تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أي : بالإيمان والخير { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي : تتركونها عن أمرها بذلك ، والحال : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } وسمى العقل{[88]} عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير ، وينعقل به عما يضره ، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به ، وأول تارك لما ينهى عنه ، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله ، أو نهاه عن الشر فلم يتركه ، دل على عدم عقله وجهله ، خصوصا إذا كان عالما بذلك ، قد قامت عليه الحجة .

وهذه الآية ، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل ، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين ، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين : أمر غيره ونهيه ، وأمر نفسه ونهيها ، فترك أحدهما ، لا يكون رخصة في ترك الآخر ، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين ، والنقص الكامل أن يتركهما ، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر ، فليس في رتبة الأول ، وهو دون الأخير ، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله ، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة .


[88]:- في ب: وسمي.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

{ أتأمرون الناس بالبر } تقرير مع توبيخ وتعجيب . والبر : التوسع في الخير ، من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ، ولذلك قيل ثلاثة : بر في عبادة الله تعالى ، وبر في مراعاة الأقارب . وبر في معاملة الأجانب .

{ وتنسون أنفسكم } وتتركونها من البر كالمنسييات ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أحبار المدينة ، كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه .

وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون { وأنتم تتلون الكتاب } تبكيت كقوله : { وأنتم تعلمون } أي تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل .

{ أفلا تعقلون } قبح صنيعكم فيصدكم عنه ، أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون وخامة عاقبته . والعقل في الأصل الحبس ، سمي به الإدراك الإنساني لأنه يحبسه عما يقبح ، ويعقله على ما يحسن ، ثم القوة التي بها النفس تدرك هذا الإدراك . والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث نفسه ، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل ، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته ، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم غيره ، لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر .