ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه الإله المعبود وأن عبادته هي الحق وعبادة [ ما ] سواه هي الباطل فقال : { 60 } { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }
أي : أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والملائكة والأرض وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك .
{ أمن } بل أمن . { خلق السماوات والأرض } التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع . وقرأ أمن بالتخفيف على انه بدل من الله . { وأنزل لكم } لأجلكم . { من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة } عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته ، والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما أشار اليه بقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } شجر الحدائق وهي البساتين من الإحداق وهو الإحاطة . { أإله مع الله } أغيره يقرن به ويجعل له شريكا ، وهو المنفرد بالخلق والتكوين . وقرئ " أإلها " بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة الهمزتين وإخراج الثانية بين بين . { بل هم قوم يعدلون } عن الحق الذي هو التوحيد .
وقوله تعالى . { أمن خلق } وما بعدها من التوقيفات ، توبيخ لهم وتقرير على ما لا مندوحة لهم عن الإقرار به ، وقرأ الجمهور «أمّن » بشد الميم وهي «أم » دخلت على «من » ، وقرأ الأعمش «أمَن » بفتح الميم مسهلة وتحتمل هذه القراءة أن تكون «أمن » استفهاماً فتكون في معنى «أم من » المتقدمة ، ويحتمل أن تكون الألف للاستفهام ومن ابتداء وتقدير الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا من المعنى{[9043]} ، و «الحدائق » مجتمع الشجر من الأعناب والنخيل وغير ذلك ، قال قوم لا يقال حديقة إلا لما عليه جدار قد أحدق به ، وقال قوم يقال ذلك كان جداراً أو لم يكن لأن البياض محدق بالأشجار والبهجة الجمال والنضرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات بهَجة » بجمع «ذات » وفتح الهاء من «بهجة » ، ثم أخبر على جهة التوقيف أنه { ما كان } للبشر أي ما يتهيأ لهم ولا يقع تحت قدرهم أن ينبتوا شجرها ، لأن ذلك بإخراج شيء من العدم إلى الوجود ، وقد تقدم ترتيب القراءة في الهمزتين من قوله «أئن{[9044]} .
«أئنك لأنت يوسف »{[9045]} ، وقوله [ أإله ]{[9046]} قال أبو حاتم القراءة باجتماع الهمزتين محدثة . لا توجد في كلام العرب ولا قرأ بها قارىء عتيق ، و { يعدلون } يجوز أن يراد به يعدلون عن طريق الحق أن يجورون في فعلهم ، ويجوز أن يراد يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً .
{ أم } منقطعة بمعنى ( بل ) للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض مع مراعاة وجود معنى الاستفهام أو لفظه بعدها لأن ( أم ) لا تفارق معنى الاستفهام . انتقل بهذا الإضراب من الاستفهام الحقيقي التهكمي إلى الاستفهام التقريري ، ومن المقدمة الإجمالية وهي قوله { ءالله خير أم ما تشركون } [ النمل : 59 ] ، إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال . عدد الله الخيرات والمنافع من آثار رحمته ومن آثار قدرته . فهو استدلال مشوب بامتنان لأنه ذكرهم بخلق السموات والأرض فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتوي عليها الأرض من الناس والعجماوات ، فهو امتنان بنعمة إيجادهم وإيجاد ما به قوام شؤونهم في الحياة ، وبسابق رحمته ، كما عددها في موضع آخر عليهم بقوله { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الروم : 40 ] .
و { من } للاستفهام . وهي مبتدأ والخبر جملة { خلق السموات . . } الخ وهو استفهام تقريري على أن الله إله واحد لا شريك له ، ولا تقدير في الكلام . وذهب الزمخشري وجميع متابعيه إلى أن ( من ) موصولة وأن خبرها محذوف دل عليه قوله فيما تقدم { ءالله خير } [ النمل : 59 ] وأن بعد ( أم ) همزة استفهام محذوفة ، والتقدير : بل أمّن خلق السموات الخ خير أم ما تشركون . وهو تفسير لا داعي إليه ولا يناسب معنى الإضراب لأنه يكون من جملة الغرض الأول على ما فسر به في « الكشاف » فلا يجدر به إضراب الانتقال .
فالاستفهام تقرير كما دل عليه قوله في نهايته في { أإله مع الله } فهو تقرير لإثبات أن الخالق والمنبت والرازق هو الله ، وهو مشوب بتوبيخ ، فلذلك ذيل بقوله { بل هم قوم يعدلون } كما سيأتي ، أي من غرض الدليل الإجمالي إلى التفصيل .
والخطاب ب { لكم } موجه إلى المشركين للتعريض بأنهم ما شكروا نعمة الله .
وذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلقه الله ، ولقطع شبهة أن يقولوا : إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء ، اغتراراً بالسبب فبودروا بالتذكير بأن الله خلق الأسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب ، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب ، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما ، ولذلك جمع بين قوله { وأنزل } وقوله { فأنبتنا } تنبيهاً على إزالة الشبهة .
ونون الجمع في { أنبتنا } إلتفات من الغيبة إلى الحضور . ومن لطائفه هنا التنصيص على أن المقصود إسناد الإنبات إليه لئلا ينصرف ضمير الغائب إلى الماء لأن التذكير بالمنبت الحقيقي الذي خلق الأسباب أليق بمقام التوبيخ على عدم رعايتهم نعمه .
والحدائق : جمع حديقة وهي البستان والجنة التي فيها نخل وعنب . سميت حديقة لأنهم كانوا يحدقون بها حائطاً يمنع الداخل إليها صوناً للعنب لأنه ليس كالنخل الذي يعسر اجتناء ثمره لارتفاع شجره فهي بمعنى : محدق بها .
ولا تطلق الحديقة إلا على ذلك .
والبهجة : حسن المنظر لأن الناظر يبتهج به .
ومعنى { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } ليس في ملككم أن تنبتوا شجر تلك الحدائق ، فاللام في { لكم } للملك و { أن تنبتوا } اسم { كان } و { لكم } خبرها . وقدم الخبر على الاسم للاهتمام بنفي ملك ذلك .
وجملة { أإله مع الله } استئناف هو كالنتيجة للجملة قبلها لأن إثبات الخلق والرزق والإنعام لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه .
والاستفهام إنكاري . و { بل } للإضراب عن الاستفهام الإنكاري تفيد معنى ( لكن ) باعتبار ما تضمنه الإنكار من انتفاء أن يكون مع الله إله فكان حق الناس أن لا يشركوا معه في الإلهية غيره فجيء بالاستدراك لأن المخاطبين بقوله { وأنزل لكم } وقوله { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } لم ينتفعوا بالدليل مع أنه دليل ظاهر مكشوف ، فهم مكابرون في إعراضهم عن الاهتداء بهذا الدليل ، فهم يعدلون بالله غيره ، أي يجعلون غيره عديلاً مثيلاً له في الإلهية مع أن غيره عاجز عن ذلك فيكون { يعدلون } من عدل الذي يتعدى بالباء ، أو يعدلون عن الحق من عدل الذي يعدّى ب ( عن ) .
وسُئل بعض العرب عن الحجاج فقال : « قاسط عادل » ، فظنوه أثنى عليه فبلغت كلمته للحجاج ، فقال : أراد قوله تعالى { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } [ الجن : 15 ] أي وذلك قرينة على أن المرار ب ( عادل ) أنه عادل عن الحق .
وأيَّاً مَّا كان فالمقصود توبيخهم على الإشراك مع وضوح دلالة خلق السموات والأرض وما ينزل من السماء إلى الأرض من الماء .
ولما كانت تلك الدلالة أوضح الدلالات المحسوسة الدالة على انفراد الله بالخلق وصف الذين أشركوا مع الله غيره بأنهم في إشراكهم معرضون إعراض مكابرة عدولاً عن الحق الواضح قال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] .
والإخبار عنهم بالمضارع لإفادة أنهم مستمرون على شركهم لم يستنيروا بدليل العقل ولا أقلعوا بعد التذكير بالدلائل . وفي الإخبار عنهم بأنهم قوم إيماء إلى تمكن صفة العدول عن الحق منهم حتى كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم غير مرة .