ولما كان الملك{[64232]} كمال استيلاء على الخلق يقصرهم{[64233]} به ملكهم على بعض مستطاعهم ويدينهم - أي يجزهم - على حسب دينهم أي ما وضع لهم من عادة قصره لهم وحكمه عليهم وبحسب إحصائه عليهم دقيق أعمالهم وإحاطته بخفي أحوالهم{[64234]} والاطلاع على سرائرهم بتحقيق استيفاء الجزاء فيتحقق بذلك كمال الملك ، فكان لذلك لا تتحقق حقيقة الملك فيمن هو دون العلم بالسر وأخفى ، والمحصي الحسيب لمثاقيل الذر ، الخبير بخبأ الكون ، فكان لا ملك في الحقيقة إلا الله ، ولكنه تعالى لما كان قد أولى الخلق من رفعه بعضهم فوق بعض ما أجرى عليهم اسم الملك فتنة لهم فضل بسبب ذلك قوم{[64235]} ادعوا الملك الحقيقي ، فغلط من أراد الله من الخلق فيهم فضلوا بهم ، أعاد التهليل مع اسمه الملك كما ابتدأ مع اسمه الإله أول أسماء الله ، ولذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الشيخان وأبو داود والترمذى في حديث الذي يسمى ملك الملوك في رواية مسلم : " لا ملك إلا الله " ، فقال مصرحاً بما في باطن اسمي الرحمة من القهر والجبر على النسق الأول في البناء على الضمير تأكيداً لتعين المحدث عنه وتوحيده{[64236]} : { هو الله } أي الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء { الذي لا إله }{[64237]} أي{[64238]} معبود بحق { إلا هو الملك } فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء ، فإنه مهما أراد كان .
ولما كان الملك أصل ما لحق الخلق{[64239]} من الآفات لأنه رأس الشرف الذي هو باب الترف{[64240]} الملازم لمخالفة كتاب الله أما في الأعمال فتكون فتنة ، وأما في الرأي فيكون علواً وكبراً وكفراً ، فإن أمر الله في آدم على ماهو نبوة ثم ينزل فيصير خلافة ثم ينتهي نزوله فيكون ملكاً ثم تتداعى الأحداث ، فلمكان تداعي الملك لموجبات الذم قال عقب صفات الملك : { القدوس } مصرحاً بما لزم عن تمام ملكه من أنه بليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به{[64241]} ضمير ، فإن القدس طهر لا يقبل التغير ولا يلحقه رجس فلا يزال على وصف الحمد بثبات القدس ، ولمكان ما حوّل سبحانه الخلق من حال طهر لا يظهر فيه تغير بما{[64242]} دونه أجرى عليهم اسم القدس كروح القدس المؤيد للشارع ينفث في روعة المؤيد لشاعره{[64243]} في مكافحته{[64244]} عنه ، ولأجل قصر تخلي الخالق بالملك في قليل متاع{[64245]} الدنيا رغب النبي العبد صلى الله عليه وسلم عنه ، واختار العبودية الدائمة بدوام العزة لسيده ، فوضح بذلك علم أن لا قدوس{[64246]} إلا الله حقيقة معنى وتصحيح إحاطة .
ولما كان سبحانه لتمام ملكه وعلو ملكه وكمال قدسه لا يتصور أن يلحقه نقص في ذات{[64247]} ولا صفة ولا فعل ، فلا يقبح{[64248]} منه إهلاك{[64249]} على حال من الأحوال ولا مس بضر في الدنيا والآخرة في وقت من الأوقات لأنه سبحانه ، لعلمه{[64250]} بالظواهر والبواطن على حد سواء ، يصنع الأمور في أحكم {[64251]}مواضعها بما{[64252]} لا يدركه غيره أصلاً أو لا يدركه حق إدراكه فاحتيج إلى ما يؤمن من ذلك ، وكان السلام حد ما بين الألفة والفرقة وحد ما بين الرحمة والسطوة وهو أدنى {[64253]}منال الجاهل من{[64254]} عباد الرحمان ، ومنال المعتدي{[64255]} من المقتدر ، وكان سلام المسلم للجاهل مداراة لئلا يزيد في جهله عليه ، أو ارتقاباً لاستقبال مكنة ، وكان الله لا يعبأ بالخلق ولا يحتاج{[64256]} لارتقاب مكنة لأنه لا يعجزه شيء فلم يتحقق السلام بكل معنى من وجود{[64257]} السلامة له وإفاضتها{[64258]} على غيره{[64259]} تماماً إلا منه إعفاء من معاجلة استحقاق السطوة وحفيظة لحرمة اختصاص الرحمة ، أتبع ذلك مؤمناً{[64260]} للعاصي من المعاجلة وللمطيع من سوء المعاملة قوله : { السلام } لأنه حد ما بينهما ظاهراً ، ولذلك أردفه بما يتعلق بالباطن لتحصل إحاطة السلامة ظاهراً وباطناً فقال : { المؤمن } لأن الأمن{[64261]} حد ما بين المحبة والكره فيمن لا وسيلة له للحب وهو أدنى ما يقبله ذو الحق ممن يستحق منه الحب ، ولذلك لم يقبل الحق ممن كان ظاهر الوسيلة للحب{[64262]} - إلا بالحب فلم يثبت إيمان المؤمن بمجرد الإيمان حباً له بل إيثاراً لمحبته على كل حب ومساواة لأخيه المؤمن فيما يحب لنفسه ، وأدناه الأمنة في{[64263]} الغيب{[64264]} من الغيبة والعيب إلى غاية الأمان من بوائق الغشم{[64265]} والظلم من الجار المستحق حفظ جاره في غيبه ، فالإخلال بالإيمان لكونه الأمنة في الغيب نفاق ، والإخلال بالإسلام لكونه السلم في المواجهة إجرام ، فبأدنى إخلال في جانب الحق أو الخلق ينثلم الإسلام والإيمان ، وذلك كله{[64266]} إنما هو في الحقيقة من الله تعالى فهو الذي يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه ومنع أسباب المخاوف فلا أمن في الوجود ولا أمان إلا وهو مستفاد من جهته .
ولما كان الاطلاع على بيّن ما ذكر ليتحقق معنى السلم والأمن ، وعلى كل من تلك الحدود خفياً جداً يفتقر إلى مزيد علم ، قال : { المهيمن } فإن الهيمنة شهادة خبرة وإحاطة وإبصار لكلية ظاهر الأمر وباطنه بحيث لا يخفى منه خافية هوية ولا بادية ظاهر{[64267]} ، ولإحاطة معناه لا يكاد يقع له في الخلق مسوغ إطلاق إلا مسامحة لأن الخلق لا يشهدون إلا الظواهر ولا يشهدون من الباطن ، ولذلك انعجم معناه على كثير من فصحاء العرب ، فمفهوم{[64268]} معناه موجب توحيده فواضح إذ لا مهيمن بمعنى أنه شهيد على الوجه المشروح{[64269]} مع الأمانة المأمونة والحفظ والرعاية فيكون قائماً على كل{[64270]} شيء بكل ما له من رزق وعمل وأجل إلا هو ، ولذلك كان القرآن الذي هو صفته سبحانه وتعالى مهيمناً على جميع الكتب التي قبله مصدقاً لما يستحق التصديق منها مكذباً لما يستحق التكذيب ، فمن كان به أمهر{[64271]} كان بذلك أعلم .
ولما كان تمام الخبرة{[64272]} ملزوماً لتمام القدرة ، صرح بهذا اللازم فقال ؛ { العزيز } والعزة غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة وجه مدافعة ولا انفلات ولا إعجاز ، فالعزيز الذي صعب على طالبه إدراكه مع افتقار كل شيء إليه في كل{[64273]} لحظة ، {[64274]}الشديد في انتقامه الذي لا معجز له في إنفاذ حكمه ، ولذلك ينظم كثير بآيات إمضاء الأحكام متصلاً بالحكمة والعلم إنباء عن العدل ، قال الغزالي : وهو الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب{[64275]} الوصول إليه{[64276]} . ولما كان المغلوب على{[64277]} الشيء فيؤخذ من يده قد لا ينقاد باطناً فلا يباشر{[64278]} ما غلب عليه للغالب وقد لا{[64279]} يكون العز{[64280]} ظاهراً لكل أحد ، أردفه بقوله : { الجبار } وهو العظيم الذي يفوت المقاوم مناله ، فهو على هذا من أسماء الذات ويصلح أمور من يريد من الخلق ويقهرهم على ما يريد ، فهم أحقر من أن يعصوه طرفة عين بغير إرادته ، والجبر : طول يلجيء الأدنى لما{[64281]} يريد منه الأعلى ويغيب من الأعلى ما يحاول مناله منه{[64282]} الأدنى مع الظهور التام الذي تدور مادته عليه ، فالجبار لا يخرج شيء{[64283]} من قبضته ، وتقصر الأيدي عن حمى عز{[64284]} حضرته ، ولا ينال منه إلا ما نوّل ، وهو أبعد شيء عن أوصاف الخلق لمنال الذباب منهم منا شاء وعجزهم عنه ، و{[64285]}لما فيه من الإلجاء{[64286]} كان هو الاسم الذي يلجيء النار لقصرها على مراده منها من الحسب الذي جبلها على ضده من الاستزادة فلا تزال تقول ما جبلت عليه : هل من مزيد ، حتى يضع الجبار فيها قدمه{[64287]} أي يهينها فإن القدم موضع الإهانة{[64288]} ، وهذه الإهانة{[64289]} - هي من مبدأ ظهور غلبة الرحمة للغضب ، فله الملك ظهوراً بالأيدي الظاهرة من الإنسان وما دونه ، وله الملكوت بطوناً بالأيدي الباطنة من الملك وما دونه ، وله الجبروت اختصاصاً من وراء كل ملك وملكوت .
ولما كان الإلجاء قد يكون بنوع ملاطفة ، أتبعه قوله : { المتكبر } ليعم الإلجاء الظاهر والباطن فالكبرياء جملة تأدي أمر الله وظاهر خلقه الذي {[64290]}يجد الخلق{[64291]} صغرهم من دونه وكبره عليهم وامتناعه{[64292]} عما لا يريد من مرادهم ، لأن الكل حقيرون بالإضافة إلى جلاله وعز{[64293]} جبروته وعظمته وكماله ، ولسواء الخلق في عام حضرة القدرة شملهم الصغر فلم يصح منهم كبر ، ولا شرع لهم تكبر ، فلم يكن للخلق منهم حقيقة حظ ولا لبس حق ، فاختص بهذا الاسم لاستيلائه على الظواهر بإظهار ما له من الكبر لعدم الحاجة إلى شيء وبإلجاء غيره إلى الاحتياج إليه والإيقاع{[64294]} بجبابرتهم وإذلالهم وغير ذلك من الأمور المزعجة المرهبة من غير مبالاة بشيء كما اختص بالجبار لاستيلائه على البواطن .
ولما تقرر بما ذكر من مظاهر عظمته استيلاؤه على الظواهر والبواطن باللطف والعنف ، أنتج ذلك تعاليه عن شوب نقص لا سيما بالشرك فقال سبحانه : { سبحان الله } أي تنزه الملك الأعلى الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهاً لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص { عما يشركون * } أي من هذه المخلوقات من{[64295]} الأصنام و{[64296]}غيرهما مما في الأرض أو في السماء من كبير وصغير ، و{[64297]}جليل وحقير .