تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ} (14)

ثم قال تعالى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، و[ ذلك ] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين ، أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم ، فإذا خلوا إلى شياطينهم - أي : رؤسائهم وكبرائهم في الشر - قالوا : إنا معكم في الحقيقة ، وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم ، أنا على طريقتهم ، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ} (14)

يقول الله{[1279]} تعالى : وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا : { آمَنَّا } أي : أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة ، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية ، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم ، { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } يعني : وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا{[1280]} إلى شياطينهم . فضمن { خَلَوْا } معنى انصرفوا ؛ لتعديته بإلى ، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ{[1281]} به . ومنهم من قال : " إلى " هنا بمعنى " مع " ، والأول أحسن ، وعليه يدور كلام ابن جرير .

وقال السدي عن أبي مالك : { خَلَوْا } يعني : مضوا ، و{ شَيَاطِينِهِمْ } يعني : سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين .

قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة عن ابن مسعود ، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } يعني : هم رؤوسهم من الكفر .

وقال الضحاك عن ابن عباس : وإذا خلوا إلى أصحابهم ، وهم شياطينهم .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن

عباس : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول .

وقال مجاهد : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين .

وقال قتادة : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } قال : إلى رؤوسهم ، وقادتهم في الشرك ، والشر .

وبنحو ذلك فسَّره أبو مالك ، وأبو العالية والسدي ، والرّبيع بن أنس .

قال ابن جرير : وشياطين كل شيء مَرَدَتُه ، وتكون الشياطين من الإنس والجن ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [ الأنعام : 112 ] .

وفي المسند عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن » . فقلت : يا رسول الله ، وللإنس شياطين ؟ قال : «نعم »{[1282]} .

وقوله تعالى : { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أي إنا على مثل ما أنتم عليه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي : إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

وكذلك قال الرّبيع بن أنس ، وقتادة .

/خ20


[1279]:زيادة من أ.
[1280]:في أ، و: "أو ذهبوا أو خلصوا".
[1281]:في طـ، ب، أ، و: "الملفوظ".
[1282]:المسند (5/178).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ} (14)

{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } بيان لمعاملتهم المؤمنين والكفار ، وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير . روي أن ابن أبي وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة ، فقال لقومه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال : مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال : مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه سيد بني هاشم ، ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت . واللقاء المصادفة يقال ؛ لقيته ولاقيته ، إذا صادفته واستقبلته ، ومنه ألقيته إذا طرحته فإنك بطرحه جعلته بحيث يلقى .

{ وإذا خلوا إلى شياطينهم } من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه . أو من خلال ذم أي عداك ومضى عنك ، ومنه القرون الخالية . أو من خلوت به إذا سخرت منه ، وعدي بإلى لتضمن معنى الإنهاء ، والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم ، وهم المظهرون كفرهم ، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر . أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم . وجعل سيبويه نونه تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد عن الصلاح ، ويشهد له قولهم : تشيطن . وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل ، ومن أسمائه الباطل .

{ قالوا إنا معكم } أي في الدين والاعتقاد ، خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية ، والشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة بإن لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان ، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه ، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق رغبة فيما خاطبوا به المؤمنين ، ولا توقع رواج ادعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار .

{ إنما نحن مستهزءون } تأكيد لما قبله ، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به مصر على خلافه . أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر . أو استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما ( قالوا إنا معكم ) إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين وتدعون الإيمان فأجابوا بذلك . والاستهزاء السخرية والاستخفاف يقال : هزئت واستهزأت بمعنى كأجبت واستجبت ، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع يقال : هزأ فلان إذا مات على مكانه ، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ} (14)

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ( 14 )

و { لقوا } أصله لقيوا استثقلت الضمة على الياء فسكنت فاجتمع الساكنان فحذفت الياء . وقرأ ابن السميفع «لاقوا الذين » . وهذه كانت حال المنافقين إظهار الإيمان للمؤمنين وإظهار الكفر في خلواتهم بعضهم مع بعض( {[238]} ) ، وكان المؤمنون يلبسونهم على ذلك لموضع القرابة فلم تلتمس عليهم الشهادات ولا تقرر تعينهم في النفاق تقرراً يوجب لوضوحه الحكم بقتلهم وكان ما يظهرونه من الإيمان يحقن دماءهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم ويدعهم في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه فينفر الناس حسبما قال عليه السلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال له في وقت قول عبد الله بن أبي ابن سلول : «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل » القصة : «دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق » فقال : «دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه »( {[239]} ) .

فهذه طريقة أصحاب مالك رضي الله عنه في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين مع علمه بكفرهم في الجملة : نص على هذا محمد بن الجهم وإسماعيل القاضي والأبهري وابن الماجشون واحتج بقوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين إينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً }( {[240]} ) [ الأحزاب : 60-61 ] . قال قتادة : «معناه إذا هم أعلنوا النفاق » .

قال مالك رحمه الله : «النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم ، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة ، لأنه لا يظهر ما يستتاب منه ، وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليسن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين » .

قال القاضي إسماعيل : «لم يشهد على عبد الله بن أبي( {[241]} ) إلا زيد بن أرقم وحده ، ولا على الجلاس( {[242]} ) بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه وحده ، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أقوى من انفراد زيد وغيره أن اللفظ ليس بصريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر .

قال الشافعي رحمه الله : «السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه » . وبه قال أصحاب الرأي والطبري وغيرهم .

قال الشافعي وأصحابه : «وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله فمن قال إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف معنى الكتاب والسنة وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله على المنافقين » .

قال الله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }( {[243]} ) [ المنافقون : 1 ] .

قال الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل وأهل الحديث : فالمعنى الموجب لكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع العلم بهم أن الله تعالى نهاه عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان وصلوا فكذلك و الزنديق .

واحتج ابن حنبل بحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجل من الأنصار في الذي شهد عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفاق( {[244]} ) فقال : «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ قالوا بلى ولا شهادة له ، قال : أليس يصلى ؟ قالوا بلى ولا صلاة له ، قال : أولئك الذين نهاني الله عنهم »

وذكر أيضاً أهل الحديث ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيهم : «لعل الله سيخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويصدق المرسلين ويخلص العبادات لرب العالمين »( {[245]} ) .

قال أبو جعفر الطبري في كتاب اللطيف في باب المرتد : «إن الله تعالى قد جعل الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون ، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ووكل سرائرهم إلى الله وقد كذب الله

ظاهرهم في قوله تعالى : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ينفصل المالكيون( {[246]} ) عما ألزموه من هذه الآية( {[247]} ) بأنها لم تعين أشخاصهم وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص( {[248]} ) عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول لم أرد بها ولا أنا إلا مؤمن ولو عين أحد لما جب كذبه شيئاً .

وقوله تعالى : { وإذا خلوا إلى شياطينهم } وصلت { خلوا } ب { إلى } وعرفها أن توصل بالباء( {[249]} ) فتقول خلوت بفلان من حيث نزلت { خلوا } في هذا الموضع منزلة ذهبوا وانصرفوا( {[250]} ) ، إذ هو فعل معادل لقوله { لقوا } ، وهذا مثل ما تقدم من قول الفرزدق : [ الرجز ]

كيف تراني قالباً مِجَنِّي . . . فقد قتل الله زياداً عني

لما أنزله منزلة صرف ورد .

قال مكي : «يقال خلوت بفلان بمعنى سخرت به فجاءت إلى في الآية زوالاً عن الاشتراك في الباء »( {[251]} ) . وقال قوم : { إلى } بمعنى مع ، وفي هذا ضعف ويأتي بيانه إن شاء الله في قوله تعالى : { من أنصاري إلى الله }( {[252]} ) [ آل عمران : 52 ، الصف : 14 ] .

وقال قوم : { إلى } بمعنى الباء إذ حروف المعاني يبدل بعضها من بعض . وهذا ضعيف يأباه الخليل وسيبويه وغيرهما .

واختلف المفسرون في المراد بالشياطين( {[253]} ) فقال ابن عباس رضي الله عنه : «هم رؤساء الكفر » .

وقال ابن الكلبي وغيره : «هم شياطين الجن » .

قال القاضي أبو محمد : وهذا في الموضع بعيد .

وقال جمع من المفسرين : «هم الكهان » . ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر والمنافقين حتى يقدر كل واحد شيطان غيره ، فمنهم الخالون ، ومنهم الشياطين .

و { مستهزئون } معناه نتخذ هؤلاء الذين نصانعهم( {[254]} ) بإظهار الإيمان هزواً ونستخف بهم .

ومذهب سيبويه رحمه الله أن تكون الهمزة مضمومة على الواو في { مستهزئون } . وحكى عنه علي أنها تخفف بين بين .

ومذهب أبي الحسن الأخفش أن تقلب الهمزة ياء قلباً صحيحاً فيقرأ «مستهزِيُون » .

قال ابن جني : «حمل الياء الضمة تذكراً لحال الهمزة المضمومة والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة » .

وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه ، ويقال : «هزىء واستهزأ » بمعنى ، فهو «كعجب واستعجب » ، ومنه قول الشاعر( {[255]} ) [ أوس بن حجر ] : [ الطويل ]

ومستعجب مما يرى من أناتنا . . . ولو زبنته الحرب لم يترمرم


[238]:- قال أبو محمد بن قتيبة: النفاق في اللغة مأحوذ من "نفقاء اليربوع" وهو جحر من جحرته يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه، فيقال: قد نفق ونافق. شبه بفعل اليربوع، فإنه يدخل من باب، وكذلك المنافق يدخل في الإسلام، باللفظ، ويخرج منه بالعقد، والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب قبل الإسلام تعرفه، أي بالمعنى المخصوص وهو ستر الكفر وإظهار الإيمان، وإن كان أصله معروفا عندهم، واعلم أن أبا محمد بن عطية رحمه الله تعرض في هذا المكان لعدد من المسائل المتعلقة بالنفاق والزندقة: المسألة الأولى: أن المؤمنين كانوا يتعاملون مع المنافقين برغم نفاقهم لموضع القرابة، فلم تلتمس عليهم الشهادات، ولم يقرر نفاقهم تقريرا يوجب الحكم بقتلهم، وكان ما يظهرونه من الإيمان كافيا لحقن دمائهم وعدم التعرض لأموالهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرض عنهم ويدعهم في حالة الاشتباه. المسألة الثانية: اختلاف أئمة الإسلام في معنى إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم. فقال مالك وأصحابه: كان ذلك لمصلحة تأليف القلوب كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي) وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا، قال المؤلف رحمه الله: نص على هذا محمد بن الجهم، والقاضي إسماعيل، والأبهري، وابن الماجشون، واستدل بقوله تعالى: [لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا] قال قتادة: معناه: إذا هم أعلنوا النفاق. المسألة الثالثة: قال الإمام مالك رحمه الله: النفاق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شُهد عليه بها دون استتابة لأنه لا يظهر ما يُستتاب عليه، قال مالك رحمه الله: وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليَسُنَّ لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذا لم يشهد على المنافقين –ولم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد ابن أرقم وحده، ولا على الجُلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه، ولو شهد رجلان بنفاقه وكفره لقتل. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أقوى من انفراد زيد وغيره بالشهادة أن اللفظ ليس بصريح في الكفر. وقال الشافعي رحمه الله: السنة فيمن يشهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن الإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من قتله، وبه قال أصحاب الرأي، والإمام أحمد، والطبري وغيرهم- قال الشافعي وأصحابه: وإنما منع رسول الله من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم، لأن ما يظهرونه يَجُبُّ ما قبله. وقال الإمام الطبري: جعل الله الأحكام بين عباده على الظاهر، وتولى الحكم في سرائرهم، دون أحد من خلقه، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله، وقد كذَّب الله ظاهرهم بقوله: [والله يشهد إن المنافقين لكاذبون]. قال أبو محمد بن عطية رحمه الله: ينفصل المالكية عما ألزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم، وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه النفاق، وبقي لكل واحد منهم أن يقول: لم أرد بها وما أنا إلا مؤمن، ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا. انظر "الموطأ" في "كتاب الأقضية" في باب (القضاء فيمن ارتد عن الإسلام).
[239]:- أخرج هذا الحديث الشيخان: البخاري ومسلم.
[240]:- الآيتان (60-61) من سورة الأحزاب.
[241]:- انظر التفسير لدى قوله تعالى: [ليخرجن الأعز منها الأذل] في سورة المنافقون.
[242]:- بالتخفيف، انظر التفسير لدى قوله تعالى: [يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر] الآية.
[243]:- الآية 1 من سورة المنافقون.
[244]:- رواه في مسنده. كما رواه الإمام مالك في موطئه. وعبيد الله بن عدي- كان من فقهاء قريش وعلمائها- توفي بالمدينة سنة 95هـ.
[245]:- رواه الإمام مسلم في مسنده الصحيح، فيما لقي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، بلفظ: (أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا).
[246]:- أي يتخلصون من هذا الإلزام بأن الآية لم يكن فيها تعيين لأشخاصهم، ولا شهادة على أعيانهم، وإنما هي توبيخ لجملة المنافقين، وقد بحث الإمام (ق) رحمه الله فيما قاله ابن عطية، وقال: "هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم، أو كثيرا منهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة بن اليمان يعلم ذلك، بإخبار النبي عليه السلام إياه"، وفي نظره نظر، فإن الانفصال مرده إلى الآية الكريمة التي شهد الله فيها أن المنافقين كاذبون من دون أن يبينهم، ولا أن يعينهم- وقد مضى قول الإمام مالك رحمه الله: إنما كف النبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليسُن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذا لم يشهد على المنافقين، وقيام الشهادة على المنافقين من باب الحكم بالظاهر، ومن شأن الشهادة التعيين للمشهود عليه، على أن العلم بهم إنما كان مستنده حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن يُنَفِّروا به الناقة ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع صلى الله عليه وسلم على ذلك حذيفة. فأما غير هؤلاء الأربعة عشر فقد قال الله تعالى: [وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم] الآية وقال تعالى: [لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم] الآية ففيها دليل أنه لم يغر بهم ولم يدل على أعيانهم، وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: [ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم] الآية، وفي كلام ابن (ك) رحمه الله ما يشير إلى الاعتراض على (ق) انظره.
[247]:- أي في قوله تعالى: [والله يشهد إن المنافقين لكاذبون].
[248]:- يقال: رجل مغموص عليه أي مطعون في دينه ومتهم بنفاقه.
[249]:- يقال: خلا بفلان وإليه: اجتمع به في خلوة. وتعدية خلا بالباء في هذا المعنى أكثر استعمالا.
[250]:- إزالة للاشتراك كما يأتي، ومعلوم أن تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف.
[251]:- حيث يقال: خلوت بفلان: انفردت به، وخلوت بهن وخلوت بهك سخرت به. فالباء تدل على واحد من المعنيين، بخلاف إلى.
[252]:- أي الواردة في سورة آل عمران من الآية(52)، ونصه هناك: "وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى (مع). ونعم: إن (مع) تسد في هذا المعنى مسد (إلى)، لكن ليس يباح من هذا أن (إلى) بمعنى (مع)، حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى: [وأيديكم إلى المرافق] فقال: (إلى) بمعنى (مع) وهذه عجمة بلى (إلى) في هذه الآية غاية مجردة، وينظر: هل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها من طريق آخر؟ اهـ. وقوله: و(نعم) جاءت في صدر الكلام للتأكيد، فهي بمعنى و(حقا). ولعله يقرب من هذا قول الشيخ عبد القاهر الجرجاني: ليس كل ما فيه معنى الشيء حكمه حكم ذلك الشيء، بمعنى أنه فرق بين أن يكون في الشيء معنى الشيء وأن يكون الشيء الشيء على الإطلاق.
[253]:- في مسند الإمام أحمد رحمه الله، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن)، فقلت: يا رسول الله، وللإنسان شياطين قال: (نعم).
[254]:- ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه) وقال: (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان وهؤلاء بوجه) وقال: (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)، رواهما أبو داود في سننه.
[255]:- أوس بن حجر: وقوله تعالى: زبنته الحرب دفعته، وقوله: لم يترمرم أي لم يتحرك.