ثم كرر [ ذكر ] عموم إلهيته وانفراده بها ، وأنه المالك لجميع الممالك ، فالعالم العلوي والسفلي وأهله ، الجميع ، مماليك لله ، فقراء مدبرون .
{ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ } أي : المقدس السالم من كل عيب وآفة ونقص ، المعظم الممجد ، لأن القدوس يدل على التنزيه عن كل نقص ، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله .
{ الْمُؤْمِنُ } أي : المصدق لرسله وأنبيائه بما جاءوا به ، بالآيات البينات ، والبراهين القاطعات ، والحجج الواضحات .
{ الْعَزِيزُ } الذي لا يغالب ولا يمانع ، بل قد قهر كل شيء ، وخضع له كل شيء ، { الْجَبَّارُ } الذي قهر جميع العباد ، وأذعن له سائر الخلق ، الذي يجبر الكسير ، ويغني الفقير ، { الْمُتَكَبِّرُ } الذي له الكبرياء والعظمة ، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور .
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وهذا تنزيه عام عن كل ما وصفه به من أشرك به وعانده .
وقوله{[28624]} { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ } أي : المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة .
وقوله : { الْقُدُّوسُ } قال وهب بن منبه : أي الطاهر . وقال مجاهد ، وقتادة : أي المبارك : وقال ابن جريج : تقدسه الملائكة الكرام .
{ السَّلامُ } أي : من جميع العيوب والنقائص ؛ بكماله{[28625]} في ذاته وصفاته وأفعاله .
وقوله : { الْمُؤْمِنُ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : [ أي ] {[28626]} أمن خلقه من أن يظلمهم . وقال قتادة : أمَّن بقوله : إنه حق . وقال ابن زيد : صَدّق عبادَه المؤمنين في أيمانهم به .
وقوله : { الْمُهَيْمِنُ } قال ابن عباس وغير واحد : أي{[28627]} الشاهد على خلقه بأعمالهم ، بمعنى : هو رقيب عليهم ، كقوله : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ البروج : 9 ] ، وقوله { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } [ يونس : 46 ] .
وقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } الآية [ الرعد : 33 ] .
وقوله : { الْعَزِيزُ } أي : الذي قد عزّ كل شيء فقهره ، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه ؛ لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه ؛ ولهذا قال : { الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } أي : الذي لا تليق الجَبْرّية إلا له ، ولا التكبر إلا لعظمته ، كما تقدم في الصحيح : " العَظَمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدًا منهما عَذَّبته " .
وقال قتادة : { الجبار } : الذي جَبَر خلقه على ما يشاء .
وقال ابن جرير : { الجبار } : المصلحُ أمورَ خلقه ، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم .
وقال قتادة : { المتكبر } : يعني عن كل سوء .
ثم قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } {[28628]} .
{ هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجَبّارُ المتُتَكَبِرُّ } .
القول في ضمير { هو } كالقول في نظيره في الجملة الأولى . وهذا تكرير للاستئناف لأن المقام مقام تعظيم وهو من مقامات التكرير ، وفيه اهتمام بصفة الوحدانية .
و { الملك } : الحاكِم في الناس ، ولا مَلِك على الإِطلاق إلاّ الله تعالى وأما وصف غيره بالمَلِك فهو بالإِضافة إلى طائفة معيَّنة من الناس . وعُقب وصفا الرحمة بوصف { الملك } للإِشارة إلى أن رحمته فضل وأنه مطلق التصرف كما وقع في سورة الفاتحة .
و { القدوس } بضم القاف في الأفصح ، وقد تفتح القاف قال ابن جنّي : فَعُّول في الصفة قليل ، وإنما هو في الأسماء مثل تَنُّور وسَفُّود وعَبُّود . وذكر سيبويه السَّبُّوح والقَدوس بالفتح ، وقال ثعلب : لم يَرد فَعُّول بضم أوله إلا القُدوس والسُّبوح . وزاد غيره الذُّرُّوح ، وهو ذُباب أحمر متقطع الحمرة بسواد يشبه الزنبور . ويسمى في اصطلاح الأطباء ذباب الهند . وما عداهما مفتوح مثل سَفُّود وكَلُّوب . وتَنُّور وسَمُّور وشَبُّوط ( صنف من الحوت ) وكأنه يريد أن سبوح وقدوس صارا اسمين .
وعقب ب { القدوس } وصف { الملك } للاحتراس إشارة إلى أنه مُنزه عن نقائص الملوك المعروفة من الغرور ، والاسترسال في الشهوات ونحو ذلك من نقائص النفوس .
و { السلام } مصدر بمعنى المسالَمَة وُصف الله تعالى به على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة في الوصف ، أي ذو السلام ، أي السلامة ، وهي أنه تعالى سالَمَ الخلقَ من الظلم والجور . وفي الحديث « إن الله هو السلام ومنه السّلام » وبهذا ظهر تعقيب وصف { الملك } بوصف { السلام } فإنه بعد أن عُقب ب { القدوس } للدلالة على نزاهة ذاته ، عُقب ب { السلام } للدلالة على العدل في معاملته الخلق ، وهذا احتراس أيضاً .
و { المؤمن } اسم فاعل من آمن الذي همزته للتعدية ، أي جعل غيره آمناً .
فالله هو الذي جعل الأمان في غالب أحوال الموجودات ، إذ خلق نظام المخلوقات بعيداً عن الأخطار والمصائب ، وإنما تَعْرِض للمخلوقات للمصائب بعوارض تتركب من تقارن أو تضاد أو تعارض مصالح ، فيرجَع أقواها ويَدحض أدناها ، وقد تأتي من جرّاء أفعال الناس .
وذكر وصف { المؤمن } عقب الأوصاف التي قبله إتمام للاحتراس من توهّم وصفه تعالى ب { الملك } أنه كالملوك المعروفين بالنقائص . فأفيد أولاً نزاهة ذاته بوصف { القدوس } ، ونزاهة تصرفاته المغيَّبة عن الغدر والكَيد بوصف { المؤمن } ، ونزاهةُ تصرفاته الظاهرةِ عن الجور والظلم بوصف { السلام } .
و{ المهيمن } : الرقيب بلغة قريش ، والحافظ في لغة بقية العرب .
واختلف في اشتقاقه فقيل : مشتق من أمَنَ الداخل عليه همزة التعدية فصار آمَن وأن وزن الوصفِ مُؤَيْمِن قلبت همزته هاء ، ولعل موجب القلب إرادة نقله من الوصف إلى الاسمية بقطع النظر عن معنى الأمن ، بحيث صار كالاسم الجامد . وصار معناه : رقب : ( ألا ترى أنه لم يبق فيه معنى إلا من الذين في المؤمن لمّا صار اسماً للرقيب والشاهد ) ، وهو قلب نادر مثل قلب همزة : أراق إلى الهاء فقالوا : هَراق ، وقد وضعه الجوهري في فصل الهمزة من باب النون ووزنه مفَعْلِل اسم فاعل من آمن مثل مُدحرج ، فتصريفه مُؤَأْمِن بهمزتين بعد الميم الأولى المزيدة ، فأبدلت الهمزة الأولى هاء كما أبدلت همزة آراق فقالوا : هراق .
وقيل : أصله هَيْمن بمعنى : رَقب ، كذا في « لسان العرب » وعليه فالهاء أصلية ووزنه مُفَيْعل . وذَكره صاحب « القاموس » في فصل الهاء من باب النون ولم يذكره في فصل الهمزة منه . وذكره الجوهري في فصل الهمزة وفصل الهاء من باب النون مصرحاً بأن هاءه أصلها همزة . وعدل الراغب وصاحب « الأساس » عن ذكر . وذلك يشعر بأنهما يريان هاءه مبدلة من الهمزة وأنه مندرج في معاني الأمن .
وفي « المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى » للغزالي { المهيمن } في حق الله : القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم ، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه . والإِشرافُ ، ( أي الذي هو الإطلاع ) يرجع إلى العلم ، والاستيلاءُ يرجع إلى كمال القدرة ، والحفظُ يرجع إلى الفعل . والجامعُ بين هذه المعاني اسمه { المهيمن } ولن يجتمع عَلَى ذلك الكمال والإِطلاقِ إلا الله تعالى ، ولذلك قيل : إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة اهـ . وفي هذا التعريف بهذا التفصيل نظر ولعله جرى من حجة الإِسلام مجرى الاعتبار بالصفة لا تفسير مدلولها .
وتعقيب { المؤمن } ب { المهيمن } لدفع توهم أن تأمينه عن ضعف أو عن مخافة غيره ، فأُعلموا أن تأمينه لحكمته مع أنه رقيب مطلع على أحوال خلقه فتأمينه إياهم رحمة بهم .
و { العزيز } الذي لا يُغلب ولا يُذلّه أحد ، ولذلك فسر بالغالب .
و { الجبار } : القاهر المُكرِه غيره على الانفعال بفعله ، فالله جبار كل مخلوق على الانفعال لما كوّنه عليه لا يستطيع مخلوق اجتياز ما حدّه له في خلقته فلا يستطيع الإِنسان الطيران ولا يستطيع ذوات الأربع المشي على رجلين فقط ، وكذلك هو جبّار للموجودات على قبول ما أراده بها وما تعلقت به قدرته عليها .
وإذا وصف الإِنسان بالجبار كان وصف ذمّ لأنه يشعر بأنه يحمل غيره على هواه ولذلك قال تعالى : { إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } [ القصص : 19 ] . فالجبار من أمثلة المبالغة لأنه مشتق من أجبره ، وأمثلة المبالغة تشتق من المزيد بقلة مثل الحكيم بمعنى المحكم . قال الفراء : لم أسمع فَعَّالاً في أفعَلَ إلا جبّاراً ودَرَّاكاً . وكان القياس أن يقال : المجبر والمُدرك ، وقيل : الجبار معناه المصلح من جبر الكَسر ، إذَا أصلحه ، فاشتقاقه لا نذرة فيه .
و { المتكبر } : الشديد الكبرياء ، أي العظمة والجلالة . وأصل صيغة التفعل أن تدل على التكلف لكنها استعملت هنا في لازم التكلف وهو القوة لأن الفعل الصادر عن تأنق وتكلف يكون أتقن .
ويقال : فلان يتظلم على الناس ، أي يكثر ظلمهم .
ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث عقب صفة { المهيمن } أن جميع ما ذكره آنفاً من الصفات لا يؤذن إلا باطمئنان العباد لعناية ربهم بهم وإصلاح أمورهم وأن صفة { المهيمن } تؤذن بأمر مشترك فعقبت بصفة { العزيز } ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه شيء . وأتبعت بصفة { الجبار } الدالة على أنّه مسخر المخلوقات لإِرادته ثم صفة { المتكبر } الدالة على أنه ذو الكبرياء يصغر كل شيء دون كبريائه فكانت هذه الصفات في جانب التخويف كما كانت الصفات قبلها في جانب الإِطماع .
{ سبحان الله عَمَّا يشركون } .
ذيلت هذه الصفات بتنزيه الله تعالى عن أن يكون له شركاء بأن أشرك به المشركون . فضمير { يشركون } عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين لم يزل القرآن يقرعهم بالمواعظ .