ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
يقص تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم ، بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره ، يقصدون بهذا الخروج السلامة من الموت ، ولكن لا يغني حذر عن قدر ، { فقال الله لهم موتوا } فماتوا { ثم } إن الله تعالى { أحياهم } إما بدعوة نبي أو بغير ذلك ، رحمة بهم ولطفا وحلما ، وبيانا لآياته لخلقه بإحياء الموتى ، ولهذا قال : { إن الله لذو فضل } أي : عظيم { على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون } فلا تزيدهم النعمة شكرا ، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه ، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم .
{ أَلَمْ تَرَ } تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ ، وقد يخاطب به من لم ير ومن لم يسمع فإنه صار مثلاً في التعجب . { إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } يريد أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره . أو قوماً من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم . { وَهُمْ أُلُوفٌ } أي ألوف كثيرة . قيل عشرة . وقيل ثلاثون . وقيل سبعون وقيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد وقعود والواو للحال . { حَذَرَ الموت } مفعول له . { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله : { كُنْ فَيَكُونُ } والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة ، بأمر الله تعالى ومشيئته . وقيل ناداهم به ملك وإنما أسند إلى الله تعالى تخويفاً وتهويلاً . { ثُمَّ أحياهم } قيل مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى ، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إِلا أنت . وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء . { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليهم حالهم ليستبصروا { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يشكرونه كما ينبغي ، ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( 243 )
هذه رؤية القلب بمعنى : ألم تعلم ، والكلام عند سيبويه بمعنى تنبه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين( {[2350]} ) ، وقصة هؤلاء فيما قال الضحاك( {[2351]} ) هي أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد ، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ، 244 ] الآية ، وحكى قوم من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ، فخرجوا من ديارهم فراراً منه ، فأماتهم الله ، فبنى عليهم سائر بني إسرائيل حائطاً ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي عليه السلام ، فدعا الله فأحياهم له ، وقال السدي : «هم أمة كانت قبل واسط في قرية يقال لها داوردان ، وقع بها الطاعون فهربوا منه وهم بضعة وثلاثون ألفاً » . في حديث طويل ، ففيهم نزلت الآية . وقال إنهم فروا من الطاعون الحسن وعمرو بن دينار . وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى . وحكى فيهم مجاهد أنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون . لكن سحنة الموت( {[2352]} ) على وجوههم . ولا يلبس أحد منهم ثوباً إلا عاد كفناً رميماً حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم ، وروى ابن جريج عن ابن عباس أنهم كانوا من بني إسرائيل ، وأنهم كانوا أربعين ألفاً وثمانية آلاف ، وأنهم أميتوا ثم أحيوا وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم ، فأمرهم الله بالجهاد ثانية فذلك قوله { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190- 244 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القصص كله لين الأسانيد( {[2353]} ) ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أخباراً في عبارة التنبيه والتوقيف ، عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ، ليروا هم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولاغترار مغتر ، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد بالجهاد . هذا قول الطبري ، وهو ظاهر رصف الآية ، ولموردي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها لضعفها . واختلف الناس في لفظ { ألوف } . فقال الجمهور : هي جمع ألف . وقال بعضهم : كانوا ثمانين ألفاً . وقال ابن عباس : «كانوا أربعين ألفاً » . وقيل : كانوا ثلاثين ألفاً . وهذا كله يجري مع { ألوف } إذ هو جمع الكثير ، وقال ابن عباس أيضاً : «كانوا ثمانية آلاف » ، وقال أيضاً : أربعة آلاف ، وهذا يضعفه لفظ { ألوف } لأنه جمع الكثير( {[2354]} ) . وقال ابن زيد في لفظ { ألوف } : «إنما معناها وهم مؤتلفون » أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم .
إنما كانوا مؤتلفين ، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فراراً من الموت وابتغاء الحياة ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم( {[2355]} ) .
وقوله تعالى : { فقال لهم الله موتوا } الآية ، إنما هي مبالغة في العبارة عن فعله بهم . كان ذلك الذي نزل بهم فعل من قيل له : مت ، فمات ، وحكي أن ملكين صاحا بهم : موتوا ، فماتوا . فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين . وهذا الموت ظاهر الآية ، وما روي في قصصها أنه موت حقيقي فارقت فيها الأرواح الأجساد ، وإذا كان ذلك فليس بموت آجالهم ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض حادث مما يحدث على البشر( {[2356]} ) . وقوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } الآية ، تنبيه على فضل الله على هؤلاء القوم الذين تفضل عليهم بالنعم وأمرهم بالجهاد ، وأمرهم بأن لا يجعلوا الحول والقوة إلاّ له ، حسبما أمر جميع العالم بذلك ، فلم يشكروا نعمته في جميع هذا ، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم ينجيهم . وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل ، أي فيجب أن يشكر الناس فضل الله في إيجاده لهم ورزقه إياهم وهدايته بالأوامر والنواهي ، فيكون منهم الجري إلى امتثالها لا طلب الخروج عنها ، وتخصيصه تعالى الأكثر دلالة على الأقل الشاكر .