تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (22)

{ 22 - 23 } { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ }

أي : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ } الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم ، مخاطبا لأهل النار ومتبرئا منهم { لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ } ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } على ألسنة رسله فلم تطيعوه ، فلو أطعتموه لأدركتم الفوز العظيم ، { وَوَعَدْتُكُمْ } الخير { فَأَخْلَفْتُكُمْ } أي : لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الأماني الباطلة .

{ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي : من حجة على تأييد قولي ، { إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } أي : هذا نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي وزينته لكم ، فاستجبتم لي اتباعا لأهوائكم وشهواتكم ، فإذا كانت الحال بهذه الصورة { فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب ، { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ } أي : بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها { وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } كل له قسط من العذاب .

{ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ } أي : تبرأت من جعلكم لي شريكا مع الله فلست شريكا لله ولا تجب طاعتي ، { إِنَّ الظَّالِمِينَ } لأنفسهم بطاعة الشيطان { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } خالدين فيه أبدا .

وهذا من لطف الله بعباده ، أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله التي يدخل منها على الإنسان ومقاصده فيه ، وأنه يقصد أن يدخله النيران ، وهنا بين لنا أنه إذا دخل النار وحزبه{[454]} أنه يتبرأ منهم هذه البراءة ، ويكفر بشركهم { ولا ينبئك مثل خبير }

واعلم أن الله ذكر في هذه الآية أنه ليس له سلطان ، وقال في آية أخرى { إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } فالسلطان الذي نفاه عنه هو سلطان الحجة والدليل ، فليس له حجة أصلا على ما يدعو إليه ، وإنما نهاية ذلك أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما به يتجرؤون على المعاصي .

وأما السلطان الذي أثبته فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يُؤزّهم إلى المعاصي أزّا ، وهم الذين سلطوه على أنفسهم بموالاته والالتحاق بحزبه ، ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون .


[454]:- في ب: وجنده.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (22)

يخبر تعالى عما خطب به إبليس [ لعنه الله ]{[15804]} أتباعه ، بعدما قضى الله بين عباده ، فأدخل المؤمنين الجنات ، وأسكن الكافرين الدركات ، فقام فيهم إبليس - لعنه الله - حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم{[15805]} وغَبنا إلى غبْنهم ، وحسرة إلى حسرتهم ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } أي : على ألسنة رسله ، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة ، وكان وعدًا حقا ، وخبرا صدقا ، وأما أنا فوعدتكم وأخلفتكم ، كما قال الله تعالى : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [ النساء : 120 ] .

ثم قال : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي : ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به ، { إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } بمجرد ذلك ، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه ، { فَلا تَلُومُونِي } اليوم ، { وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } فإن الذنب لكم ، لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل ، { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ } أي : بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه ، { وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي : بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال ، { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ }

قال قتادة : أي بسبب ما أشركتمون من قبل .

وقال ابن جرير : يقول : إني جحدت أن أكون شريكا لله ، عز وجل .

وهذا الذي قال هو الراجح{[15806]} كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] ، وقال : { كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 82 ] .

وقوله : { إِنَّ الظَّالِمِينَ } أي : في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

والظاهر من سياق الآية : أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار ، كما قدمنا . ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم - وهذا لفظه - وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد : حدثني دخين{[15807]} الحَجْري ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا جمع الله الأولين والآخرين ، فقضى بينهم ، ففرغ من القضاء ، قال المؤمنون : قد قضى بيننا ربنا ، فمن يشفع لنا ؟ فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم - وذكر نوحا ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى - فيقول عيسى : أدلكم على النبي الأمي . فيأتوني ، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور{[15808]} [ من ]{[15809]} مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط ، حتى آتي ربي فيشفعني ، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثم يقول الكافرون هذا : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فمن يشفع لنا ؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا ، فيأتون إبليس فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنك أنت أضللتنا . فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ، ثم يعظم نحيبهم{[15810]} { وَقَالَ{[15811]} الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } {[15812]} .

وهذا سياق ابن أبي حاتم ، ورواه ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن دُخَيْن{[15813]} عن عُقْبَة ، به مرفوعا{[15814]} .

وقال محمد بن كعب القُرظي ، رحمه الله : لما قال أهل النار : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } قال لهم إبليس : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } الآية ، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم ، فنودوا : { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } [ غافر : 10 ] .

وقال عامر الشعبي : يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس ، يقول الله لعيسى ابن مريم : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } إلى قوله : { قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 116 ، 119 ] ، قال : ويقوم إبليس - لعنه الله - فيقول : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } الآية .


[15804]:- زيادة من أ.
[15805]:- في ت : "خزيا إلى خزيهم".
[15806]:- في أ : "الأرجح".
[15807]:- في ت ، أ : "دجين".
[15808]:- في ت ، أ : "فيفور".
[15809]:- زيادة من ت ، أ ، والطبري.
[15810]:- في ت ، أ : "بجهنم".
[15811]:- في ت ، أ : "ويقول" وهو خطأ.
[15812]:- تفسير الطبري (16/562) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/320) من طريق ابن وهب : أخبرني ابن نعيم (كذا في المعجم) عن دخين ، عن عقبة مرفوعا. وقال الهيثمي في المجمع (10/376) : "فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، وهو ضعيف" وضعف السيوطي إسناده أيضا.
[15813]:- في أ : "دجين".
[15814]:- ورواه الطبري في تفسيره (16/562) من طريق سويد بن نصر ، عن ابن المبارك به.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (22)

المراد هنا ب { الشيطان } إبليس الأفذم نفسه ، وروي في حديث عن النبي عليه السلام - من طريق عقبة بن عامر - أنه قال : «يقوم يوم القيامة خطيبان : أحدهما إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ ، والآخر عيسى ابن مريم يقوم بقوله : { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به }{[7048]} [ المائدة : 117 [ ، وقال بعض العلماء : يقوم إِبليس خطيب السوء ، الصادق بهذه الآية .

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذه الرواية يكون معنى قوله : { قضي الأمر } أي حصل أهل النار في النار ، وأهل الجنة في الجنة ، وهو تأويل الطبري .

قال القاضي أبو محمد : و { قضي } قد يعبر عنها في الأمور عن فعل كقوله تعالى : { وقضي الأمر واستوت على الجودي }{[7049]} [ هود : 44 ] وقد يعبر بها عن عزم على أن يفعل ، كقوله : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان }{[7050]} [ يوسف : 41 ] .

و { الوعد } في هذه الآية على بابه في الخير ، أي إن الله وعدهم النعيم إن آمنوا ، ووعدهم إبليس الظفر والأمر إن كذبوا ، ومعلوم اقتران وعد الله بوعيده ، واتفق أن لم يتبعوا طلب وعد الله فوقعوا في وعيده ، وجاء من ذلك كأن إبليس أخلفهم . وال { سلطان } الحجة البينة ، وقوله : { إلا أن دعوتكم } استثناء منقطع{[7051]} ، و { أن } في موضع نصب ، ويصح أن تكون في موضع رفع على معنى : إلا أن النائب عن السلطان ، إن دعوتكم فيكون هذا في المعنى كقول الشاعر : [ الوافر ]

تحية بينهم ضرب وجيع{[7052]} . . . ومعنى قوله : { فاستجبتم لي } أي رأيتم ما دعوتكم إليه ببصيرتكم واعتقدتموه الرأي وأتى نظركم عليه .

قال القاضي أبو محمد : وذكر بعض الناس أن هذا المكان يبطل منه التقليد ، وفي هذه المقالة ضعف على احتمالها ، والتقليد وإن كان باطلاً ففساده من غير هذا الموضع .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد ب » السلطان «في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك ، أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني ، بل عرضت عليكم شيئاً ، فأتى رأيكم عليه .

وقوله : { فلا تلوموني } يريد بزعمه إذ لا ذنب لي { ولوموا أنفسكم } في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب . و » المصرخ «المغيث ، والصارخ : المستغيث . ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع . . . كان الصراخ له قطع الظنابيب{[7053]}

فيقال : صرخ الرجل ، وأصرخ غيره ، وأما الصريخ فهو مصدر بمنزلة البريح{[7054]} ، ويوصف به ، كما يقال : رجل عدل ونحوه .

وقرأ حمزة والأعمش وابن وثاب » بمصرخي «بكسر الياء تشبيهاً لياء الإضمار بهاء الإضمار في قوله : مصرخيه ، ورد الزجاج هذه القراءة ، وقال ردية مرذولة{[7055]} ، وقال فيها القاسم بن معن : إنها صواب ، ووجهها أبو علي وحكى أبو حاتم : أن أبا عمرو حسنها ، وأنكر أبو حاتم على أبي عمرو{[7056]} .

وقوله : { بما أشركتمون } أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها ، ف «ما » مصدرية ، وكأنه يقول : إني الآن كافر بإشراككم أيأي مع الله قبل هذا الوقت .

قال القاضي أبو محمد : فهذا تبر منه ، وقد قال الله تعالى : { ويوم القيامة يكفرون بشرككم }{[7057]} [ فاطر : 14 ] ويحتمل أن يكون اللفظ إقراراً على نفسه بكفره الأقدم ، فتكون «ما » بمعنى الذي ، يريد الله تعالى ، أي خطيئتي قبل خطيئتكم ، فلا إصراخ عندي{[7058]} ، وباقي الآية بين .


[7048]:أخرج ابن المبارك في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، و الطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر بسند ضعيف عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين وقضى بينهم وفرغ من القضاء يقول المؤمنون قد قضى بيننا وفرغ من القضاء) وهو حديث طويل يأتي فيه أيضا قول الكافرين و جدالهم مع إبليس. أما النص الذي ذكره ابن عطية فقد أخرجه ابن جرير، وابن المنذر عن الشعبي رضي الله عنه. (الدر المنثور).
[7049]:من الآية (44) من سورة (هود).
[7050]:من الآية (41) من سورة (يوسف).
[7051]:لأن دعاءه إياهم ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة، وقيل: هو استثناء متصل، لأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه، و ذلك بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من التسلط.
[7052]:والضرب ليس من جنس التحية، وكأن الشيطان قال ذلك لهم مبالغة في نفيه للسطان عن نفسه، كأنه قال: إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من السلطان، وليس منه قطعا، هذا والشعر لعمرو بن معديكرب الزبيدي. والبيت بتمامه: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
[7053]:البيت لسلامة بن جندل، وهو شاعر جاهلي مقل، من شعراء الطبقة الثانية، و هو فارس من فرسان تميم المعدودين، والبيت من قصيدة له يرثي فيها شبابه و ما كان فيه من فروسية، ويقول في مطلعها: أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب أودى، وذلك شأو غير مطلوب والظنابيب: جمع ظنبوب وهو ظلم و هو عظم الساق، وقرع الظنوب هو أن يضرب الرجل ظنبوب البعير ليتنوخ له فيركبه، والمراد هنا سرعة الإجابة، لأنهم يستجيبون للمستغيث الصارخ بإناخة الجمال للركوب، فإذا تأخرت قرعوا ظنابيبها لتبرك بسرعة.
[7054]:يقال: قول بريح: مصوب به، قال الهذلي: فإن ابن ترنى إذا جئتكم يدافع عني قولا بريحا
[7055]:في بعض النسخ: هي ردية مردودة.
[7056]:وقع خلاف كبير بين العلماء في هذه القراءة، قال الفراء: "لعلها من وهم القراء طبقة يحيى، فإنه قل من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أن الباء في [بمصرخي] خافضة للحرف كله، والياء من المتكلم خارجة من ذلك"، وقال أبو عبيد: "نراهم غلطوا ظنوا أن الباء تكسر ما بعدها"، وقال الأخفش: "ما سمعت هذا من أحد من العرب ولا من النحويين"، وقال النحاس: "صار هذا إجماعا، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله على الشذوذ"، و حاول الزمخشري ـ مع اعترافه بضعفها ـ أن يستشهد لها ببيت مجهول (وقيل هو للأغلب العجلي): قال لها هل لك ياتافي قالت له ما أنت بالمرضي كأن الشاعر قدر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، قال الزمخشري: "ولكن هذا غير صحيح، لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قلبها ألف نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء؟"، وقال القاسم بن معن عن هذه القراءة: هي صواب، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل النحو، فقال: "هي جائزة"، قال أبو حيان الأندلسي: "ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها، فأبو عمرو إمام لغة، وإمام نحو، وإمام قراءة، وعربي صريح، وقد أجازها وحسنها، وقد روا بيت النابغة: علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب بخفض الياء من "علي".
[7057]:من الآية (14) من سورة (فاطر). ومثلها قوله تعالى: {إنا براءه منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم}.
[7058]:يرد على هذا القول أن فيه إطلاق (ما) على الله تعالى، و (ما) الأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم ويعقل.