ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه ، الذي هو الحق ، فقال : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ْ } أي : هذا غايته ومنتهى أمره ، أنه من عباد الله المرسلين ، الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع ، إلا ما أرسلهم به الله ، وهو من جنس الرسل قبله ، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية .
{ وَأُمَّهُ ْ } مريم { صِدِّيقَةٌ ْ } أي : هذا أيضا غايتها ، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء . والصديقية ، هي العلم النافع المثمر لليقين ، والعمل الصالح . وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية ، بل أعلى أحوالها الصديقية ، وكفى بذلك فضلا وشرفا . وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية ، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين ، في الرجال كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ْ } فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله ، وأمه صديقة ، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله ؟
وقوله : { كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ْ } دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران ، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب ، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب ، ولم يحتاجا إلى شيء ، فإن الإله هو الغني الحميد .
ولما بين تعالى البرهان قال : { انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ْ } الموضحة للحق ، الكاشفة لليقين ، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا ، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم ، وذلك ظلم وعناد منهم .
ثم أخبر تعالى عن حقيقة أمر المسيح وأنه رسول بشر كالرسل المتقدمة قبله ، و { خلت } معناه مضت وتقدمت في الخلاء من الأرض ، وقرأ حطان بن عبد الله الرقاشي «قد خلت من قبله رسل » بتنكير الرسل ، وكذلك قرأ { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل }{[1]} وقد مضى القول على وجه هذه القراءة هناك ، وقوله تعالى : { وأمه صديقة } صفة ببناء مبالغة من الصدق ، ويحتمل أن يكون من التصديق وبه سمي أبو بكر رضي الله عنه لتصديقه ، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال هي نبية ، وقد يوجد في صحيح الحديث قصص قوم كلمتهم ملائكة في غير ما فن كقصة الثلاثة : الأقرع والأعمى والأبرص وغيرهم{[2]} ، ولا تكون هنالك نبوة ، فكذلك أمر مريم ، وقوله تعالى : { كانا يأكلان الطعام } تنبيه على نقص البشرية على حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية ، وذكر مكي والمهدي وغيرهما أنها عبارة عن الاحتياج إلى الغائط وهذا قول بشع ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي ولا محالة أن الناظر إذا تأمل بذهنه لواحق التغذي وجد ذلك وغيره ، ثم أمر تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وفي الضمن أمته بالنظر في ضلال هؤلاء القوم وبعدهم عن سنن الحق ، وأن الآيات تبين لهم وتبرز في غاية الوضوح ، ثم هم بعد ذلك يصرفون أي تصرفهم دواعيهم ويزيلهم تكسلهم عن الحق ، و { كيف } في هذه الآية ليست سؤالاً عن حال لكنها عبارة عن حال شأنها أن يسأل عنها بكيف ، وهذا كقولك : كن كيف شئت فأنت صديق ، و { أنى } معناها من أي جهة ، قال سيبويه معناها كيف ومن أين ، و { يؤفكون } معناه : يصرفون ، ومنه قوله عز وجل : { يؤفك عنه من أفك }{[3]} والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن ينالها المطر ، والمطر في الحقيقة هو المصروف ، ولكن قيل أرض مأفوكة لما كانت مأفوكة عنها{[4]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.