{ 5 } { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
[ أي : ] { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } موبخا لهم على صنيعهم ، ومقرعا لهم على أذيته ، وهم يعلمون أنه رسول الله : { لِمَ تُؤْذُونَنِي } بالأقوال والأفعال ، { وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } .
والرسول من حقه الإكرام والإعظام ، والانقياد{[1071]} بأوامره ، والابتدار لحكمه .
وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق فوق كل إحسان بعد إحسان الله ، ففي غاية الوقاحة والجراءة والزيغ عن الصراط المستقيم ، الذي قد علموه وتركوه ، ولهذا قال : { فَلَمَّا زَاغُوا } أي : انصرفوا عن الحق بقصدهم { أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها ، ولم يوفقهم الله للهدى ، لأنهم لا يليق بهم الخير ، ولا يصلحون إلا للشر ، { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الذين لم يزل الفسق وصفا لهم{[1072]} ، لا لهم قصد في الهدى ، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده ، ليس ظلما منه ، ولا حجة لهم عليه ، وإنما ذلك بسبب منهم ، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه ، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال{[1073]} والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب [ عقوبة لهم وعدلا منه بهم ] كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه : { لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } أي : لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة ؟ . وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصاب{[28781]} من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ؛ ولهذا قال : " رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " {[28782]} وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يُوَصّلوا إليه أذى ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا }[ الأحزاب : 69 ] .
وقوله : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي : فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به ، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى ، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[ الأنعام : 110 ] وقال :{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }[ النساء : 115 ] ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
{ وإذ قال موسى لقومه }مقدرا بأذكر أو كان كذا { يا قوم لم تؤذونني } بالعصيان والرمي بالادرة ، { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } بما جئتكم من المعجزات ، والجملة حال مقررة للإنكار فإن العلم بنبوته يوجب تعظيمه ويمنع إيذاءه وقد لتحقيق العلم ، { فلما زاغوا }عن الحق{ أزاغ الله قلوبهم }صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب ، { والله لا يهدي الفاسقين }هداية موصلة إلى معرفة الحق أو إلى الجنة .
موقع هذه الآية هنا خفي المناسبة . فيجوز أن تكون الجملة معترضة استئنافاً ابتدائياً انتقل به من النهي عن عدم الوفاء بما وعدوا الله عليه إلى التعريض بقوم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقول أو بالعصيان أو نحو ذلك ، فيكون الكلام موجهاً إلى المنافقين ، فقد وسموا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [ الأحزاب : 57 ] الآية . وقوله تعالى : { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } [ التوبة : 61 ] وقوله : { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } [ التوبة : 61 ] .
وعلى هذا الوجه فهو اقتضاب نقل به الكلام من الغرض الذي قبله لتمامه إلى هذا الغرض ، أو تكون مناسبة وقعه في هذا الموقع حدوث سبب اقتضى نزوله من أذى قد حدث لم يطلع عليه المفسرون ورواة الأخبار وأسباب النزول .
والواو على هذا الوجه عطف غرض على غرض . وهو المسمّى بعطف قصة على قصة .
ويجوز أن يكون من تتمة الكلام الذي قبلها ضرب الله مثلاً للمسلمين لتحذيرهم من إتيان ما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم ويسوؤوه من الخروج عن جادة الكمال الديني مثل عدم الوفاء بوعدهم في الإِتيان بأحبّ الأعمال إلى الله تعالى . وأشفقهم من أن يكون ذلك سبباً للزيغ والضلال كما حدث لقوم موسى لمَّا آذوه .
وعلى هذا الوجه فالمراد بأذى قوم موسى إياه : عدم توخي طاعته ورضاه ، فيكون ذلك مشيراً إلى ما حكاه الله عنه من قوله : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } [ المائدة : 21 ] ، إلى قوله : { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] . فإن قولهم ذلك استخفاف يدل لذلك قوله عَقِبَه { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [ المائدة : 25 ] .
وقد يكون وصفهم في هذه الآية بقوله : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } ناظراً إلى وصفهم بذلك مرتين في آية سورة العقود في قوله : { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [ المائدة : 25 ] وقوله : { فلا تأس على القوم الفاسقين } [ المائدة : 26 ] .
فيكون المقصود الأهم من القصة هو ما تفرع على ذكرها من قوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } . ويناسب أن تكون هذه الآية تحذيراً من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعبرة بما عرض لهم من الهزيمة يوم أُحُد لما خالفوا أمره من عدم ثبات الرماة في مكانهم .
وقد تشابهت القصتان في أن القوم فرّوا يوم أُحُد كما فرّ قوم موسى يوم أريحا ، وفي أن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا مكانهم « ولو تخطَّفَنا الطير » وأن ينضحوا عن الجيش بالنبال خشية أن يأتيه العدوّ من خلفه لم يفعلوا ما أمرهم به وعصوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير وفارقوا موقفهم طلباً للغنيمة فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين يوم أُحُد .
والواو على هذا الوجه عطف تحذير مأخوذ من قوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } على النهي الذي في قوله : { لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 2 ] الآية .
ويتبع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حصل من مخالفة الرماة حتى تسببوا في هزيمة الناس .
و { إذ } متعلقة بفعل محذوف تقديره : اذْكُر ، وله نظائر كثيرة في القرآن ، أي اذكر لهم أيضاً وقت قول موسى لقومه أو اذكر لهم مع هذا النهي وقت قول موسى لقومه .
وابتداء كلام موسى عليه السلام ب { يا قوم } تعريض بأن شأن قوم الرسول أن يطيعوه بَلْهَ أن لا يؤذوه . ففي النداء بوصف { قوم } تمهيد للإِنكار في قوله : { لم تؤذونني } .
والاستفهام للإِنكار ، أي إنكار أن يكون للإِذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون .
وقد جاءت جملة الحال من قوله : { وقد تعلمون أني رسول الله } مصادفة المحلّ من الترقّي في الإِنكار .
و { قد } لتحقيق معنى الحالية ، أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته ، وكما أكد علمهم ب { قَد } أكد حصول المعلوم ب ( أنّ ) المفتوحة ، فحصل تأكيدان للرسالة . والمعنى : فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم .
والإِتيان بعد { قد } بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدّد بتجدد الآيات والوحي ، وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دلّ على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى . ولعله قد طرأ عليه ما يبطله ، وهذا كالمضارع في قوله : { قد يعلم الله المعوقين منكم } في سورة [ الأحزاب : 18 ] .
والزيغ : الميل عن الحق ، أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغاً ، أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال .
وجملة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } تذييل ، أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوْه من أهل ذلك العموم .
وذُكر وصف { الفاسقين } جارياً على لفظ { القوم } للإِيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقوّمات قوميتهم . كما تقدم عند قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله : { لآيات لقوم يعقلون } في [ البقرة : 164 ] .
فالمعنى : الذين كان الفسوق عن الحق سجية لهم لا يلطف الله بهم ولا يعتني بهم عناية خاصة تسوقهم إلى الهدى ، وإنما هو طوع الأسباب والمناسبات .