{ 26 } { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
وهم : أي المشركون بالله ، المكذبون لرسوله ، يجمعون بين الضلال والإضلال ، ينهون الناس عن اتباع الحق ، ويحذرونهم منه ، ويبعدون بأنفسهم عنه ، ولن يضروا الله ولا عباده المؤمنين ، بفعلهم هذا ، شيئا . { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } بذلك .
وقوله : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } وفي معنى { يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قولان : أحدهما : أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق ، وتصديق الرسول ، والانقياد للقرآن ، وينسأون عنه أي : [ ويبتعدون هم عنه ، فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ]{[10622]} ولا يتركون أحدًا ينتفع [ ويتباعدون ]{[10623]} قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به .
وقال محمد بن الحنفية : كان كفار قريش لا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وينهون عنه .
وكذا قال مجاهد وقتادة ، والضحاك ، وغير واحد . وهذا القول أظهر ، والله أعلم ، وهو اختيار ابن جرير .
والقول الثاني : رواه سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : نزلت في أبي طالب كان ينهى [ الناس ]{[10624]} عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى{[10625]}
وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعطاء بن دينار : إنها نزلت في أبي طالب . وقال سعيد بن أبي هلال : نزلت في عمومة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وكانوا عشرة ، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر . رواه ابن أبي حاتم .
وقال محمد بن كعب القرظي : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } أي : ينهون الناس عن قتله .
[ و ]{[10626]} قوله : { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي : يتباعدون منه{[10627]} { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : وما يهلكون بهذا الصنيع ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، وما يشعرون .
الضمير في قوله : { وهم } عائد على المذكورين قبل ، والضمير في { عنه } قال قتادة ومجاهد يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله أن يفهموه وقال ابن عباس وابن الحنفية والضحاك : هو عائد على محمد عليه السلام والمعنى أنهم ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم و «النأي » البعد{[4876]} ، { وإن يهلكون } معناه ما يهلكون إلا أنفسهم بالكفر الذي يدخلهم جهنم ، وقال ابن عباس أيضاً والقاسم وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار المراد بقوله { وهم ينهون عنه } أبو طالب ومن كان معه على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الدوام في الكفر{[4877]} ، والمعنى وهم ينهون عنه من يريد إذايته { وينأون عنه } بإيمانهم واتباعهم فهم يفعلون الشيء وخلافه ، ويقلق على هذا القول رد قوله { وهم } على جماعة الكفار المتقدم ذكرها ، لأن جميعهم لم يكن ينهى عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : ويتخرج ذلك ويحسن على أن تقدر القصد ذكر ما ينعى على فريق فريق من الجماعة التي هي كلها مجمعة على الكفر ، فخرجت العبارة عن فريق من الجماعة بلفظ يعم الجماعة ، لأن التوبيخ على هذه الصورة أغلظ عليهم ، كما تقول إذا شنعت على جماعة فيها زناة وسرقة وشربة خمر هؤلاء يزنون ويسرقون ويشربون الخمر وحقيقة كلامك أن بعضهم يفعل هذا وبعضهم يفعل هذا ، فكأنه قال : من هؤلاء الكفرة من يستمع وهم ينهون عن إذايته ولا يؤمنون به ، أي : منهم من يفعل ذلك { وما يشعرون } معناه : ما يعلمون علم حسّ ، وهو مأخوذ من الشعار الذي يلي بدن الإنسان ، والشعار مأخوذ من الشعر ، ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر وتحس ، فإذا قلت لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات .
قال القاضي أبو محمد : وقرأ الحسن «وينون عنه » ألقيت حركة الهمزة على النون على التسهيل القياسي .
عطف على جملة { ومنهم من يستمع إليك } ، والضميران المجروران عائدان إلى القرآن المشار إليه باسم الإشارة في قولهم : { إن هذا إلاّ أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه . فهو من تعليق الحكم بالذات . والمراد حالة من أحوالها يعيّنها المقام . وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه ، أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه . قال النابغة :
لقد نَهَيتُ بني ذبيانَ عن أُقُر *** وعن تربّعهم في كلّ أصفار
يعني نهيتهم عن الرعي في ذي أقر ، وهو حمى الملك النعمان بن الحارث الغسّاني .
وبين قوله : { ينهون وينأون } الجناس القريب من التمام .
والقصر في قوله : { وإنْ يهْلِكُون إلاّ أنْفسهم } قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنّهم يظنّون بالنهي والنأي عن القرآن أنّهم يضرّون النبي صلى الله عليه وسلم لئلاّ يتّبعوه ولا يتّبعه الناس ، وهم إنّما يُهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس ، فيحملون أوزارهم وأوزار الناس ، وفي هذه الجملة تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأنّ ما أرادوا به نكايته إنّما يضرّون به أنفسهم .
وأصل الهلاك الموت . ويطلق على المضرّة الشديدة لأنّ الشائع بين الناس أنّ الموت أشدّ الضرّ . فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلّة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب .
والنأي : البعد . وهو قاصر لا يتعدّى إلى مفعول إلاّ بحرف جرّ ، وما ورد متعدّياً بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة .
وعقّب قوله : { وإن يهلكون إلاّ أنفسهم } بقوله : { وما يشعرون } زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم ، وإظهاراً لضعف عقولهم مع أنّهم كانوا يعدّون أنفسهم قادة للناس ، ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله : { وما يشعرون } للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصوداً به الإخبار المستقلّ لأنّ الناس يعُدّونهم أعظم عقلائهم .