } ، وقرأ حمزة والكسائي «حَسَناً » بفتح الحاء والسين ، قال الأخفش : هما بمعنى واحد كالبخل والبخل ، قال الزجاج وغيره : بل المعنى في القراءتين وقولوا قولاً حسناً بفتح السين أو قولاً ذا «حُسن » بضم الحاء( {[878]} ) ، وقرأ قوم «حسنى » مثل فعلى ، ورده سيبويه لأنه أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدراً كالعقبى ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها( {[879]} ) ، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح «حُسُناً » بضم الحاء والسين ، وقال ابن عباس : معنى الكلام قولوا لهم لا إلا إلا الله ومروهم بها ، وقال ابن جريج : قولوا لهم حسناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال سفيان الثوري : معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ، وقال أبو العالية : معناه قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به ، وهذا حض على مكارم الأخلاق ، وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله تعالى { وقولوا للناس حسناً } : منسوخ بآية السيف .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام ، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه ، وقد تقدم القول في إقامة الصلاة( {[880]} ) ، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم( {[881]} ) ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : «الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص » .
وقوله تعالى : { ثم توليتم }( {[882]} ) الآية خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم ، إذ هم كلهم بتلك السبيل ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، و { ثم } مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف ، وضمت التاء الأخيرة من { توليتم } لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم ، و { قليلاً } نصب على الاستثناء قال سيبويه : المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به ، قال المبرد : هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا ، والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديماً من أسلافهم وحديثاً كابن سلام وغيره ، والقلة على هذا هي في عدد الأشخاص ، ويحتمل( {[883]} ) أن تكون القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى ، وقرأ قوم «إلا قليلٌ » برفع القليل ، ورويت عن أبي عمرو ، وهذا على بدل قليل من الضمير في { توليتم } ، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن { توليتم } معناه النفي كأنه قال ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل( {[884]} ) ،