{ فَدَلَّاهُمَا } أي : نزَّلهما عن رتبتهما العالية ، التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى التلوث بأوضارها ، فأقدما على أكلها .
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } أي : ظهرت عورة كل منهما بعد ما كانت مستورة ، فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال أثر في اللباس الظاهر ، حتى انخلع فظهرت عوراتهما ، ولما ظهرت عوراتهما خَجِلا وجَعَلا يخصفان على عوراتهما من أوراق شجر الجنة ، ليستترا بذلك .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } فلم اقترفتما المنهي ، وأطعتما عدوَّكُما ؟
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، رضي الله عنه ، قال : كان آدم رجلا طُوَالا كأنه نخلة سَحُوق ، كثير شعر الرأس . فلما وقع بما وقع به من الخطيئة ، بَدَتْ له عورته عند ذلك ، وكان لا يراها . فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة ، فقال لها : أرسليني . فقالت : إني غير مرسلتك . فناداه ربه ، عز وجل : يا آدم ، أمنّي تفر ؟ قال : رب إني استحييتك . {[11622]}
وقد رواه ابن جرير ، وابن مَرْدُويه من طُرُق ، عن الحسن ، عن أبيّ بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والموقوف أصحّ إسنادا . {[11623]}
وقال عبد الرزاق : أنبأنا سفيان بن عيينة وابن المبارك ، عن الحسن بن عمارة ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ، السنبلة . فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما ، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين ، يلزقان بعضه إلى بعض . فانطلق آدم ، عليه السلام ، موليا في الجنة ، فعلقت برأسه شجرة من الجنة ، فناداه : يا آدم ، أمني تفر ؟ قال : لا ولكني استحييتك يا رب . قال : أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة ، عما حرمت عليك . قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا . قال : وهو قوله ، عز وجل{[11624]} { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كَدا . قال : فأهبط من الجنة ، وكانا يأكلان منها رَغَدًا ، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب ، فعُلّم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث ، فحرث وزرع ثم سقى ، حتى إذا بلغ حصد ، ثم داسه ، ثم ذَرّاه ، ثم طحنه ، ثم عجنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ{[11625]} وقال الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } قال : ورق التين . صحيح إليه .
وقال مجاهد : جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة كهيئة الثوب .
وقال وَهْب بن مُنَبِّه في قوله : { يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } قال : كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما ، لا يرى هذا عورة هذه ، ولا هذه عورة هذا . فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما . رواه ابن جرير بإسناد صحيح إليه .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : قال آدم : أي رب ، أرأيت إن تبت واستغفرت ؟ قال : إذًا أدخلك الجنة . وأما إبليس فلم يسأله التوبة ، وسأله النظرة ، فأعطي كل واحد منهما الذي سأله .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها . قال : حواء . أمرتني . قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْها ، ولا تضع إلا كَرْها . قال : فرنَّت عند ذلك حواء . فقيل لها : الرنة عليك وعلى ولدك{[11626]}
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله:"فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ": فخدعهما بغرور، يقال منه: ما زال فلان يدلّي فلانا بغرور، بمعنى: ما زال يخدعه بغرور ويكلمه بزخرف من القول باطل. "فَلَمّا ذَاقَا الشّجَرَةَ "يقول: فلما ذاق آدم وحوّاء ثمر الشجرة، يقول: طعِماه. "بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما "يقول: انكشفت لهما سوآتهما، لأن الله أعراهما من الكسوة التي كان كساهما قبل الذنب والخطيئة، فسلبهما ذلك بالخطيئة التي أخطئا، أو المعصية التي ركبا. "وَطَفِقَا يَخْصَفانِ عَلَيْهما مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ" يقول: أقبلا وجعلا يشدّان عليهما من ورق الجنة ليواريا سوآتهما. كما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الجَنّةِ قال: جعلا يأخذان من ورق الجنة فيجعلان على سوءاتهما.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كانَ آدَمُ كأنّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ كَثِيرَ شَعْرِ الرأْسِ، فَلَمّا وَقَعَ بالخَطِيئَةِ بَدَتْ لَهُ عَوْرتُهُ وكانَ لا يَرَاها، فانْطَلَقَ فارّا، فَتَعَرّضَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فَحَبَسَتْهُ بِشَعْرِهِ، فَقالَ لَهَا: أرْسِلِيني، فَقالَتْ: لَسْتُ بمُرْسِلَتِكَ، فَنادَاهُ رَبّهُ: يا آدَمُ، أمِنّي تَفِرّ؟ قالَ: لا، وَلَكِنّي اسْتَحَيْتُكَ»...
"وَنادَاهُمَا رَبّهُما ألَمْ أنْهَكُما عَنْ تِلْكُما الشّجَرَةِ وأقُلْ لَكُما إنّ الشّيْطانَ لَكُما عَدُوّ مُبِينٌ" يقول تعالى ذكره: ونادى آدم وحوّاء ربُّهما: ألم أنهكما عن أكل ثمرة الشجرة التي أكلتما ثمرها، وأعلمكما أن إبليس لكما عدوّ مبين؟ يقول: قد أبان عداوته لكما بترك السجود لآدم حسدا وبغيا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فدلاّهما بغرور} أي أوردهما؛ يقال: دلاّني فلان بحبل غرور؛ أي أنه زيّن النصح حتى يركبه. وأصل التدلية من الدلو، وهو من الدعاء؛ أي دعاهما بغرور؛ وهو قوله تعالى: {هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 120] وقوله تعالى: {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20]...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} معناه: فحطهما بغرور من منزلة الطاعة إلى حال المعصية.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش، وأصله الغر: طي الثوب، يقال: اطوه على غره أي على كسر طيه.
وقوله "فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما "أي ظهرت عورتاهما.
" إن الشيطان لكما عدو مبين "يعني ظاهر العداوة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يحصل استيفاء من الأكل والاستمتاع به للنفس حتى ظهرت تباشيرُ العقاب؛ وتَنَغُّصِ الحال، وكذا صفة مَنْ آثر على الحق -سبحانه- شيئاً يبقيه عنه، فلا يكون له بما آثر استمتاع. وكذلك مَنْ ادَّخَر عن الله -سبحانه- نَفْسَه أو مالَه أو شيئاً بوجهٍ من الوجوه -لا يبارك الله فِيه.
"وطَفِقَا يخصفان عليهما من ورق الجنة": فبعدما كانت كسوتهما حُلَلَ الجنة ظَّلا يستتران بورق الجنة.
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}: فكان ما دَاخَلَهما من الخجل أشدَّ من كل عقوبة؛ لأنهما لو كانا من الغيبة عند سماع النداء فإن الحضور يوجب الهيبة، فلما ناداهما بالعتاب حَلَّ بهما من الخجل ما حلّ.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
غرهما باليمين، ومعنى دلاهما: جرأهما على أكل الشجرة بما غرهما به من يمينه. {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} تهافت لباسهما عنهما فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه فاستحييا. {وطفقا يخصفان} أقبلا وجعلا يرقعان الورق كهيئة الثوب ليستترا به...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما) في هذا دليل على أنهما لم يمتعا في الأكل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فدلاهما بغرور} يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره... ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به، فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي، وفي آية أخرى {فأكلا منها}.
{فدلاهما بغرور} وذكر أبو منصور الأزهري لهذه الكلمة أصلين: أحدهما: أصل الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. فيقال: دلاه إذا أطمعه.
الثاني: {فدلاهما بغرور} أي أجرأهما إبليس على أكل الشجرة بغرور، والأصل فيه دللهما من الدل، والدالة وهي الجرأة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... {وأقلّ لكما} إشارة إلى قوله تعالى: {فقلنا يا آدم أنّ لا هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} وهذا هو العهد الذي نسيه آدم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
..والغرور: الخداع بالباطل وهو مأخوذ من الغرة (بالكسر) والغرارة (بالفتح) وهما بمعنى الغفلة وعدم التجربة. وقيل دلاهما حال كونهما متلبسين بغرور. والأول أظهر...
واستنكر بعضهم أن يكونا صدقاه واستكبر أن يقع ذلك منهما، وزعم أن تصديقه كفر، ورجح هؤلاء أن يكون الغرور بتزيين الشهوة، فإن من غرائز البشر حب التجربة واستكشاف المجهول، والرغبة في الممنوع، فجاء الوسواس نافخا في نار هذه الشهوات الغريزية مذكيا لها، مثيرا للنفس بها إلى مخالفة النهي حتى نسي آدم عهد ربه...
{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة} أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مواراة عنهما، قيل بلباس من الظفر كان يسترها فسقط عنهما، وبقيت له بقية في رؤوس أصابعهما، وقيل بلباس مجهول كان الله تعالى ألبسهما إياه، وقيل بنور كان يحجبهما ولا دليل على شيء من ذلك، ولم يصح به أثر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. والأقرب عندي أن معنى ظهورها لهما أن شهوة التناسل دبت فيهما بتأثير الأكل من الشجرة فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها، فخجلا من ظهورها، وشعرا بالحاجة إلى سترها،... فالمواراة كانت معنوية فإن كانت حسية فما ثم إلا الشعر ساتر خلقي، وقد تظهر الشهوة ما أخفاه الشعر، وإن لم يسقط بتأثير ذلك الأكل. ويدل على كل من هذين الوجهين فطرة الإنسان التي نزلت الآيات في شرح حقيقتها وغرائزها، والله أعلم بمراده، وخلقه وقدره أصدق شاهد لكتابه...
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين} الاستفهام هنا للعتاب والتوبيخ، أي وقال لهما ربهما الذي يربيهما في طور المخالفة والعصيان، كما يربيهما في حال الطاعة والإذعان: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة أن تقرباها وأقل لكما إن الشيطان عدو لكما دون غيركما من الخلق بين العداوة ظاهرها فلا تطيعاه يخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء في المعيشة والتعب في جهاد الحياة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة.
فقوله تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوْآت عند ذوق الشّجرة، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة، والشّعورَ بالنقيصة: فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم، وسلامة الفطرة، شبيهين بالملائكة لا يُقدمان على مفسدة ولا مَضرة، ولا يُعرضان عن نصح ناصح عَلِمَا صدقَه، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه، ويتوقّعان غروره، ولا يشعران بالسوء في الأفعال، ولا في ذَرائِعها ومقارناتها. لأنّ الله خلقهما في عالم ملَكي. ثمّ تطوّرت عقليَّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان. فتكّون فيهما فعل ما نُهيا عنه. ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعورُ بالسّوء للغير، وبالسوء للنّفس، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء...
، فإنَّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل، وإرادة الإقدام عليه، قارنت تلك الكيفيةَ الباعثةَ على الفعل نَشْأةُ الانفعال بالأشياء السيّئة، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة، أو تكون ذريعة إليها، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل، ومن فكرة السّرقة معرفةُ المكان الذي يختفَى فيه،... وهذا التّطوّر، الذي أشارت إليه الآية، قد جعله الله تطوّراً فطرياً في ذرّية آدم، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئاً من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلاّ إذا لحق به مؤلم خارجي، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه...
وقوله: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين، عَرفا بعض جزئياتها، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك، ولا تعليم يعلمهما، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة، وأنّ سترها متعيّن، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر،... وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه، ونزْعِ الجلافة الحيوانية من النّوع، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان، ثمّ أخذت الشّرائع، ووصايا الحكماء، وآداب المربِّينَ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام.
... وسبحانه لا يحرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه: {ولا تقربا هذه الشجرة}، وأوضح: أن هناك عنصرا إغوائيا هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرد الحق لهذا السبب. إذن إن آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب: نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه؛ لأن الحكم قد يأتي بالإخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي...