والمخادعة : أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع ، فهؤلاء المنافقون ، سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك ، فعاد خداعهم على أنفسهم ، فإن{[39]} هذا من العجائب ، لأن المخادع ، إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد{[40]} أو يسلم ، لا له ولا عليه ، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم ، وكأنهم{[41]} يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها ، لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [ شيئا ] وعباده المؤمنون ، لا يضرهم كيدهم شيئا ، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان ، فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم ، وصار كيدهم في نحورهم ، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا ، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة .
ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع ، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم ، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك .
وقوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي : بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] ؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } يقول : وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون بذلك من أنفسهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] .
ومن القراء من قرأ : " وَمَا يُخَادِعُونَ{[1257]} إِلا أَنفُسَهُمْ " ، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد .
قال ابن جرير : فإن قال قائل : كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟
قيل : لا تمتنع{[1258]} العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية ، لينجو مما هو له خائف ، مخادعا ، فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر{[1259]} بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء{[1260]} والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر ، مستبطن ، وذلك من فعلِه - وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها ، ويُسقيها كأس{[1261]} سرورها ، وهو موردها حياض عطبها ، ومُجرّعها بها كأس عذابها ، ومُزيرُها{[1262]} من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به ، فذلك خديعته نفسه ، ظنًا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال تعالى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم{[1263]} عليها ربهم بكفرهم ، وشكهم وتكذيبهم ، غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون{[1264]} .
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا عليّ بن المبارك ، فيما كتب إليّ ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جُرَيْج ، في قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ } قال : يظهرون " لا إله إلا الله " يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم ، وفي أنفسهم غير ذلك{[1265]} .
وقال سعيد ، عن قتادة : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } نعت المنافق عند كثير : خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ، يصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها .
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )
واختلف المتأولون في قوله تعالى : { يخادعون الله } .
فقال الحسن بن أبي الحسن : «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزاً( {[211]} ) لتعلق رسوله به ، ومخادعتهم في تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه » .
وقال جماعة من المتأولين : «بل يخادعون الله والمؤمنين ، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا ، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك » .
واختلف القراء في يخادعون الثاني .
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «يخادعون » .
وقرأ عصام وابن عامر وحمزة والكسائي : «وما يخدعون » .
وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة : «يُخدعون » بضم الياء( {[212]} ) .
وقرأ قتادة ومورق العجلي( {[213]} ) : «يُخَدِّعون » بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها . فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر( {[214]} ) : [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] .
ألاَ لاَ يجْهلنْ أحدٌ عليْنا . . . فَنَجْهل فوق جهْل الجاهلينا
فجعل انتصاره جهلاً ، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل( {[215]} ) .
وتتجه أيضاً هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين . وقد قال الشاعر( {[216]} ) : [ الكميت ] [ الطويل ] .
تذكر من أَنَّى ومن أين شربه . . . يؤامرُ نفسيه كذي الهجمة الأبل
وأنشد ابن الأعرابي( {[217]} ) : [ المنسرح ]
لم تدر ما لا ولست قائلها . . . عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامرْ نفسيك ممترياً في . . . ها وفي أختها ولم تكد
وقال الآخر( {[218]} ) :
يؤامر نفسيهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ . . . أيستوتغ الذوبانَ أمْ لا يطورُها
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي : [ الطويل ]
وكنتَ كذات الضنء لم تدر إذْ بَغَتْ . . . تؤامرُ نفسيْها أتسرِقُ أن تزني( {[219]} )
ووجه قراءة عاصم ومن ذكر ، أن ذلكَ الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها ، تقول : «خادعت الرجل » بمعنى أعملت التحيل عليه ، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، والمصدر «خِدع » بكسر الخاء وخديعة ، حكى ذلك أبو زيد . فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم فيها . ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين : إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى : { واختار موسى قومه }( {[220]} ) [ الأعراف : 155 ] أي من قومه ، وإما أن يكون «يخدعون » أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم( {[221]} ) ، ونحوه قول الله تعالى : { ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم }( {[222]} ) [ البقرة : 187 ] ولا تقول رفثت إلى المرأة ، ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك ، ومنه قوله تعالى : { هل لك إلى أن تزكى }( {[223]} ) [ النازعات : 18 ] وإنما يقال هل لك في كذا ، ولكن لما كان المعنى أجذ بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن ، وهو باب سني من فصاحة الكلام ، ومنه قول الفرزدق : [ الرجز ] :
كيف تراني قالباً مجني . . . قد قتل الله زياداً عنّي( {[224]} )
لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف . ومنه قول الآخر( {[225]} ) : [ نحيف العامري ] : [ الوافر ]
إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ . . . لعمر اللَّهِ أعجبني رضاها
لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي( {[226]} ) .
وأما الكسائي فقال في هذا البيت : «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها »( {[227]} ) .
ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع ، إذ هو مصير إلى عذاب الله .
قال الخليل : «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة ، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل( {[228]} ) إلى الاثنين ، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة ، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل .
وقوله تعالى : { وما يشعرون } معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس ، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان ، وهو مأخوذ من الشعر ، والشاعر المتفطن لغريب المعاني .
وقولهم : «ليت شعري » معناه ليت فطنتي تدرك ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ المنخل الهذلي ] .
عقوا بسهمٍ فلم يشعرْ به أحدٌ . . . ثم استفاؤوا قالوا حبّذا الوضح( {[229]} )
واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له( {[230]} ) ؟ فقالت طائفة : «وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار » .
وقال آخرون : «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا » .