{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
توبة الله على عباده نوعان : توفيق منه للتوبة ، وقبول لها بعد وجودها من العبد ، فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه ، كرما منه وجودا ، لمن عمل السوء أي : المعاصي { بِجَهَالَةٍ } أي : جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه ، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له ، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه ، فكل عاص لله ، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم . بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } يحتمل أن يكون المعنى : ثم يتوبون قبل معاينة الموت ، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا . وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع ، كما قال تعالى عن فرعون : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } الآية . وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }
يقول تعالى : إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك [ لقبض ]{[6792]} روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة .
قال مجاهد وغير واحد : كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب .
وقال قتادة عن أبي العالية : أنه كان يحدث : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة . رواه ابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة ، عمدًا كان أو غيره{[6793]} .
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية الله{[6794]} فهو جاهل حين عملها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : مِنْ جَهالته عمل السوء .
وقال علي بن أبي طَلْحَة ، عن ابن عباس { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت ، وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب . وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته . وهو مروى عن ابن عباس . وقال الحسن البصري : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } ما لم يُغَرْغر . وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب .
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عَيَّاش{[6795]} وعصام بن خالد ، قالا حدثنا ابن ثَوْبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جُبَير بن نُفَيْر{[6796]} عن ابن عُمَرَ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرغِر " .
[ و ]{[6797]} رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، به{[6798]} وقال الترمذي : حسن غريب . ووقع في سنن ابن ماجه : عن عبد الله بن عَمْرو . وهو وَهْم ، إنما هو عبد الله بن عُمَر بن الخطاب .
حديث آخر{[6799]} عن ابن عُمَر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر{[6800]} حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي{[6801]} حدثنا أيوب بن نَهِيك الحلبي قال : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : سمعت عبد الله بن عُمَر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِن يَتُوبُ قَبْلَ الموتِ بشهر إلا قَبِلَ الله منه ، وأدْنَى من ذلك ، وقَبْل موته بيوم وساعة ، يعلم الله منه التوبة والإخلاصَ إليه إلا قَبِل منه " {[6802]} .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرنا إبراهيم بن ميمون ، أخبرني رجل من مِلْحَان{[6803]} يقال له : أيوب - قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بشهر تِيب عليه ، ومن تاب قَبْلَ موته بجمعة تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه . فقلت له : إنما قال الله : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } فقال : إنما أُحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . {[6804]}
وهكذا رواه أبو داود{[6805]} الطيالسي ، وأبو عمر الحَوْضي ، وأبو عامر العَقدي ، عن شعبة .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُسين بن محمد ، حدثنا محمد بن مطَرَّف ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني{[6806]} قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يَقْبَلُ تَوْبَة العبدِ قبل أن يموتَ بيومٍ " . فقال الآخر : أنتَ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بِنِصْفِ يوم " فقال الثالث : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضَحْو " . قال{[6807]} الرابع : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله [ تعالى ]{[6808]} يقبل توبة العبد ما لم{[6809]} يُغَرغر بنفسه " . وقد رواه سعيد بن منصور عن الدَرَاوَرْدي ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني{[6810]} فذكر قريبًا منه{[6811]} .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا عمران بن عبد الرحيم ، حدثنا عثمان بن الهيثم ، حدثنا عَوْف ، عن محمد بن سِيرِين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يَقبل تَوْبَة عَبْدِهِ ما لم يُغَرْغِرْ " {[6812]} .
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن عَوْف ، عن الحسن قال :
بلغني أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يَقْبلُ توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ " هذا مرسل حسن{[6813]} . عن الحسن البصري ، رحمه الله .
آخر : قال ابن جرير أيضًا ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بشير بن كعب ؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ " {[6814]} .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثله{[6815]} .
أثر آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قِلابة ، فحدث أبو قِلابة فقال : إن الله تعالى لما لَعَنَ إبليس سأله النَّظرة فقال : وعِزَّتِك وجلالك لا أَخْرُجُ من قَلْبِ ابن آدمَ ما دام فيه الروح . فقال الله : وعزتي{[6816]} لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .
وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوارِي كلاهما عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال إبليس : وعِزَّتِك لا أزَالُ أُغْوِيهم ما دامت أرْوَاحهُمْ في أجسادهم . فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ، لا أزال{[6817]} أغْفِرُ لهم ما اسْتَغْفَرُوني " {[6818]} .
فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة ، فإن توبته مقبولة [ منه ]{[6819]} ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } فأما متى وقع الإياس من الحياة ، وعاين الملك ، وحَشْرَجَتِ الروح في الحلق ، وضاق بها الصدر ، وبلغت الحلقوم ، وَغَرْغَرَتِ النفس صاعدة في الغَلاصِم - فلا توبة متقبلة حينئذ ، ولات حين مناص ؛
ولهذا قال [ تعالى ]{[6820]} { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ }
استطراد جرّ إليه قوله : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } [ النساء : 16 ] والتوبة تقدّم الكلام عليها مستوفى في قوله ، في سورة آل عمران ( 90 ) : { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } و { إنَّما } للحصر .
و { على } هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهّد والتحقّق كقولك : عليّ لك كذا فهي تفيد تحقّق التعهّد . والمعنى : التوبة تحقّ على الله ، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتّى جعلت كالحقّ على الله ، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله . قال ابن عطية : إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يَقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وُجوبا .
وقد تسلّط الحصر على الخبر ، وهو { للذين يعملون } ، وذكر له قيدان وهما { بجهالة } و { من قريب } . والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويَّة ، وهي ما قابل الحِلم ، ولذلك تطلق الجهالة على الظُلم . قال عمرو بن كلثوم :
أَلا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا *** فَنَجْهل فوْقَ جهل الجاهلينا
وقال تعالى ، حكاية عن يوسف « وإلاَّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إليْهن وأكُنْ من الجاهلين » . والمراد هنا ظلم النفس ، وذكر هذا القيد هنا لمجرّد تشويه عمل السوء ، فالباء للملابسة ، إذ لا يكون عمل السوء إلاّ كذلك . وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجَهل ، وهو انتفاء العلم بما فعله ، لأنّ ذلك لا يسمّى جهالة ، وإنّما هو من معاني لفظ الجَهل ، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنّها معصية لم يكن آثماً ولا يجب عليه إلاّ أن يتعلّم ذلك ويجتنّبه .
وقوله : { من قريب } ، من فيه للابتداء و { قريب } صفة لمحذوف ، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء .
وتأوّل بعضهم معنى { من قريب } بأنّ القريب هو ما قبل الاحتضار ، وجعلوا قوله بعده { حتى إذا حضر أحدهم الموت } يبيّن المراد من معنى ( قريب ) .
واختلف المفسّرون من السلف ومَن بَعدهم في إعمال مفهوم القيدين « بجهالة من قريب » حتّى قيل : إنّ حكم الآية منسوخ بآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، والأكثر على أنّ قيد ( بجهالة ) كوصف كاشف لعمل السوء لأنّ المراد عمل السوء مع الإيمان . فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوْا أنّ كلّ عمل عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيرَه . والذي يظهر أنّهما قيدان ذكراً للتنبيه على أنّ شأن المسلم أن يكون عمله جارياً على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة ،