تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ} (38)

{ 38 } { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }

أي : جميع الحيوانات ، الأرضية والهوائية ، من البهائم والوحوش والطيور ، كلها أمم أمثالكم خلقناها . كما خلقناكم ، ورزقناها كما رزقناكم ، ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا ، كما كانت نافذة فيكم .

{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } أي : ما أهملنا ولا أغفلنا ، في اللوح المحفوظ شيئا من الأشياء ، بل جميع الأشياء ، صغيرها وكبيرها ، مثبتة في اللوح المحفوظ ، على ما هي عليه ، فتقع جميع الحوادث طبق ما جرى به القلم .

وفي هذه الآية ، دليل على أن الكتاب الأول ، قد حوى جميع الكائنات ، وهذا أحد مراتب القضاء والقدر ، فإنها أربع مراتب : علم الله الشامل لجميع الأشياء ، وكتابه المحيط بجميع الموجودات ، ومشيئته وقدرته النافذة العامة لكل شيء ، وخلقه لجميع المخلوقات ، حتى أفعال العباد .

ويحتمل أن المراد بالكتاب ، هذا القرآن ، وأن المعنى كالمعنى في قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ }

وقوله { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } أي : جميع الأمم تحشر وتجمع إلى الله في موقف القيامة ، في ذلك الموقف العظيم الهائل ، فيجازيهم بعدله وإحسانه ، ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الأولون والآخرون ، أهل السماء وأهل الأرض .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ} (38)

وقوله : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } قال مجاهد : أي أصناف مُصَنَّفة تُعرَف بأسمائها . وقال قتادة : الطير أمة ، والإنس أمة ، والجن أمة . وقال السُّدِّي : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي : خلق أمثالكم .

وقوله : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } أي : الجميع علمهم عند الله ، ولا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه وتدبيره ، سواء كان بريًا أو بحريًا ، كما قال : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] ، أي : مُفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها ، وقال [ الله ]{[10669]} تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 60 ]

وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد ، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قَلّ الجراد في سنة من سِني عمر ، رضي الله عنه ، التي ولي فيها ، فسأل عنه فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك . فأرسل راكبًا إلى كذا ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق يسأل : هل رؤى من الجراد شيء أم لا ؟ فأتاه{[10670]} الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة جراد{[10671]} فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ثلاثًا ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خَلَق الله ، عَزَّ وجل ، ألف أُمَّة ، منها ستمائة في البحر ، وأربعمائة في البرِّ . وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد ، فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه{[10672]} .

وقوله { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : حَشْرها الموتُ .

وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل عن{[10673]} سعيد ، عن مسروق ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : موتُ البهائم حَشْرُها . وكذا رواه العُوفِيّ ، عنه .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والضحاك ، مثله .

والقول الثاني : إن حشرها هو بعثها يوم القيامة كما قال تعالى : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ]

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن مُنْذِر الثوري ، عن أشياخ لهم ، عن أبي ذرٍّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان ، فقال : " يا أبا ذر ، هل تدر فِيمَ تنتطحان ؟ " قال : لا . قال " لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما " {[10674]}

ورواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الأعمش ، عمن ذكره عن أبي ذر قال : بينا أنا{[10675]} عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عَنزان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون فِيمَ انتطحتا ؟ " قالوا : لا ندري . قال : " لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما " . رواه ابن جرير ، ثم رواه من طريق منذر الثوري ، عن أبي ذر ، فذكره وزاد : قال أبو ذر : ولقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه عِلمًا{[10676]}

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثني عباس بن محمد وأبو يحيى البزار قالا حدثنا حجاج بن نُصير ، حدثنا شُعْبَة ، عن العَوَّام بن مَراجم{[10677]} - من بني قيس بن ثعلبة - عن أبي عثمان النَّهْدي ، عن عثمان ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة " {[10678]}

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن جعفر بن بُرْقَان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة في قوله : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجمَّاء من القرناء . قال : ثم يقول : كوني ترابًا . فلذلك يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } [ النبأ : 40 ] ، وقد روي هذا مرفوعًا في حديث الصور{[10679]}


[10669]:زيادة من م.
[10670]:في م، أ: "قال: فأتاه".
[10671]:في أ: "بقبضة من جراد"
[10672]:مسند أبي يعلى الكبير كما في مجمع الزوائد (7/322) ورواه ابن عدى في الكامل (5/352) والخطيب في تاريخ بغداد (11/218) من طريق عبيد بن واقد، عن محمد بن عيسى به، وفي إسناده عبيد بن واقد ومحمد بن عيسى وهما ضعيفان..
[10673]:في أ: بن".
[10674]:المسند (5/162) وقال الهيثمي في المجمع (10/352): "رجاله رجال الصحيح، وفيه راو لم يسم".
[10675]:في أ: "نحن".
[10676]:تفسير عبد الرزاق (1/200) وتفسير الطبري (11/348)
[10677]:في م، أ: "مزاحم".
[10678]:المسند (1/72) وفي إسناده حجاج بن نصير وهو ضعيف، وله شاهد من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، هو الحديث الآتي بعده.
[10679]:تفسير عبد الرزاق (1/200) ومن طريقه الطبري في تفسيره (11/347).