تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَٱتَّقُونِ} (41)

ثم أمرهم بالأمر الخاص ، الذي لا يتم إيمانهم ، ولا يصح إلا به فقال : { وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ } وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بالإيمان به ، واتباعه ، ويستلزم ذلك ، الإيمان بمن أنزل عليه ، وذكر الداعي لإيمانهم به ، فقال : { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } أي : موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا ، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب ، غير مخالف لها ، فلا مانع لكم من الإيمان به ، لأنه جاء بما جاءت به المرسلون ، فأنتم أولى من آمن به وصدق به ، لكونكم أهل الكتب والعلم .

وأيضا فإن في قوله : { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به ، عاد ذلك عليكم ، بتكذيب ما معكم ، لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم .

وأيضا ، فإن في الكتب التي بأيدكم ، صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به ، فإن لم تؤمنوا به ، كذبتم ببعض ما أنزل إليكم ، ومن كذب ببعض ما أنزل إليه ، فقد كذب بجميعه ، كما أن من كفر برسول ، فقد كذب الرسل جميعهم .

فلما أمرهم بالإيمان به ، نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال : { وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي : بالرسول والقرآن .

وفي قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أبلغ من قوله : { ولا تكفروا به } لأنهم إذا كانوا أول كافر به ، كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به ، عكس ما ينبغي منهم ، وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم .

ثم ذكر المانع لهم من الإيمان ، وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية ، فقال : { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل ، التي يتوهمون انقطاعها ، إن آمنوا بالله ورسوله ، فاشتروها بآيات الله واستحبوها ، وآثروها .

{ وَإِيَّايَ } أي : لا غيري { فَاتَّقُونِ } فإنكم إذا اتقيتم الله وحده ، أوجبت لكم تقواه ، تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل ، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل ، فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَٱتَّقُونِ} (41)

{ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم } إفراد للإيمان بالأمر به والحث عليه لأنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود ، وتقييد المنزل بأنه مصدق لما معهم من الكتب الإلهية من حيث إنه نازل حسبما نعت فيها ، أو مطابق لها في القصص والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش ، وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إن كل واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها ، مراعى فيها صلاح من خوطب بها ، حتى لو نزل المتقدم في أيام المتأخر لنزل على وفقه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي " ، تنبيه على أن اتباعها لا ينافي الإيمان به ، بل يوجبه ولذلك عرض بقوله :

{ ولا تكونوا أول كافر به } بأن الواجب أن يكونوا أول من آمن به ، ولأنهم كانوا أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه والمستفتحين به والمبشرين بزمانه . و{ أول كافر به } وقع خبرا عن ضمير الجمع بتقدير : أول فريق أو فوج ، أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر به ، كقولك كسانا حلة فإن قيل كيف نهوا عن التقدم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب ؟ قلت المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر كقولك أما أنا فلست بجاهل أو لا تكونوا أول كافر به . من أهل الكتاب ، أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه ، أو مثل من كفر من مشركي مكة . و{ أول } : أفعل لا فعل له ، وقيل : أصله أو أل من وأل ، فأبدلت همزته واوا تخفيفا غير قياسي أو أأول من آل فقلبت همزته واوا وأدغمت .

{ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليل } ولا تستبدلوا بالإيمان بها والاتباع لها حظوظ الدنيا ، فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان . قيل : كان لهم رياسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم ، فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاروها عليه . وقيل : كانوا يأخذون الرشى فيحرفون الحق ويكتمونه .

{ وإياي فاتقون } بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الدنيا . ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية ، فصلت بالرهبة التي هي مقدمة التقوى ، ولأن الخطاب بها عم العالم والمقلد . وأمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك ، والخطاب بالثانية لما خص أهل العلم ، أمرهم بالتقوى التي هي منتهاه .