اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَيۡمِنُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (23)

قوله تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القُدّوس } .

قرأ أبو دينار وأبو السمال{[56089]} : «القَدُّوس » بفتح القاف .

[ قال الحسن : هو الذي كثرت بركاته{[56090]} ] {[56091]} . والعامة : بضمها ، وهو المنزّه عن كل نقص ، والطَّاهر عن كل عيبٍ{[56092]} .

والقدَس - بالتحريك - السّطل بلغة أهل الحجاز ، لأنه يتطهر منه .

ومنه «القادوس » لواحد الأواني الذي يستخرج به الماء من البئر بالسانية .

وكان سيبويه يقول : «قَدُّوس ، وسبُّوح » بفتح أولهما .

وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يكنى أبا الدينار يقرأ : «القَدُّوس » بفتح القاف .

قال ثعلب : كل اسم على «فَعُّول » فهو مفتوح الأول ، مثل : سَفُّود ، وكَلُّوب ، وتَنُّور ، وسَمُّور ، وشَبُّوط ، إلا السُّبُّوح والقُدُّوس ، فإنَّ الضم فيهما أكثر ، وقد يفتحان ، وكذلك : الذروح بالضم{[56093]} .

قوله : «السَّلامُ » . أي : ذو السلامة من النقائص . قال ابن العربي : اتفق العلماء على أنّ قوله : «السَّلامُ » النسبة ، تقديره : ذو السلامة ، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة .

فقيل : معناه الذي سَلِمَ من كل عيب ، وبَرِئَ من كل نقص . وقيل : المسلم على عباده في الجنّة ، كما قال : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . وقيل : معناه الذي سلم الخلق من ظلمه . وهذا قول الخطابي . قال القرطبي : {[56094]} وعلى هذا والذي قبله يكون صفة فعل ، وعلى الأول يكون صفة ذات .

وقيل : معناه : المسلم لعباده .

قوله : «المُؤمِنُ » ، أي : الذي أمن أولياؤه عذابهُ ، يقال : أمنه يؤمنه فهو مؤمن ، وقيل{[56095]} : المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب . وقال مجاهد : المؤمن الذي وحَّد نفسه بقوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ }{[56096]} . وقرأ العامة : «المُؤمِن - بكسر الميم - اسم فاعل من آمن بمعنى أمن » ، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، وقيل ابن القعقاع : بفتحها{[56097]} ، فقال الزمخشري{[56098]} : بمعنى المؤمن به ، على حذف حرف الجر ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] المختارون .

وقال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ، أي : هذه القراءة ؛ لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به ، وكان جائزاً ، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأمن ، فقد ردّ ما قاله الزَّمخشري{[56099]} .

فصل :

قال ابن عباس : إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار ، وأول من يخرج من وافقه اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبقَ فيها من يوافق اسمه اسم نبي ، قال الله تعالى لباقيهم : أنتم المسلمون وأنا السلام ، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن ، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين{[56100]} .

قوله : { المهيمن العزيز } ، قيل : معنى المهيمن «الشاهد » الذي لا يغيب عنه شيء{[56101]} . وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل .

قال الخليل وأبو عبيدة : هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ] . وقال ابن الأنباري : «المُهَيْمِنُ » : القائم على خَلْقِه بقدرته .

وأنشد : [ الطويل ]

ألاَ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ *** مُهَيْمِنُهُ التَّاليهِ في العُرْفِ والنُّكْرِ{[56102]} .

وقيل هو في الأصل : مُؤيمن فقلبت الهمزة هاء ، كقوله : «أرَقْت وهرقت » ومعناه : المؤمن . نقله البغوي{[56103]} .

وتقدم الكلام على «العَزِيز » .

قوله : «الجبَّارُ » .

استدل به من يقول : إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثة ، فإنه من «أجبره على كذا » ، أي قهره{[56104]} .

قال الفرَّاء : ولم أسمع «فعّالاً » من «أفعل » إلا في «جبَّار ودرَّاك » من أدرك انتهى واستدرك عليه : أسأر ، فهو سَئّار ، وقيل : هو من الجبر ، وهو الإصلاح ، وقيل : هو من قولهم : نخلة جبَّارة إذا لم ينلْها الجُناة .

قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

سَوَامِقَ جَبَّارٍ أثيثٍ فُرُوعُهُ *** وعَالَيْنَ قِنْوَاناً من البُسْرِ أحْمَرا{[56105]}

يعني النَّخْل التي فاتت اليد .

قال ابن الخطيب{[56106]} : فيه وجوه :

أحدها : أنه «فعّال » من جبر ، إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير .

قال الأزهري{[56107]} : «هو لعمري جابرٌ لكل كسيرٍ وفقير ، وهو جابر دينه الذي ارتضاه » .

قال العجاج - رحمه الله - : [ الرجز ]

قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَهُ فَجَبَرْ{[56108]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الثاني : أن يكون من جبره إذا أكرهه على ما أراده .

قال السديُّ : إنه هو الذي يقهر الناس ، ويجبرهم على ما أراده .

قال الأزهري : «هي لغة «تميم » ، وكثير من الحجازيين يقولونها » .

وكان الشافعي - رحمه الله - يقول : جبره السلطان على كذا ، بغير ألف .

الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الجبَّار هو الملك العظيم .

وقيل : الجبار الذي لا تُطاق سطوته{[56109]} .

قال الواحدي{[56110]} : هذا الذي ذكرنا من معاني الجبار في صفة الله تعالى ، وأما معاني الجبار في صفة الخلق فلها معان :

أحدها : المُسَلَّط ، كقوله : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] .

الثاني : العظيم الجسم ، كقوله تعالى : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] .

والثالث : المتمرّد عن عبادة الله كقوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } [ مريم : 32 ] .

الرابع : القتال كقوله : { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 130 ] وقوله : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض } [ القصص : 19 ] .

قوله : { المتكبر } ، قال ابن عباس : الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله{[56111]} ، وقيل : المتكبر عن كل سوء ، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدوث والذم .

وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلّة الانقياد{[56112]} .

قال حميد بن ثور : [ الطويل ]

عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الفَصِيلُ فأصْبَحَتْ *** بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وهي ذَلُولُ{[56113]} .

قال الزجَّاج{[56114]} : وهو الذي تعظَّم عن ظلم عباده . وقال ابن الأنباري : «المتكبر » ذو الكبرياء .

والكبرياء عند العرب الملك ، قال تعالى : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياءُ فِي الأرض } [ يونس : 78 ] واعلم أن المتكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذم{[56115]} .

قال - عليه الصلاة والسلام - يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال : «الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار »{[56116]} ، وقيل : المتكبر معناه العالي{[56117]} ، وقيل : الكبير ، لأنه أجل من أن يتكلف كبراً .

وقد يقال : تظلّم بمعنى ظلم ، وتشتّم بمعنى شتم ، واستقر بمعنى قرّ ، كذلك المتكبر بمعنى الكبير ، وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف ب «تفعل » إذا نسب إلى ما لم يكن منه{[56118]} ، ثم نزّه نفسه فقال : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، كأنه قال{[56119]} : إن المخلوقين قد يتكبرون ، ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف ، لكنه سبحانه منزَّهٌ عن التكبر الذي هو حاصل للخلق ؛ لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم ، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي ، وأما الله - سبحانه وتعالى - فله العلو والعزّ ، فإذا أظهره كان ذلك ضمَّ كمال إلى كمال ، فسبُحانَ اللَّهِ عمَّا يشركُون في إثبات صفة المتكبريَّة للخلق .


[56089]:ينظر: المحرر الوجيز 5/292، والبحر المحيط 8/249، والدر المصون 6/300، والقرطبي 18/31.
[56090]:ذكره الرازي في تفسيره (29/254)، عن الحسن.
[56091]:سقط من: أ.
[56092]:ينظر القرطبي 18/31.
[56093]:ينظر: القرطبي 18/31.
[56094]:الجامع لأحكام القرآن 18/31.
[56095]:ينظر: الفخر الرازي 29/255، والقرطبي 18/31.
[56096]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/31).
[56097]:ينظر: البحر المحيط 8/249، والدر المصون 6/300.
[56098]:ينظر: الكشاف 4/509.
[56099]:ينظر: الدر المصون 6/300.
[56100]:ينظر: القرطبي (18/31).
[56101]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/52)، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة.
[56102]:ينظر اللسان (همن)، والتفسير الكبير 29/194.
[56103]:ينظر: معالم التنزيل 4/326.
[56104]:ينظر: الدر المصون 6/300.
[56105]:تقدم.
[56106]:ينظر: التفسير الكبير 29/255.
[56107]:ينظر: تهذيب اللغة 11/60. مادة (جبر).
[56108]:وبعده: وعوّر الرحمان من ولّى العوَر *** ................... ينظر ديوان العجاج ص 40، والخصائص 2/263، والأشموني 4/214، والاقتضاب ص 407، واللسان (جبر)، وتهذيب اللغة للأزهري 11/60 (جبر).
[56109]:ينظر تفسير القرطبي (18/31).
[56110]:الرازي 29/255.
[56111]:ينظر القرطبي (18/31).
[56112]:ينظر القرطبي (18/32).
[56113]:في الديوان يروى الطليح مكان الفصيل، ينظر ديوانه ص 58، واللسان (عفا)، والقرطبي 18/32.
[56114]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 5/151.
[56115]:ينظر: الفخر الرازي 29/256.
[56116]:تقدم.
[56117]:في أ: الباقي.
[56118]:ينظر: القرطبي 18/32.
[56119]:ينظر: الفخر الرازي 29/256.