تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ} (110)

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } أي : اذكرها بقلبك ولسانك ، وقم بواجبها شكرا لربك ، حيث أنعم عليك نعما ما أنعم بها على غيرك .

{ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي : إذ قويتك بالروح والوحي ، الذي طهرك وزكاك ، وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله . وقيل : إن المراد " بروح القدس " جبريل عليه السلام ، وأن الله أعانه به وبملازمته له ، وتثبيته في المواطن المشقة .

{ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا } المراد بالتكليم هنا ، غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام ، وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب ، وهو الدعوة إلى الله .

ولعيسى عليه السلام من ذلك ، ما لإخوانه من أولي العزم من المرسلين ، من التكليم في حال الكهولة ، بالرسالة والدعوة إلى الخير ، والنهي عن الشر ، وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد ، فقال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } الآية .

{ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالكتاب يشمل الكتب السابقة ، وخصوصا التوراة ، فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل -بعد موسى- بها . ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه .

والحكمة هي : معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه ، وحسن الدعوة والتعليم ، ومراعاة ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي .

{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } أي : طيرا مصورا لا روح فيه . فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وتبرئ الأكمه الذي لا بصر له ولا عين . { وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } فهذه آيات بيِّنَات ، ومعجزات باهرات ، يعجز عنها الأطباء وغيرهم ، أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته . { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به . { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهموا بعيسى أن يقتلوه ، وسعوا في ذلك ، فكفَّ الله أيديهم عنه ، وحفظه منهم وعصمه .

فهذه مِنَنٌ امتَنَّ الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، ودعاه إلى شكرها والقيام بها ، فقام بها عليه السلام أتم القيام ، وصبر كما صبر إخوانه من أولي العزم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ} (110)

يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، فقال تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي : في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء { وَعَلى وَالِدَتِكَ } حيث جَعلتُكَ لها برهانًا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة ، { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وهو جبريل ، عليه السلام ، وجعلتك نبيًا داعيًا إلى الله في صغرك وكبرك ، فأنطقتك في المهد صغيرًا ، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب ، واعترفت لي بالعبودية ، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك{[10521]} إلى عبادتي ؛ ولهذا قال تعالى : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمن " تكلم " تدعو ؛ لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب .

وقوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : الخط والفهم { وَالتَّوْرَاةَ } وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم ، وقد يَرِدُ لفظ التوراة في الحديث ويُرَاد به ما هو أعم من ذلك .

وقوله : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } أي : تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فيكون طائرًا بإذني ، أي : فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك ، فتكون طيراً ذا روح بإذن الله وخلقه .

وقوله : { وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي } قد تقدم الكلام على ذلك{[10522]} في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته .

وقوله : { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } أي : تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته ، وإرادته ومشيئته .

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن طلحة - يعني ابن مُصَرِّف - عن أبي بِشْر ، عن أبي الهذيل قال : كان عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين ، يقرأ في الأولى : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [ سورة الملك ] ، وفي الثانية : { الم . تَنزيلُ الْكِتَابِ } [ سورة السجدة ] . فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ، ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد - وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر : يا حي ، يا قيوم ، يا الله ، يا رحمن ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا نور السموات والأرض ، وما بينهما ورب العرش العظيم ، يا رب .

وهذا أثر عجيب جدًا . {[10523]}

وقوله : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم ، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر ، وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيتك منهم ، ورفعتك{[10524]} إليَّ ، وطهرتك من دنسهم ، وكفيتك شرهم . وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا ، أو يكون هذا الامتنان واقعًا يوم القيامة ، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة . وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم .


[10521]:في د: "ودعوت".
[10522]:في د: "عليه".
[10523]:وهو من أخبار بني إسرائيل التي لم يرد ما يؤيدها والأقرب بطلانها.
[10524]:في د: "فرفعتك".