{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
هذه الصيغة من صيغ الامتناع ، أي : يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن ، أي : متعمدا ، وفي هذا الإخبارُ بشدة تحريمه وأنه مناف للإيمان أشد منافاة ، وإنما يصدر ذلك إما من كافر ، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما ، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك ، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته ، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى ، وأي أذى أشد من القتل ؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض "
فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله .
ولما كان قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا عاما لجميع الأحوال ، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه ، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال : { إِلَّا خَطَأً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم ، ولا مجترئ على محارم الله ، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعًا وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال :
{ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو عبدًا ، صغيرًا أو كبيرًا ، عاقلاً أو مجنونًا ، مسلمًا أو كافرًا ، كما يفيده لفظ " مَنْ " الدالة على العموم وهذا من أسرار الإتيان ب " مَنْ " في هذا الموضع ، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول : فإن قتله ، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله " مَنْ " وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى ، صغيرًا أو كبيرًا ، كما يفيده التنكير في سياق الشرط ، فإن على القاتل { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة لذلك ، تكون في ماله ، ويشمل ذلك الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والصحيح والمعيب ، في قول بعض العلماء .
ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة ؛ لأن المقصود بالعتق نفع العتيق ، وتمليكه منافع نفسه ، فإذا كان يضيع بعتقه ، وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه لا يجزئ عتقه ، مع أن في قوله : { تحرير رقبة } ما يدل على ذلك ؛ فإن التحرير : تخليص من استحقت منافعه لغيره أن تكون له ، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير . فتأمل ذلك فإنه واضح .
وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد . { مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } جبرًا لقلوبهم ، والمراد بأهله هنا هم ورثته ، فإن الورثة يرثون ما ترك ، الميت ، فالدية داخلة فيما ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه .
وقوله : { إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي : يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية ، فإنها تسقط ، وفي ذلك حث لهم على العفو لأن الله سماها صدقة ، والصدقة مطلوبة في كل وقت . { فَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } أي : من كفار حربيين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي : وليس عليكم لأهله دية ، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم .
{ وَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الرقبة ولا ثمنها ، بأن كان معسرا بذلك ، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية شيء يفي بالرقبة ، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : لا يفطر بينهما من غير عذر ، فإن أفطر لعذر فإن العذر لا يقطع التتابع ، كالمرض والحيض ونحوهما . وإن كان لغير عذر انقطع التتابع ووجب عليه استئناف الصوم .
{ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } أي : هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل توبة من الله على عباده ورحمة بهم ، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز ، كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : كامل العلم كامل الحكمة ، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، في أي وقت كان وأي محل كان .
ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء ، بل كل ما خلقه وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة ، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه ، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة ، وأخرجها من الوجود إلى العدم ، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية التامة ، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين ، فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقربا إلى الله .
ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها ، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة . بخلاف الظهار ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك .
ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ ، بإجماع العلماء ، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة ، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم ]{[222]} ويخف عنهم{[223]} بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم ، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين .
ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم ، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل .
ذلك في علاقات المسلمين مع المعسكرات الأخرى . فأما في علاقات المسلمين بعضهم ببعض ، مهما اختلفت الديار - وفي ذلك الوقت كما في كل وقت كان هناك مسلمون في شتى الديار - فلا قتل ولا قتال . . لا قتل إلا في حد أو قصاص . . فإنه لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة . ومن ثم لا يقتل المسلم المسلم أبدا . وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة . اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ . . وللقتل الخطأ توضع التشريعات والأحكام . فأما القتل العمد فلا كفارة له . لأنه وراء الحسبان ! ووراء حدود الإسلام !
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ . ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا - فإن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن - فتحرير رقبة مؤمنة . وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين . توبة من الله . وكان الله عليما حكيمًا .
( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابا عظيمًا ) . .
وهذه الأحكام تتناول أربع حالات : ثلاث منها من حالات القتل الخطأ - وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة - دار الإسلام - أو في ديار مختلفة بين شتى الأقوام - والحالة الرابعة حالة القتل العمد . وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء . فليس من شأنها أن تقع . إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمدا . وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمدا . وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبدا . . ومن ثم يبدأ حديثه عن أحكام القتل الخطأ :
( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) . .
فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي . . وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع . . فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة . كبيرة جدا . ونعمة عظيمة . عظيمة جدا . ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه ؛ والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد . . إن هذا العنصر . . المسلم . . عنصر عزيز في هذه الأرض . . وأشد الناس شعورا بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله . . فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله . . وهذا أمر يعرفه أصحابه . يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم . وقد علمهم الله إياه بهذه العقيدة . وبهذه الوشيجة . وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول الله [ ص ] ثم ترتقي فتجمعهم في الله سبحانه الذي ألف بين قلوبهم . ذلك التأليف الرباني العجيب .
فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث ، التي يبين السياق أحكامها هنا :
الحالة الأولى : أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام . ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة ، ودية تسلم إلى أهله . . فأما تحرير الرقبة المؤمنة ، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة . وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام . وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس ، وشراء لخواطر المفجوعين ، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول . . ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو -إذا اطمأنت نفوسهم إليه - لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم .
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا . .
والحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب . . وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت ، وفقدها الإسلام . ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين ، يستعينون بها على قتال المسلمين ! ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم ، فهم محاربون ، وهم عدو للمسلمين .
والحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون - عهد هدنة أو عهد ذمة - ولم ينص على كون المقتول مؤمنا في هذه الحالة . مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه . ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - المعاهدين - ولو لم يكن مؤمنا . لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين .
ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن . ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) . . ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنا . وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال : إن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو . ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة . مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضا عنه . وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقا دون شرط الإيمان . .
وقد ورد أن النبى [ ص ] ودى بعض القتلى من المعاهدين : ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم . مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية . وأن هذا ثبت بعمل رسول الله [ ص ] لا بهذه الآية . وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن . سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام ، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب ، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق . . ميثاق هدنة أو ذمة . . وهذا هو الأظهر في السياق .
انتقالُ الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض ، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض : من وجوب كفّ عُدوان بعضهم على بعض .
والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقَل إليه : أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم ، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل المؤمنين الخلّص وقد روي أنّه حدث حادثُ قتلِ مُؤمن خطأ بالمدينة ناشىء عن حزازات أيّام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظنّ المَقتول كافراً . وحادثُ قتل مؤمن عمداً ممّن كان يظهر الإيمان ، والحادث المشار إليه بقوله : { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا } [ النساء : 94 ] وأنّ هذه الآيات نزلت في ذلك ، فتزداد المناسبة وضوحاً لأنّ هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل .
هَوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم ، وجعله في حَيّز ما لا يكون ، فقال : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } فجاء بصيغة المبالغة في النفي ، وهي صيغة الجحود ، أي ما وُجد لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلاّ في حال الخطأ ، أو أن يَقتُل قَتْلاً من القتل إلاّ قَتْل الخطأ ، فكان الكلام حصراً وهو حصر ادّعائي مراد به المبالغة كأنّ صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدّين لقصد الإيذان بأنّ المؤمن إذا قتل مؤمناً فقد سُلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن ، على نحو « ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن » فتكون هذه الجملة مستقلّة عمّا بعدها ، غير مراد بها التشريع ، بل هي كالمقدّمة للتشريع ، لقصد تفظيع حال قتل المؤمنِ المؤمنَ قتلاً غيرَ خطإ ، وتكون خبرية لفظاً ومعنًى ، ويكون الاستثناء حقيقيّاً من عموم الأحوال ، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمناً في كلّ حال إلاّ في حال عدم القصد ، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية .
ولك أن تجعل قوله : { وما كان لمؤمن } خبراً مراداً به النهي ، استعمل المركّب في لازم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي ، وتجعل قوله : { إلاّ خطئاً } ترشيحاً للمجاز : على نحو ما قرّرناه في الوجه الأوّل ، فيحصل التنبيه على أنّ صورة الخطأ لا يتعلّق بها النهي ، إذ قد عَلم كلّ أحد أنّ الخطأ لا يتعلّق به أمر ولا نهي ، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذوناً فيه للمؤمن ، فهو قتل الخطأ ، وقد عُلم أنّ المخطىء لا يأتِي فعلَه قاصداً امتثالاً ولا عصياناً ، فرجع الكلام إلى معنى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً قتلاً تتعلّق به الإرادة والقصدُ بحال أبداً ، فتكون الجملة مبدأ التشريع ، وما بعدها كالتفصيل لها ؛ وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله : { إلاّ خطئاً } .
وذهب المفسّرون إلى أنّ { ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } مراد به النهي ، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجأوا إلى أنّ الاستثناء مُنقطع بمعنى ( لَكِن ) فراراً من اقتضاء مفهوم الاستثناء إباحةَ أن يقتل مؤمن مؤمناً خطأ ، وقد فهمت أنّه غير متوهّم هنا .
وإنّما جيء بالقيد في قوله : { ومن قتل مؤمناً خَطَئاً } لأنّ قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } مراد به ادّعاء الحصر أو النهيُ كما علمتَ ، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ ، فيستغنى عن تقييده به .
روى الطبري ، والواحدي ، في سبب نزول هذه الآية : أنّ عيّاشاً بن أبي ربيعة المخزومي كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان أخاً أبي جهل لأمّه فخرج أبو جهل وأخوه الحارث بن هشام والحارث بن زيد بن أبي أنيسة في طلبه ، فأتوه بالمدينة وقالوا له : إنّ أمّك أقسمت أن لا يُظلِهَّا بيت حتّى تراك ، فارجع معنا حتّى تنظر إليك ثم ارجع ، وأعطوه موثقاً من الله أن لا يُهجوه ، ولا يحولوا بينه وبين دِينه ، فخرج معهم فلمّا جاوزوا المدينة أوثقوه ، ودخلوا به مكة ، وقالوا له « لا نحلّك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به » . وكان الحارثُ بنُ زيد يجلده ويعذّبه ، فقال عيّاش للحارث « والله لا ألقاك خالياً إلاّ قتلتك » فبقي بمكة حتّى خرج يوم الفتح إلى المدينة فلقي الحارث بن زيد بقُباء ، وكان الحارثُ قد أسلم ولم يَعلم عياش بإسلامه ، فضربه عياشٌ فقتله ، ولما أعلم بأنّه مسلم رجع عيّاش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع فنزلت : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } فتكون هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة .
وفي ابن عطية : قيل نزلت في اليمان ، والد حذيفة بن اليمان ، حين قتله المسلمون يوم أحُد خطأ .
وفي رواية للطبري : أنّها نزلت في قضية أبي الدرداء حين كان في سريّة ، فعدل إلى شعب فوجد رَجلاً في غنم له ، فحمَل عليه أبو الدرداء بالسيف ، فقال الرجل « لا إله إلاّ الله » فضربَه فقتله وجاء بغنمه إلى السرية ، ثم وجد في نفسه شيئاً فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت الآية .
وقوله : { فتحرير رقبة } الفاء رابطة لِجواب الشرط ، و ( تحرير ) مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف من جملة الجواب : لظهور أنّ المعنى : فحكمهُ أو فشأنه تحرير رقبة كقوله : { فصبر جميل } [ يوسف : 18 ] . والتحرير تفعيل من الحُريّة ، أي جعل الرقبة حرّة . والرقبة أطلقت على الذات من إطلاق البعض على الكلّ ، كما يقولون ، الجزية على الرؤوس على كل رأس أربعة دنانير .
ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر ، وأقيمت عليها ثروات كثيرة ، وكانت أسبابها متكاثرة : وهي الأسر في الحروب ، والتصيير في الديوان ، والتخطّف في الغارات ، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ ، والرهائن في الخوف ، والتداين .
فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر ، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال ، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين ، لأنّ العربي ما كان يتقيّ شيئاً من عواقب الحروب مثل الأسر ، قال النابغة :
حذاراً على أن لا تُنال مَقادتي *** ولا نِسْوَتي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا
ثم داوَى تلك الجراحَ البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة : منها واجبة ، ومنها مندوب إليها . ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا . وقد جُعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين : أحدهما تحرير رقبة مؤمنة ، وقد جعل هذا التحرير بَدلاً من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل ، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه ، فلم يَخْل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف ، وقد نَبهتْ الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة ، وأنّ العبودية موت ؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبَدة . وسنزيد هذا بياناً عند قوله تعالى : { وإذ قال مُوسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً } في سورة المائدة ( 20 ) ، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم .
وثانيهما الدية . والديّةُ مال يدفع لأهل القتيل خطأ ، جبراً لمصيبة أهله فِيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما ، كما سيأتي .
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن . وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة ، فكانت عوضاً عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها . قال الحَماسي :
فلَوْ أنّ حَيّا يقبل المال فديـة *** لَسُقْنَا لهـــم سَيْباً من المال مُفْعَما
ولكن أبى قومٌ أصيب أخُوهُمُ *** رِضَى العارِ فاخْتاروا على اللبن الدّما
وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه . قال زهير :
تُعفَّى الكلوم بالمِئينَ فأصبحت *** يُنجِّمُها مَن ليس فيها بمجرم
وأمّا في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية ، قيل : إنّها كانت عشرة من الإبل وأنّ أوّل من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم ، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل ، فجرت في قريش كذلك ، ثمّ تبعهم العرب ، وقيل : أوّل من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عُمَيْلَةُ العَدواني ، وكانت ديَة المَلِك ألفاً من الإبل ، ودية السادة مائتين من الإبل ، وديّة الحليف نصف دية الصّميم . وأوّل من وُدِي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن . إذ قتله أخوه معاوية جدّ بني عامر بن صعصعة .
وأكثر ما ورد في السنّة من تقدير الدية من مائة من الإبل مُخمسَّة أخماساً : عشرون حقّة ، وعشرون جَذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون .
ودية العمد ، إذا رضي أولياء القتيل بالدية ، مربَّعة : خمسٌ وعشرون من كلّ صنف من الأصناف الأربعة الأوّل . وتغلَّظ الدية على أحد الأبوين تغليظاً بالصنف لا بالعدد ، إذا قتل ابنَه خطأ : ثلاثون جذعة ، وثلاثون حقة ، وأربعون خلفة ، أي نوقاً في بطونها أجنّتُها . وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريباً فجعلت على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنّه جعل الديّة على أهل البَقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الغنم ألفيَ شاةٍ . وفي حديث أبي داود أنّ الدية على أهل الحُلل ، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن ، مائة حلّة . والحلّة ثوبان من نوع واحد .
ومعيار تقدير الديات ، باختلاف الأعصار والأقطار ، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السُّنَّة . ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل . ودية الكتابي على النصف من دية المسلم . ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي . وتدفع الدية منجّمة في ثلاث سنين بعد كلّ سنة نجم ، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلةِ القاتل .
والدية بتخفيف الياء مصدر وَدَي ، أي أعطى ، مثل رمَى ، ومصدره وَدْي مثل وعد ، حذفت فاء الكلمة تخفيفاً ، لأنّ الواو ثقيلة ، كما حذفت في عِدّة ، وعوّض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شِيَة من الوشي .
وأشار قوله : { مسلَّمَةٌ إلى أهله } إلى أنّ الدية ترضية لأهل القتيل . وذُكر الأهل مجملاً فعُلم أنّ أحقّ الناس بها أقرب الناس إلى القتيل ، فإنّ الأهل هو القريب ، والأحقّ بها الأقرب . وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلاّ أنّ القاتل خطأ إذا كان وارثاً للقتيل لا يرث من ديته . وهي بمنزلة تعويض المتلفات ، جعلت عوضاً لحياة الذي تسبّب القاتلُ في قتله ، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية ، ولذلك قالوا : تَكايُل الدّماء ، وقالوا : هُما بَوَاء ، أي كفآن في الدم وزادوا في دية سادتهم .
وجَعَل عفوَ أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منهم ترغيباً في العفو .
وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية وبيّنته السنّة بأنّهم العاقلة ، وذلك تقرير لِما كان عليه الأمر قبل الإسلام .
والعاقلة : القَرابة من القبيلة . تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدّم في التعصيب .
وقوله : { فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن } الآية أي إن كان القتيل مؤمناً وكان أهله كفاراً ، بينَهم وبين المسلمين عداوة ، يقتصر في الكفّارة على تحرير الرقبة دون دفع دية لهم ، لأنّ الدية : إذا اعتبرناها جبَراً لأولياء الدم ، فلمّا كانوا أعداء لم تكن حكمة في جبر خواطرهم ، وإذا اعتبرناها عِوضاً عن منافع قتيلهم ، مثل قيم المتلفات ، يَكون منعُها من الكفّار ؛ لأنّه لا يرث الكافر المسلم ، ولأنّا لا نعْطيهم مالَنا يَتقوون به علينا .
وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء ، إن كان القتيل المؤمن باقياً في دار قومه وهم كفّار فأمّا إن كان القتيل في بلاد الإسلام وكان أولياؤه كفّاراً ، فقال ابن عبّاس ، ومالك ، وأبو حنيفة : لا تسقط عن القاتل ديته ، وتُدفع لبيت مال المسلمين . وقال الشافعي ، والأوزاعي ، والثَّوري : تسقط الدية لأنّ سبب سقوطها أنّ مستحقيها كفّار . وظاهر قوله تعالى : { وإن كان من قوم عدوّ } أنّ العبرة بأهل القتيل لا بمكان إقامته ، إذ لا أثر لمكان الإقامة في هذا الحكم ولو كانت إقامته غير معذور فيها .
وأخبر عن { قوم } بلفظ { عدوّ } وهو مفرد ، لأنّ فَعولاً بمعنى فاعل يكثر في كلامهم أن يكون مفرداً مذكَّراً غيرَ مطابق لموصوفه ، كقوله : { إنّ الكافرين كانُوا لكم عدوّاً مبيناً } [ النساء : 101 ] { لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء } [ الممتحنة : 1 ] { وكذلك جعلنا لكلّ نبيء عدوّاً شياطين الأنس } [ الأنعام : 112 ] ، وامرأة عدوّ وشذّ قولهم عَدوّة . وفي كلام عمر بن الخطاب في « صحيح البخاري » أنّه قال للنسوة اللاتي كنّ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا دخل عمر ابتدرن الحجاب لمّا رأينه « يا عدوّات أنفُسِهِنُّ » . ويجمع بكثرة على أعداء ، قال تعالى : { ويوم نحشر أعداء الله إلى النار } [ فصلت : 19 ] .
وقوله : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي إن كان القتيل المؤمن . فجعل للقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق ، أيّ عهدٌ من أهل الكفر ، ديةَ قتيلهم المؤمننِ اعتداداً بالعهد الذي بيننا وهذا يؤذن بأنّ الدية جبر لأولياء القتيل ، وليست مالاً موروثاً عن القاتل ، إذ لا يرث الكافر المسلم ، فلا حاجة إلى تأويل الآية بأن يكون للمقتول المؤمن وارثٌ مؤمنٌ في قوم معاهدَين ، أو يكون المقتول معاهداً لا مؤمناً ، بناء على أنّ الضمير في « كان » عائد على القتيل بدون وصف الإيمان ، وهو تأويل بعيد لأنّ موضوع الآية فيمن قَتل مؤمناً خطأ . ولا يهولنّكم التصريح بالوصف في قوله : { وهو مؤمن } لأنّ ذلك احتراس ودفع للتوهّم عند الخبر عنه بقوله : { من قوم عدوَ لكم } أن يَظُنَ أحد أنّه أيضاً عدوّ لنا في الدّين . وشرط كون القتيل مؤمناً في هذا لحكم مدلول بحَمْل مطلقه هنا على المقيَّد في قوله هنالك { وهو مؤمن } ، ويكون موضوع هذا التفصيل في القتيل المسلم خطأ لتصدير الآية بقوله : { ومن قَتَل مؤمناً خطئاً } ، وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة .
وذهبت طائفة إلى إبقاء المطلق هنا على إطلاقه ، وحملوا معنى الآية على الذمّي والمعاهَد ، يُقتل خطأ فتجب الدية وتحريرُ رقبة ، وهو قول ابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، والشافعي ، ولكنّهم قالوا : إنّ هذا كان حكماً في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين المسلمين صلح إلى أجل ، حتّى يسلموا أو يؤذَنوا بحَرب ، وإنّ هذَا الحكم نسِخ .
وقوله : { فصيام شهرين متتابعين } وصف الشهران بأنّهما متتابعان والمقصود تتابع أيامهما . لأنّ تتابع الأيام يستلزم توالي الشهرين .
وقوله : « توبة من الله » مفعول لأجله على تقدير : شرع الله الصيام توبة منه . والتوبة هنا مصدر تاب بمعنى قبل التوبة بقرينة تعديته ب ( من ) ، لأنّ تاب يطلق على معنى ندم وعلى معنى قبل منه ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إنما التوبة على الله } [ النساء : 17 ] في هذه السورة ، أي خفّف الله عن القاتل فشرع الصيام ليتوب عليه فيما أخطأ فيه لأنّه أخطأ في عظيم . ولك أن تجعل { توبة } مفعولاً لأجله راجعاً إلى تحرير الرقبة والدية وبَدلِهِما ، وهو الصيام ، أي شرع الله الجميع توبة منه على القاتل ، ولو لم يشرع له ذلك لعاقبهُ على أسباب الخطأ ، وهي ترجع إلى تفريط الحذر والأخذ بالحزم . أو هو حال من « صيام » ، أي سببَ توبة ، فهو حال مجازية عقلية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما كان لمؤمن}، يعني عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، يقول: ما كان ينبغي لمؤمن {أن يقتل مؤمنا}، يعني الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة من بني عامر بن لؤي، {إلا خطئا}، وذلك أن الحارث أسلم في موادعة أهل مكة، فقتله عياش خطأ، وكان عياش قد حلف على الحارث بن يزيد ليقتلنه، وكان الحارث يومئذ مشركا، فأسلم الحارث ولم يعلم به عياش فقتله بالمدينة، {ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة}، أي التي قد صلت لله ووحدت الله، {ودية مسلمة إلى أهله}، أي المقتول، {إلا أن يصدقوا}، يقول: إلا أن يصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل، فهو خير لهم، {فإن كان} هذا المقتول {من قوم عدو لكم} من أهل الحرب، {وهو}، يعني المقتول {مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} نزلت في مرداس بن عمر القيسي، ولا دية له، {وإن كان} هذا المقتول وكان ورثته {من قوم بينكم وبينهم ميثاق}، يعني عهد {فدية مسلمة إلى أهله}، أي إلى أهل المقتول، يعني إلى ورثته بمكة، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يومئذ عهد، {و} عليه {وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد} الدية {ف} عليه {فصيام شهرين متتابعين توبة من الله}، تلك الكفارة تجاوز من الله في قتل الخطأ لهذه الأمة، لأن المؤمن كان يقتل بالخطأ في التوراة على عهد موسى، عليه السلام، {وكان الله عليما حكيما}، حكم الكفارة والرقبة...
ابن رشد: قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، عن مالك أنه قيل له: أرأيت قوله تعالى: {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} ليس في هذا ذكر دية فقال: إنما كان ذلك في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة يكون فيهم رجل مؤمن لم يهاجر، وأقام معهم فيصيبه المسلمون خطأ فليس عليهم دية لأنه يقول جل وعز: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}. وأما قوله: {قوم بينكم وبينهم ميثاق} فإنما ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي عليه السلام وبين المشركين، أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهرهم خطأ لم يهاجر، فإن ديته على المسلمين يؤدونها إلى قومه الذين كان بين أظهرهم الكفار، ومما بين ذلك أن أبا جندل ورجلا آخر أتيا النبي عليه السلام في الهدنة مسلمين فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. فكما كان لهم أن يردوه إليهم فكذلك كانت ديته لهم لو قتل خطأ...
قوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله} [النساء: 92].
- ابن العربي: قال مالك: المراد به، وهو مؤمن.
- ابن وهب: قال: وسئل مالك عن الرجل يقتل العبد خطأ، أعليه كفارة؟ قال مالك: أما الذي جاء في القرآن فهو الحر، وذلك أن الله يقول: {فدية مسلمة} [النساء: 92]. قال مالك: فأنا أرى الكفارة في قتل العبد حسنا. قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} [النساء: 92].
- يحيى: سمعت مالكا يقول: أحسن ما سمعت، فيمن وجب عليه، صيام شهرين متتابعين في قتل خطأ، فعرض له مرض يغلبه ويقطع عليه صيامه، أنه، إن صح من مرضه وقوي على الصيام، فليس له أن يؤخر ذلك وهو يبني على ما قد مضى من صيامه. وكذلك المرأة التي يجب عليها الصيام في قتل النفس خطأ. فإذا حاضت بين ظهري صيامها أنها، إذا طهرت، لا تؤخر الصيام، وهي تبني على ما قد صامت. وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله، أن يفطر إلا من علة: مرض، أو حيضة، وليس له أن يسافر فيفطر. قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك.
- يحيى: قال مالك: وأحب إلي أن يكون، ما سمى الله في القرآن، يصام متتابعا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً}: وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنا. يقول: ما كان ذلك له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من الأشياء البتة. {إلاّ خَطأً}: إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، وليس له مما جعل له ربه فأباحه له. وهذا من الاستنثاء الذي تسميه أهل العربية: الاستثناء المنقطع... ثم أخبر جلّ ثناؤه عباده بحكم من قتل من المؤمنين خطأ، فقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يقول: فعليه تحرير رقبة مؤمنة من ماله ودية مسلمة يؤدّيها عاقلته إلى أهله: {إلاّ أَن يَصّدّقُوا}: إلا أن يصدّق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه، فيسقط عنه. وذكر أن هذه الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وكان قد قتل رجلاً مسلما بعد إسلامه وهو لا يعلم بإسلامه. عن مجاهد في قول الله: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً} قال: عياش بن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمنا كان يعذّبه مع أبي جهل، وهو أخوه لأمه، فاتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو... عن عكرمة، قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بني عامر بن لؤيّ يعذّب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل. ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف حتى سكت، وهو يحسب أنه كافر. ثم جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، ونزلت: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلا خَطَأً} فقرأها عليه، ثم قال له: «قُمْ فَحَرّرْ».
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أبي الدرداء. قال ابن زيد في قوله: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً} قال: نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء كانوا في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شِعْبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله، قال: فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم. ثم وجد في نفسه شيئا، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا شَقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ؟» فقال: ما عسيت أجدُ! هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء؟ قال: «فَقَدْ أَخَبَرَكَ بلسَانه فلم تُصَدّقه»، قال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: «فَكَيْفَ بِلا إلَهَ إلاّ اللّهُ؟»قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: «فَكَيْف بِلا إلَهَ إلاّ اللّهُ». حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال: ونزل القرآن: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً}... حتى بلغ: {إلاّ أنْ يَصّدّقُوا} قال: إلا أن يضعوها.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عرّف عباده بهذه الآية ما على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأيّ ذلك كان فالذي عني الله تعالى بالآية تعريف عباده ما ذكرنا، وقد عرف ذلك من عقل عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه.
وأما الرقبة المؤمنة فإن أهل العلم مختلفون في صفتها؛
فقال بعضهم: لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الإيمان بعد بلوغها وصلت وصامت، ولا يستحقّ الطفل هذه الصفة... عن إبراهيم، قال: ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزي إلا من صام وصلى، وما كان في القرآن من رقبة ليست مؤمنة، فالصبيّ يجزئ.
وقال آخرون: إذا كان مولودا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن وإن كان طفلاً. وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: لا يجزئ في قتل الخطأ من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الإيمان من الرجال والنساء إذا كان ممن كان أبواه على ملة من الملل سوى الإسلام وولد يتيما وهو كذلك، ثم لم يسلما ولا واحد منهما حتى أعتق في كفارة الخطأ. وأما من ولد بين أبوين مسلمين فقد أجمع الجميع من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حدّ الاختيار والتمييز ولم يدرك الحلم فمحكوم له بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه إن مات، وما يجب عليه إن جنى، ويجب له إن جُني عليه، وفي المناكحة. فإذا كان ذلك من جمعيهم إجماعا، فواجب أن يكون له من الحكم فيما يجزئ فيه من كفاره الخطأ إن أعتق فيها من حكم أهل الإيمان مثل الذي له من حكم الإيمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها. ومن أبى ذلك عكس عليه الأمر فيه، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في غيره مثله.
وأما الدية المسلّمة إلى أهل القتيل فهي المدفوعة إليهم على ما وجب لهم موفرة غير منتقصة حقوق أهلهم منها. وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول: هي الموفّرة.
{إلاّ أنْ يَصّدّقُوا}: إلا أن يتصدّقوا بالدية على القاتل أو على القتال أو على عاقلته¹ فأدغمت التاء من قوله «يتصدّقوا» في الصاد فصارتا صادا. {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم عدوّ لكم، يعني: من عداد قوم أعداء لكم في الدين مشركين، لم يأمنوكم الحرب على خلافكم على الإسلام، وهو مؤمن {فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ} يقول: فإذا قتل المسلم خطأ رجلاً من عداد المشركين والمقتول مؤمن والقاتل يحسب أنه على كفره، فعليه تحرير رقبة مؤمنة. واختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: وإن كان المقتول من قوم هم عدوّ لكم وهو مؤمن¹ أي بين أظهركم لم يهاجر، فقتله مؤمن، فلا دية عليه وعليه تحرير رقبة مؤمنة... عن ابن عباس أنه قال في قول الله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...} قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون، فيمرّ بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتل فيمن يقتل، فيعتق قائله رقبة ولا دية له.
وقال آخرون: بل عني به الرجل من أهل الحرب يقدم دار الإسلام فيسلم ثم يرجع إلى دار الحرب، فإذا مرّ بهم الجيش من أهل الإسلام هرب قومه، وأقام ذلك المسلم منهم فيها، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا. {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}: وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم أيها المؤمنون وبينهم ميثاق: أي عهد وذمة، وليسوا أهل حرب لكم، {فِدَيةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أَهْلِهِ}: فعلى قاتله دية مسلّمة إلى أهله يتحملها عاقلته، وتحرير رقبة مؤمنة كفارة لقتله.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن أو كافر؟
فقال بعضهم: هو كافر، إلا أنه لزمت قاتله ديته¹ لأن له ولقومه عهدا، فواجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، ولا يحلّ للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طيب أنفسهم.
وقال آخرون: بل هو مؤمن، فعلى قاتله دية يؤدّيها إلى قومه من المشركين، لأنهم أهل ذمة.
وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية قول من قال: عني بذلك المقتول من أهل العهد، لأن الله أبهم ذلك، فقال: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} ولم يقل: «وهو مؤمن» كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب¹ أو عني المؤمن منهم وهو مؤمن. فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصف به القتيلين الماضي ذكرهما قبل، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك.
فإن ظنّ ظانّ أن في قوله تبارك وتعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ} دليلاً على أنه من أهل الإيمان، لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أن دية الذمي وأهل الإسلام سواء، لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيد المؤمنين من أهل الإيمان سواء، فكذلك حكم ديات أحرارهم سواء، مع أن دياتهم لو كانت على ما قال من خالفنا في ذلك، فجعلها على النصف من ديات أهل الإيمان أو على الثلث، لم يكن في ذلك دليل على أن المعنىّ بقوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} من أهل الإيمان، لأن دية المؤمّنة لا خلاف بين الجميع، إلا من لا يعدّ خلافا أنها على النصف من دية المؤمن، وذلك غير مخرجها من أن تكون دية، فكذلك حكم ديات أهل الذمة لو كانت مقصرة عن ديات أهل الإيمان لم يخرجها ذلك من أن تكون ديات، فكيف والأمر في ذلك بخلافه ودياتهم وديات المؤمنين سواء؟.
وأما الميثاق: فإنه العهد والذمة.
فإن قال قائل: وما صفة الخطأ الذي إذا قتل المؤمن المؤمن أو المعاهَد لزمته ديته والكفارة؟ قيل: هو ما قال النّخَعي في ذلك. قال: الخطأ: أن يريد الشيء فيصيب غيره.
فإن قال: فما الدية الواجبة في ذلك؟ قيل: أما في قتل المؤمن فمائة من الإبل إن كان من أهل الإبل على عاقلة قاتله، لا خلاف بين الجميع في ذلك، وإن كان في مبلغ أسنانها اختلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: هي أرباع: خمس وعشرون منها حقه، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون.
وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض.
وقال آخرون: هي أرباع، غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور. والصواب من القول في ذلك أن الجميع مجمعون أن في الخطأ المحض على أهل الإبل مائة من الإبل. ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها، وأجمعوا على أنه لا يقصر بها في الذي وجبت له الأسنان عن أقلّ ما ذكرنا من أسنانها التي حدّها الذين ذكرنا اختلافهم فيها، وأنه لا يجاوز بها الذي وجبت عن أعلاها. وإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا، فالواجب أن يكون مجزيا من لزمته دية قتل خطأ: أي هذه الأسنان التي اختلف المختلفون فيها أداها إلى من وجبت له، لأن الله تعالى لم يحدّ ذلك بحدّ لا يجاوز به ولا يقصر عنه ولا رسوله إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما أجمعوا عليه، فإنه ليس للإمام مجاوزة ذلك في الحكم بتقصير ولا زيادة، وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه للفريقين. وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب فإن لورثة القتيل عليهم عندنا ألف دينار، وعليه علماء الأمصار. وقال بعضهم: ذلك تقويم من عمر رضي الله عنه للإبل على أهل الذهب في عصره، والواجب أن يقوّم في كلّ زمان قيمتها إذا عدم الإبل عاقلة القاتل... وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبا ألف دينار، فقالوا: ذلك فريضة فرضها الله على لسان رسوله، كما فرض الإبل على أهل الإبل. قالوا: وفي إجماع علماء الأمصار في كل عصر وزمان إلا من شذّ عنهم، على أنها لا تزاد على ألف دينار ولا تنقص عنها، أوضح الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب وجوب الإبل على أهل الإبل، لأنها لو كانت قيمة لمائة من الإبل لاختلف ذلك بالزيادة والنقصان لتغير أسعار الإبل. وهذا القول هو الحقّ في ذلك لما ذكرنا من إجماع الحجة عليه.
وأما من الوَرِق على أهل الورِق عندنا، فاثنا عشر ألف درهم، وقد بينا العلل في ذلك في كتابنا «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام».
وقال آخرون: إنما على أهل الورِق من الورِق عشرة آلاف درهم.
وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاق، فإن أهل العلم اختلفوا في مبلغها، فقال بعضهم: ديته ودية الحرّ المسلم سواء. عن الزهريّ: أن أبا بكر وعثمان رضوان الله عليهما كانا يجعلان دية اليهودي والنصراني إذا كانا معاهدين كدية المسلم عن إبراهيم، قال: كان يقال: دية اليهودي والنصراني والمجوسي كدية المسلم إذا كانت له ذمة.
وقال آخرون: بل ديته على النصف من دية المسلم.
وقال آخرون: بل ديته على الثلث من دية المسلم.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَابِعَيْنِ}: فمن لم يجد رقبة مؤمنة يحرّرها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو معاهد لعسرته بثمنها، {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} يقول: فعليه صيام شهرين متتابعين.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
وقال آخرون: صوم الشهرين عن الدية والرقبة قالوا: وتأويل الآية: فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولا دية يسلمها إلى أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين. والصواب من القول في ذلك أن الصوم عن الرقبة دون الدية، لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بإجماع الحجة على ذلك، نقلاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يقضي صوم صائم عما لزم غيره في ماله. والمتابعة صوم الشهرين، ولا يقطعه بإفطار بعض أيامه لغير علة حائلة بينه وبين صومه. {تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما}: تجاوزا من الله لكم إلى التيسير عليه بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين. {وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما}: ولم يزل الله عليما بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه وغير ذلك، حكيما بما يقضي فيهم ويريد.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
المسألة الأولى: في معنى الاستثناء في قوله تعالى: {إلا خطأ}.
هذه الآية على ظاهرها دون تأويل، فليس فيها أن القاتل العامد ليس مؤمنا، وإنما فيها نهي المؤمن عن قتل المؤمن عمدا فقط؛ لأنه تعالى قال: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا}، وهكذا نقول: ليس للمؤمن قتل المؤمن عمدا، ثم قال تعالى: {إلا خطأ}، أي: لكن خطأ، فاستثنى عز وجل الخطأ في القتل من جملة ما حرم من قتل المؤمن للمؤمن؛ لأنه لا يجوز النهي عما لا يمكن الانتهاء عنه، ولا يقدر عليه؛ لأن الله تعالى أمننا من أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به، وكل فعل خطأ فلم ننه عنه، بل قد قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} ).
المسألة الثانية: في بيان الاستثناء في قوله تعالى: {إلا أن يصدقوا}.
لولا بيان الاستثناء أنه مردود إلى الأهل فقط، لسقطت به الرقبة، ولكن لا حق للأهل في الرقبة، ولا صدقة لهم فيها، وقد قال تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} ).
المسألة الثالثة: في عفو المقتول خطأ عن الدية قبل موته.
صح أن الدية فرض أن تسلم إلى أهل القتيل، فإذ ذلك كذلك فحرام على المقتول أن يبطل تسليمها إلا من أمر الله تعالى بتسليمها إليهم، وحرام على كل أحد أن ينفذ حكم المقتول في إبطال تسليم الدية إلى أهله، فهذا بيان لا إشكال فيه.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فصيام شهرين متتابعين توبة من الله} أي ليقبل الله توبة القاتل حيث لم يبحث عن المقتول وحاله وحيث لم يجتهد حتى لا يخطئ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، كقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِي أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89]، {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً} ابتداء غير قصاص {إِلا خَطَئاً} إلا على وجه الخطأ.
فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أي ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. ويجوز أن يكون حالاً بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ. وأن يكون صفة للمصدر إلا قتلاً خطأ. والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً، أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم... والتحرير: الإعتاق. والحر والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه: عتاق الخيل، وعتاق الطير لكرامها. وحرّ الوجه: أكرم موضع منه. وقولهم للئيم عبد. وفلان عبد الفعل: أي لئيم الفعل. والرقبة: عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأساً من الرقيق. والمراد برقبة مؤمنة: كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء. وعن الحسن: لا تجزئ إلا رقبة قد صلت وصامت، ولا تجزئ الصغيرة. وقاس عليها الشافعي كفارة الظهار، فاشترط الإيمان. وقيل: لما أخرج نفساً مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأنّ إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء، يقضي منها الدين، وتنفذ الوصية وإن لم يبق وارثاً فهي لبيت المال، لأن المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا وارث من لا وارث له"... {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} إلا أن يتصدقوا عليه بالدية ومعناه العفو، كقوله: {إَّلا أَن يَعْفُونَ} [البقرة: 237] ونحوه {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة"، وقرأ أبيّ: «إلا أن يتصدقوا».
{مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ} من قوم كفار أهل الحرب وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار وهو بين أظهرهم لم يفارقهم، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على عاقلته لأهله شيء. لأنهم كفار محاربون. وقيل: كان الرجل يسلم؛ ثم يأتي قومه وهم مشركون فيغزوهم جيش المسلمين، فيقتل فيهم خطأ لأنهم يظنونه كافراً مثلهم {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ} كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابيين، فحكمه حكم مسلم من مسلمين {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} رقبة، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليه {ف} عليه {فصِيَامٍ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله} قبولاً من الله ورحمة منه، من تاب الله عليه إذا قبل توبته يعني شرع ذلك توبة منه، أو نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه. هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ.
ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة. وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة. وناهيك بمحو الشرك دليلاً...
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً}:
مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا قَتْلًا جَائِزًا. أَمَّا أَنَّهُ يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَنَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَازَهُ لَا وُجُودَهُ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يُبْعَثُوا لِبَيَانِ الْحِسِّيَّاتِ وُجُودًا وَعَدَمًا، إنَّمَا بُعِثُوا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ هُوَ جَائِزٌ لِلْكَافِرِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَقَدْ أَحْلَلْتُمْ. وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا، فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ بِالْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ، وَالْكَافِرُ فِيهِ مِثْلُهُ.
قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ بِحَنَانِهِمْ وَأُخُوَّتِهِمْ وَشَفَقَتِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ؛ فَلِذَلِكَ خُصَّ الْمُؤْمِنُ بِالتَّأْكِيدِ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنِ الْأَحْكَامِ أَيْضًا حَسْبَمَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بَعْدُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}:
أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ، وَسَكَتَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ عَنْهَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، مَآلُهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا قَالَا: لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا إثْمَ فِيهِ فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى.
قُلْنَا: هَذَا يُبْعِدُهَا عَنِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوجِبْهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا عِبَادَةً، أَوْ فِي مُقَابَلَةِ التَّقْصِيرِ، وَتَرْك الْحَذَرِ وَالتَّوَقِّي، وَالْعَمْدُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: (مُؤْمِنَةٍ):
وَهَذَا يَقْتَضِي كَمَالَهَا فِي صِفَاتِ الدِّينِ، فَتُكْمَلُ فِي صِفَاتِ الْمَالِيَّةِ حَتَّى لَا تَكُونَ مَعِيبَةً، لَاسِيَّمَا وَقَدْ أَتْلَفَ شَخْصًا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَ آخَرَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ عَنْ شُغُلِ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِكُلِّ عُضْوِ مِنْهُ عُضْوٌ مِنْهَا مِنَ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجُ بِالْفَرْجِ، فَمَتَى نَقَصَ عُضْوٌ مِنْهَا لَمْ تَكْمُلُ شُرُوطُهَا. وَهَذَا بَدِيعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}:
أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إلَّا أَنْ يَصَدَّقُوا بِهَا عَلَى الْقَاتِلِ؛ وَالِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى جَمِيعِهَا إذَا صَلَحَ ذَلِكَ فِيهَا، وَإِلَّا عَادَ إلَى مَا يُصْلَحُ لَهُ ذَلِكَ مِنْهَا.
وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ، وَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُقْبَلُ الصَّدَقَةُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُهُ.
اعلم أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار، وحرض عليها ذكر بعد ذلك بعض ما يتعلق بهذه المحاربة، فمنها أنه تعالى لما أذن في قتل الكفار فلا شك أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله، ثم يتبين أنه كان مسلما، فذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة في هذه الآية، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب النزول وجوها: الأول: روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار، فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول: إنه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ازداد وقع حذيفة عنده، فنزلت هذه الآية:
المسألة الثانية: قوله تعالى: {وما كان} فيه وجهان: الأول: أي وما كان فيما أتاه من ربه وعهد إليه. الثاني: ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين أقسامهم بياناً ظهر منه أن أحوالهم ملبسة، وأمر بقتالهم مع الاجتهاد في تعرف أحوالهم، وختم بالتسلط عليهم، وكان ربما قتل من لا يستحق القتل بسبب الإلباس؛ أتبع ذلك بقوله المراد به التحريم، مخرجاً له في صورة النفي المؤكد بالكون لتغليظ الزجر عنه لما للنفوس عند الحظوظ من الدواعي إلى القتل:
{وما كان لمؤمن} أي يحرم عليه {أن يقتل مؤمناً} أي في حال من الحالات {إلا خطأ} أي في حالة الخطأ بأن لا يقصد القتل، أو لا يقصد الشخص، أو يقصده بما لا يقصد به زهوق الروح، أو لا يقصد ما هو ممنوع منه كمن يرمي إلى صف الكفار وفيهم مسلم، أو بأن يكون غير مكلف، فإن القتل على هذا الوجه ليس بحرام، وهذا الذي ذكره في أقسام المنافقين إشارة إلى أنه ينبغي التثبت والتحري في جميع أمر القتل متى احتمل أن يكون القاتل مؤمناً احتمالاً لا تقضي العادة بقربه، فلزم من ذلك بيان حكم الخطأ، ولام الاختصاص قد تطلق على ما لا مانع منه "فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب "وكأنه عبر به ليفيد بإيجاب الكفارة والدية غاية الزجر عن قتل المؤمن، لأنه إذا كان هذا جزاء ما هو له فما الظن بما ليس له! فقال تعالى:
{ومن قتل مؤمناً} صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، ولعله عبَّر سبحانه وتعالى بالوصف تنبيهاً على أنه إن لم يكن كذلك في نفس الأمر لم يكن عليه شيء في نفس الأمر وإن ألزم به في الظاهر.
{خطأ}؛ ولما كان الخطأ مرفوعاً عن هذه الأمة، فكان لذلك يظن أنه لا شيء على المخطئ؛ بين أن الأمر في القتل ليس كذلك حفظاً للنفوس، لأن الأمر فيها خطر جداً، فقال -مغلظاً عليه حثاً على زيادة النظر والتحري عند فعل ما قد يقتل -: {فتحرير}: أي فالواجب عليه تحرير {رقبة} أي نفس، عبر بها عنها لأنها لا تعيش بدونها كاملة الرق {مؤمنة} ولو ببيع الدار أو البساتين، سليمة عما يخل بالعمل، وقدم التحرير هنا حثاً على رتق ما خرق من حجاب العبد، وإيجاب ذلك في الخطأ إيجاب له في العمد بطريق الأولى، وكأنه لم يذكره في العمد لأنه تخفيف في الجملة والسياق للتغليظ
{ودية مسلّمة} أي مؤداة بيسر وسهولة {إلى أهله} أي ورثته يقتسمونها كما يقسم الميراث {إلا أن يصدّقوا} أي يجب ذلك عليه في كل حال إلا في حال تصدقهم بالعفو عن القاتل بإبرائه من الدية، فلا شيء عليه حينئذ، وعبر بالصدقة ترغيباً {فإن كان} أي المقتول {من قوم} أي فيهم منعة {عدو لكم} أي محاربين {وهو} أي والحال أنه {مؤمن فتحرير} أي فالواجب على القاتل تحرير {رقبة مؤمنة} وكأنه عبر بذلك إشارة إلى التحري في جودة إسلامها، وقد أسقط هذا حرمة نفسه بغير الكفارة بسكناه في دار الحرب التي هي دار الإباحة أو وقوعه في صفهم، ولعده في عدادهم قال:
{من} ومعناه- كما قال الشافعي وغيره تبعاً لابن عباس رضي الله تعالى عنهما -: في {وإن كان} أي المقتول {من قوم} أي كفرة أيضاً عدو لكم {بينكم وبينهم ميثاق} وهو كافر مثلهم {فدية} أي فالواجب فيه كالواجب في المؤمن المذكور قبله دية {مسلّمة إلى أهله} على حسب دينه، إن كان كتابياً فثلث دية المسلم، وإن كان مجوسياً فثلثا عشرها {وتحرير رقبة مؤمنة} وكأنه قدم الدية هنا إشارة إلى المبادرة بها حفظاً للعهد، ولتأكيد أمر التحرير بكونه ختاماً كما كان افتتاحاً حثاً على الوفاء به، لأنه أمانة لا طالب له إلا الله؛ وقال الأصبهاني: إن سر ذلك أن إيجابه في المؤمن أولى من الدية، وبالعكس ها هنا -انتهى.
وكان سره النظر إلى خير الدين في المؤمن، وإلى حفظ العهد في الكافر {فمن لم يجد} أي الرقبة ولا ما يتوصل به إليها {فصيام} أي فالواجب عليه صيام {شهرين متتابعين} حتى لو أفطر يوماً واحداً بغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف، وعلل ذلك بقوله عادا للخطأ- بعد التعبير عنه باللام المقتضية أنه مباح -ذنباً تغليظاً للحث على مزيد الاحتياط: {توبة} أي أوجب ذلك عليكم لأجل قبول التوبة {من الله} أي الملك الأعظم الذي كل شيء في قبضته.
ولما كان الكفارات من المشقة على النفس بمكان، رغب فيها سبحانه وتعالى بختم الآية بقوله: {وكان الله} أي المحيط بصفات الكمال {عليماً} أي بما يصلحكم في الدنيا والآخرة، وبما يقع خطأ في نفس الأمر أو عمداً، فلا يغتر أحد بنصب الأحكام بحسب الظاهر {حكيماً} في نصبه الزواجر بالكفارات وغيرها، فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما بين الله تعالى أحكام قتل المنافقين الذين يظهرون الإسلام مخادعة ويسرون الكفر ويعينون أهله على قتال المؤمنين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر، ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم، ناسب أن يذكر أحكام قتل من لا يحل قتله من مؤمن ومعاهد وذمي وما يقع من ذلك خطأ فقال {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا}: بينا في غير موضع أن هذا الضرب من النفي نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل أي ما كان من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن ولا من خلقه وعمله أن يقتل أحدا من أهل الإيمان وهو صاحب السلطان على نفسه والحاكم على إرادته المصرفة لعمله هو الذي يمنعه من هذا القتل أن يجترحه عمدا، ولكنه قد يقع منه ذلك خطأ فقوله تعالى: {إلا خطأ} منقطع معناه ما ذكرنا من الاستدراك. وقيل هو متصل معناه: ما ثبت ولا وجد قتل المؤمن للمؤمن إلا خطأ، وهو نفي بمعنى النهي للمبالغة.
{ومن قتل مؤمنا خطأ} بأن ظنه كافرا محاربا والكافر الحربي -غير المعاهد والمستأمن والذمي- من إذا لم تقتله قتلك إذا قدر على قتلك، أو أراد رمي صيد أو غرض فأصاب المؤمن، أو ضربه بما لا يقتل عادة كالصفع باليد أو الضرب بالعصا فمات، وهو لم يكن يقصد قتله.
{فتحرير رقبة مؤمنة} أي فعليه من الكفارة على عدم تثبته تحرير رقبة مؤمنة أي عتق رقبة نسمة من أهل الإيمان من الرق، لأنه لما أعدم نفسا من المؤمنين كان كفارته أن يوجد نفسا، والعتق كالإيجاد، كما أن الرق كالعدم. عبر بالرقبة عن الذات لأن الرقيق يحني رقبته دائما لمولاه، كلما أمره ونهاه، أو يكون مسخرا له كالثور الذي يوضع النير على رقبته لأجل الحرث، ولهذا قال جمهور العلماء لا يجزئ عتق الأشلّ ولا المقعد لأنهما لا يكونان مسخرين ذلك التسخير الشديد في الخدمة الذي يحب الشارع إبطاله وتكريم البشر بتركه، ومثلهما الأعمى والمجنون الذي قلما يصلح للخدمة وقلما يشعر بذل الرق، وروي عن مالك أنه لا يجزئ عتق الأعرج الشديد العرج والأكثرون على أنه يجزئ كالأعور، وتفصيل هذه الأحكام في كتب الفقه. والحر والعتيق في أصل اللغة كريم الطباع، ويقولون الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد، وإنما يكونون لؤماء لأنهم يساسون بالظلم، ويسامون الذل، والتحرير جعل العبد حرا.
واختلفوا في تحديد معنى المؤمنة هنا فروي عن ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم من مفسري السلف وفقهائهم أنها التي صلت وعقلت الإيمان ويظهر هذا في الكافر الذي يسلم دون من نشأ في الإسلام. وقال آخرون من فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي أن كل من يصلى عليه إذا مات يجوز عتقه في الكفارة، وهذا هو التعريف المناسب لزمنهم الذي كثر فيه الأرقاء الناشئون في الإسلام...
ثم قال {ودية مسلمة إلى أهله} أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية يدفعها إلى أهل المقتول. فالكفارة حق الله، والدية ما يعطى إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه أو عن حقهم فيه. وهي مصدر ودي القتيل يديه وديا ودية (كعدة وزنة من الوعد والوزن) ويعرفها الفقهاء بأنها المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو فيما دونها. وقد أطلق الكتاب الدية وذكرها نكرة فظاهر ذلك أنه يجزئ منها ما يرضي أهل المقتول وهم ورثته قلّ أو كثر، ولكن السنة بينت ذلك وحددته على الوجه الذي كان معروفا مقبولا عند العرب. وأجمع الفقهاء على أن دية الحر المسلم الذكر المعصوم (أي المعصوم دمه بعدم ما يوجب إهداره) مئة بعير مختلفة في السن، وتفصيلها في كتب الفقه. وقالوا يجوز العدول عن الإبل إلى قيمتها والعدول عن أنواعها في السن بالتراضي بين الدافع والمستحق. وإذا فقدت وجبت قيمتها. ودية المرأة ومثلها الخنثى نصف دية الرجل. والأصل في ذلك أن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أكبر من المنفعة التي تفوت بفقد الأنثى فقدرت بحسب الإرث. وظاهر الآية أنه لا فرق بين الذكر والأنثى.
وفي حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه (أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مئة من الإبل) إلى أن قال بعد ذكر قود الأعضاء (وعلى أهل الذهب ألف دينار) وهذا يدل على أن دية الإبل على أهلها التي هي رأس مالهم، وأن على أهل الذهب الدية من الذهب، وظاهر الحديث أن الدية على الذين يتعاملون بالنقد كأهل المدن تكون من الذهب والفضة وأن هذا أصل لا قيمة للإبل. وسيأتي مزيد لبحث الدية في دية الكافر. والحديث روي مرسلا عند أبي داود والنسائي وموصولا عند غيرهما واختلف فيه وعمل به الجماهير. والاعتباط القتل بغير سبب شرعي من اعتبط الناقة إذا ذبحها لغير علة. والقود (بالتحريك) القصاص أي يقتل به إلا إذا عفا عنه أولياء المقتول.
وقوله تعالى: {إلا أن يصدقوا} معناه أن الدية تجب على قاتل الخطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم فلا تجب حينئذ لأنها إنما فرضت لهم تطييبا لقلوبهم وتعويضا عما فاتهم من المنفعة بقتل صاحبهم وإرضاء لأنفسهم عن القاتل حتى لا تقع العداوة والبغضاء بينهم، فإذا طابت نفوسهم بالعفو عنها حصل المقصود، وانتفى المحذور، لأنهم يرون أنفسهم بذلك أصحاب فضل ويرى القاتل لهم ذلك، وهذا النوع من الفضل والمنة لا يثقل على النفس حمله كما يثقل عليها حمل منة الصدقة بالمال، وقد عبر عنه بالتصدق للترغيب فيه.
{فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن} أي فإن كان المقتول من أعدائكم والحال أنه هو مؤمن، ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه إذا قتل {فتحرير رقبة مؤمنة} أي فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على عداوتهم وقتالهم، وقيل أن ديته واجبة لبيت المال، ولو صح هذا لما سكت عنه الكتاب في معرض البيان.
{وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} وهم المعاهدون لكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما عليه الدول في هذا العصر كلهم معاهدون قد أعطى كل منهم للآخرين ميثاقا على ذلك وهو ما يعبر عنه بالمعاهدات وحقوق الدول، ومثلهم أهل الذمة بعموم الميثاق أو بقياس الأولى {فدية مسلّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} أي فالواجب في قتل المعاهد والذمي هو كالواجب في قتل المؤمن: دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى الذي حرم قتل الذميين والمعاهدين، كما حرم قتل المؤمنين، وقد نكر الدية هنا كما نكرها هناك وظاهره أنه يجزئ كل ما يحصل به التراضي وإن للعرف العام والخاص حكمه في ذلك ولا سيما إذا ذكر في عقد الميثاق أن من قتل تكون ديته كذا وكذا فإن هذا النص أجدر بالتراضي وأقطع لعرق النزاع. وسيأتي ما ورد من الروايات المرفوعة والآثار في ذلك.
وقد قدم هنا ذكر الدية وأخر ذكر الكفارة وعكس في قتل المؤمن، ولعل النكتة في ذلك الإشعار بأن حق الله تعالى في معاملة المؤمنين مقدم على حقوق الناس ولذلك استثنى هنالك في أمر الدية فقال {إلا أن يصدقوا} لأن من شأن المؤمن العفو والسماح، والله يرغبهم فيما يليق بكرامتهم ومكارم أخلاقهم، ولم يستثن هنا لأن من شأن المعاهدين المشاحة والتشديد في حقوقهم، وليسوا مذعنين لهداية الإسلام فيرغبهم كتابه في الفضائل والمكارم، وثم نكتة أخرى وهو أن في سماح المعاهد للمؤمن بالدية منة عليه والكتاب العزيز الذي وصف المؤمنين بالعزة لا يفتح لهم باب هذه المنة. ومن محاسن نظم الكلام وتأليفه أن يؤخر المعطوف الذي له متعلق على ما ليس له متعلق وما متعلقاته أكثر على ما متعلقاته أقل وهذه نكتة لفظية لتأخير ذكر الدية في حق المؤمن إذا تعلق بها الوصف وهو قوله {مسلّمة إلى أهله} والاستثناء وهو قوله {إلا أن يصّدّقوا}.
ثم إنه لم يقل هنا في الدية {مسلّمة إلى أهله} ويدل ذلك على أن القاتل لا يكلف أن يوصل الدية إلى أهل المقتول البتة وهم في غير حكم المسلمين إذ ربما يتعذر أو يتعسر عليه ذلك، ولأنها حق لهم فعليهم أن يحضروا لطلبه وأخذه، وقد يكون من شروط العهد أن تعطى إلى رؤساء قوم المقتول وحكامهم الذين يتولون عقد العهود والمواثيق أو إلى من ينيبونه عنهم في دار الإسلام، فوسع الله في ذلك. هذا ما ظاهر لي في هذه الإطلاقات والقيود ونكتها ولم أر من بينها.
هذا هو الذي تعطيه الآية في دية غير المسلم إذا لم يكن محاربا وناهيك به عدلا. وقد اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين لاختلاف الرواية وعمل الصدر الأول فيه، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عقل الكافر نصف دية المسلم) رواه أحمد والترمذي وحسنه. وفي لفظ "قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين "رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه مقال معروف والجمهور على قوله. والمراد بالعقل الدية لأن الأصل فيها عند العرب الإبل تعقل في فناء دار أهل المقتول. ولفظ الكافر في الحديث عام يشمل الكتابي وغيره ورواية أهل الكتابين لا تصلح لتخصيصه ولا لتقييده فإنها صادقة في نفسها ومفهوم اللقب ليس بحجة. وفي رواية أخرى للحديث (كانت قيمة الدية على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثمان مئة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم. قال وكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت. قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق (الفضة) اثني عشر ألفا (أي من الدراهم) وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألف شاة وعلى أهل الحلل مئتي حلة. قال وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. رواه أبو داود.
وروى الشافعي والدارقطني والبيهقي وابن حزم عن سعيد بن المسيب قال كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف والمجوسي ثمان مئة. وفي إسناده ابن لهيعة ضعيف. والمراد أربعة آلاف درهم وثمان مئة درهم. والأربعة الآلاف هي نصف دية المسلم على ما كان عليه العمل في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) وثلثها بحسب تعديل عمر ولذلك قال الشافعية إن دية الذمي ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم. واحتجوا بأثر عمر وهو ضعيف ومعارض للحديث المرفوع. ولو صح لما وجدنا له مخرجا إلا فهم عمر وغيره من الصحابة أن ما كان على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن حتما، وأنهم علموا منه أن الأمر في الدية اجتهادي ومداره على التراضي كما أشرنا إلى ذلك في بيان ظاهر عبارة الآية.
وذهب الزهري والثوري وزيد بن عليّ وأبو حنيفة إلى أن دية الذمي كدية المسلم. وروي عن أحمد أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف ديته. واحتج القائلون بالمساواة بظاهر إطلاق الآية في أهل الميثاق وهم المعاهدون وأهل الذمة ونوزعوا في هذا الاحتجاج. وبما رواه الترمذي عن ابن عباس وقال غريب أن النبي (صلى الله عليه وسلم) ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكان لهما عهد من النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يشعر به عمرو بدية المسلمين. وثم روايات أخرى عنه في ذلك وبما أخرجه البيهقي عن الزهري أن دية اليهودي والنصراني كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل دية المسلم وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان فلما كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف في بيت المال. ثم قضى عمر بن العزيز بالنصف وألغى ما كان جعل معاوية. وأجيب بأن حديث ابن عباس في إسناده أبو سعيد البقال وهو سعيد المرزبان ولا يحتج بحديثه، وحديث الزهري مرسل ومراسيله لا يحتج بها لأنه لسعة حفظه لا يرسله إلا لعلة. على أن هذا في المعاهد وحق الذمي أقوى من حق المعاهد لخضوعه لأحكامنا.
وجملة القول إن الروايات القولية والعملية مختلفة متعارضة ولذلك اختلف فيها الفقهاء وظاهر الآية أن أمر الدية منوط بالعرف وبالتراضي والأقرب أن اختلاف السلف في العمل كان لأجل هذا.
هذا وإن ظاهر الآية أن الدية على القاتل ولكن بينت السنة أن العاقلة هم الذين يدفعون الدية عنه سواء كانت إبلا أو نقدا، وهم عصبته وعشيرته الأقربون (وتسمى العاقلة الآن العائلة بالهمزة وهو من تحريف العامة) وإنما جعلت السنة الدية على العاقلة لا على القاتل لأن الخطأ قد يتكرر فيذهب بمال الرجل كله ولأجل تقرير التضامن بين الأقربين وإذا عجزت العاقلة من عصبة النسب ثم السبب عن دفعها جعلت في بيت المال، والله أعلم.
{فمن لم يجد} الرقبة التي يعتقها كأن انقطع الرقيق كما هو مقصد الإسلام، وهذه العبارة تشعر بهذا المقصد أو لم يجد المال الذي يشتريها به من مالكها ليحررها من رقه وحذف المفعول يدل على الأمرين معا {فصيام شهرين متتابعين} أي فعليه صيام شهرين قمريين متتابعين لا يفصل بين يومين من أيامهما إفطار في النهار فإن أفطر يوما بغير عذر شرعي استأنف وكان ما صامه قبله كأن لم يكن. ولم يفرض على من لا يستطيع الصيام إطعام ستين مسكينا كما فرضه في كفارة الظهار. وبعض الفقهاء يقيس هذه الكفارة على تلك ومنهم من لا يقيس كالشافعي وهو الظاهر، وما يدرينا أن هذا فرض قبل ذاك فلم يخطر في بال أحد ممن نزل في عهدهم أن للصيام بدلا على من عجز عنه وهو إطعام مسكين عن كل يوم.
{توبة من الله} أي شرع الله لكم ما ذكر توبة منه عليكم فهو يريد به أن يتوب عليكم لتتوبوا وتطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضي إلى قتل الخطأ {وكان الله عليما حكيما} أي عليما بأحوال نفوسكم وما يصلحها من التأديب حكيما فيما يشرعه لكم من الأحكام، ويهديكم إليه من الآداب، فإذا أطعتموه فيه صلحت نفوسكم وتزكت وصارت أهلا لسعادة الدنيا والآخرة.
بعد هذا أذكر ما عندي في الآية عن الأستاذ الإمام وهو بيان لروح الهداية فيها لا لأحكامها ومدلول ألفاظها فإنه استغنى عن هذا بشرح ما قاله الجلال فيه. قال رحمه الله تعالى ما مثاله:
هذه الآية جاءت بعد أن ورد ما ورد في المذبذبين الذين أذن الله بقتلهم إلا من استثنى للتناسب وتتميم أحكام القتل فذكر هنا أن من شأن المؤمن أن لا يقتل مؤمنا لأن الإيمان مانع ذلك وبيانه من وجهين أحدهما: أن المؤمن إنما يصح إيمانه ويكمل إذا كان يشعر بحقوق الإيمان عليه وهي حقوق لله وحقوق للعباد، ومن حدود حقوق المؤمنين أن في القصاص حياة لما فيه من الزجر عن القتل، فالمؤمن الصادق يشعر بهذا الحق وهذه الحياة وإنه إذا أخل بحقوق الدماء فقد استهزأ بحياة الأمة ومن استهزأ بحياة الأمة ولم يحترم أكبر حقوقها ولم يبال بما يقع فيه المؤمنون من الخطر فأمره معلوم فإنه باعتدائه على مؤمن قد هدم ركنا من أركان قوة الإيمان وحزبه وذلك آية عدم المبالاة بقوة الإيمان وقوامه، والمؤمن غيور على الإيمان فلا يصدر منه ذلك أي ليس من شأنه أن يصدر عنه. أقول: ويؤيد ما قاله الأستاذ قوله تعالى: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة:35].
ثم ذكر سبب العقوبة على الخطأ في الأمور العظيمة كأمر القتل، وهو أن الخطأ فيه لا يخلو من التهاون وعدم العناية بالاحتياط، ومثل الخطأ في هذا الأمر النسيان، ولولا أن من شأنهما أن يعاقب الله عليهما لما أمرنا تعالى بالدعاء بأن لا يؤاخذنا عليهما بقوله في آخر سورة البقرة {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] ولم يخبرنا أنه رفع عنا المؤاخذة عليهما في الدنيا والآخرة. وقد ثبت بنص القرآن أن آدم نسي ومع ذلك سميت مخالفته معصية وعوقب عليها. ولكن ورد في الحديث (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وهو معقول ولا ينافي ما قلناه، فإن عقاب قتل الخطأ ليس هو عقاب قتل العمد وهو {النفس بالنفس} [المائدة:45] وأما في الآخرة فلا يؤاخذنا بما نفعله مخالفا لأمره إذا نسينا أو أخطانا فيرجى أن يستجيب الله دعاءنا.
أقول والحديث الذي ذكره ورد هكذا في كتب الفقه والأصول ولا يعرف بهذا اللفظ في كتب الحديث وقد رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم بلفظ (وضع الله عن هذه الأمة ثلاثا الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه) وقد وثقوا رواته وصححه ابن حبان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ).. فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي.. وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع.. فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة. كبيرة جدا. ونعمة عظيمة. عظيمة جدا. ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه؛ والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد.. فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث، التي يبين السياق أحكامها هنا: الحالة الأولى: أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام. ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله.. فأما تحرير الرقبة المؤمنة، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة. وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام. وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس، وشراء لخواطر المفجوعين، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول.. ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو -إذا اطمأنت نفوسهم إليه -لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم. ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله- إلا أن يصدقوا..
والحالة الثانية: أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب.. وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت، وفقدها الإسلام. ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين، يستعينون بها على قتال المسلمين! ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم، فهم محاربون، وهم عدو للمسلمين. والحالة الثانية: أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون -عهد هدنة أو عهد ذمة- ولم ينص على كون المقتول مؤمنا في هذه الحالة. مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه. ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله -المعاهدين- ولو لم يكن مؤمنا. لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين. ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن. (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ).. ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنا. وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال: إن كان من قوم عدو لكم -وهو مؤمن فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو. ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة. مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضا عنه. وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقا دون شرط الإيمان ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقالُ الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض: من وجوب كفّ عُدوان بعضهم على بعض. والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقَل إليه: أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل المؤمنين الخلّص وقد روي أنّه حدث حادثُ قتلِ مُؤمن خطأ بالمدينة ناشئ عن حزازات أيّام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظنّ المَقتول كافراً. وحادثُ قتل مؤمن عمداً ممّن كان يظهر الإيمان، والحادث المشار إليه بقوله: {يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا} [النساء: 94] وأنّ هذه الآيات نزلت في ذلك، فتزداد المناسبة وضوحاً لأنّ هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل...
هَوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم، وجعله في حَيّز ما لا يكون، فقال: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً} فجاء بصيغة المبالغة في النفي، وهي صيغة الجحود، أي ما وُجد لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلاّ في حال الخطأ،... وقوله: {فتحرير رقبة}... ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة،... ثم داوَى تلك الجراحَ البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة: منها واجبة، ومنها مندوب إليها. ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا... ومعيار تقدير الديات، باختلاف الأعصار والأقطار، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السُّنَّة...
وأشار قوله: {مسلَّمَةٌ إلى أهله} إلى أنّ الدية ترضية لأهل القتيل. وذُكر الأهل مجملاً فعُلم أنّ أحقّ الناس بها أقرب الناس إلى القتيل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{مسلمة إلى أهله}؛ فإن هذا التعبير يومئ إلى وجوب حسن الأداء، بألا يكلفوا أسرة المقتول شطط التقاضي والمطالبة، فيجمعوا عليها ألم الفقد، ومضاضة الشكوى والتظلم... الحكمة في هذه العقوبة: لماذا كانت العقوبة أولا؟ ولماذا كانت بهذا الشكل؟! أما عن شرعية العقوبة، فحكمتها واضحة وهي تربية الناس على الاحتراز وصيان الأنفس، وحسبك مثلا في عصرنا أننا نرى استهانة سائقي السيارات بالأنفس لنقص العقوبة على جريمة القتل الخطأ، فكان التقصير في تحرزهم واضحا، ولأن من المقررات الشرعية ألا يذهب دم في الأرض الإسلامية هدرا... {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة}... وهنا إشارة بيانية تؤكد حرص الشرع على دفع الدية لأهل المقتول ولو كانوا غير مسلمين، وهي تقديم الدية على الكفارة... وقد ذيل الله تعالى النص الكريم بذكر اتصافه بأنه عليم بكل شيء، عليم بالنفوس وحركاتها ومداها، وعليم بما يقع من الأعمال، ويجول في النفوس والخواطر، وهو المدبر لكل شيء بحكمته، والذي يشرع الأحكام على مقتضى المصلحة الإنسانية العالية...
جاء هذا القول بعد أن تكلم سبحانه عن القتال لتثبيت أمر الدعوة، ولما كان القتال يتطلب قتل نفس مؤمنة نفسا كافرة، ناسب ذلك أن يتكلم الحق سبحانه عن القتل...
فلا يظنن ظان أن القاتل الذي أراد أن ينقض بنية شخص يملك أن ينهي حياته، ولكنه يصادف انقضاء الحياة، فالذي ينهي الحياة هو الحق سبحانه وتعالى. ولذلك قلنا: إن الجزاء إنما وقع على القاتل لا لأنه أمات القتيل ولكن لأن القاتل تعجل في أمر استأثر الله وحده به،... فالحق سبحانه وتعالى هو الذي استخلف الإنسان في الكون... إذن فالاستخلاف في الأرض لإعمارها يتطلب حياة واستبقاء حياة للخليفة. ومادام استبقاء الحياة أمرا ضروريا فلا تأتي ايها الخليفة لخليفة آخر مثلك لتنهي حياته فتعطل إحياءه للأرض واستعماره لها... يقول التشريع في هذه المسألة: إن القاتل بدون قصد قد أزهق حياة إنسان، وحياة هذا الإنسان لها ارتباطات شتى في بيئته الإيمانية العامة، وله ارتباطات ببيئته الأهلية الخاصة كعائلته، العائلة له أو العائل لها أو الأسرة أو الأقرب من الأسرة وهو الأصل والفرع، فكم دائرة إذن؟ دائرة إيمانية عامة، ودائرة الأهل في عمومها الواسع، ودائرة الاسرة ودائرة خصوصية الأسرة في الأصل والفرع. وحين تنهي حياة إنسان في البيئة الإيمانية العامة فسوف تتأثر هذه البيئة بنقصان واحد مؤمن خاضع لمنهج الله ومفيد في حركته؛ لأن الدائرة الإيمانية فيها نفع عام. لكن الدائرة الأهلية يكون فيها نفع خاص قليلا والدائرة الأسرية نجد أن نفعه فيها كان خاصا بشكل ما، وفي الأصل والفرع نجده نفعا مهما وخاصا جدا. إذن فهذا القتل يشمل تفزيعا لبيئة عامة ولبيئة أسرة ولبيئة أصل وفرع...
وعندما يفاجأ الناس بواحد يقتل عن طريق الخطأ فالفاعل معذور. ولكن عذره لم يمنع أن تعدى فعله وأن الآخر قد قتل؟. فالأثر قد حصل، وتحدث الهزة للأقرب له في الانتفاع، ولأن القتل خطأ فلن يتم القصاص من القاتل، ولكن عليه أن يدفع دية، وهذه الدية توزع على الناس الذين تأثروا بفقدان حياته؛ لأن هناك قاعدة تقول:"بسط النفع وقبض الضر". إنك ساعة ترى شيئا سينفعك فإن النفس تنبسط، وعندما ترى شيئا سيضرك فان النفس تنقبض. وعندما يأتي للإنسان خبر موت عزيز عليه فإن نفسه تنقبض، وساعة يأتيه من بعد ذلك خير وهو حصوله على جزء من دية القتيل فالنفس تنبسط، وبذلك يتم علاج الأثر الحادث عن القتل الخطأ. والدية بحكم الشرع تأتي من العاقلة، وبشرط ألا تؤخذ من الأصول والفروع، فلا تجتمع عليهم مصيبة فقد إنسان على يد أحد من أصولهم أو فروعهم وهم بذلك يفزعون فلا يجمع عليهم هذا الأمر مع المشاركة في الدية. كأن التشريع أراد أن يعالج الهزة التي صنعها انحراف بعلاج هو وقاية من رد الفعل فيحقق التوازن في المجتمع. فمن يقتل خطأ لا يقتص منه المجتمع ولكن هناك الدية. ومن أجل إشاعة المسؤولية فالقاتل لا يدفعها، ولكن تدفعها العاقلة؛ لأن العاقلة إذا ما عملت أن من يجني من أهلها جناية وأنها ستتحمل معه فإنها تعلم أفرادها فن صيانة حقوق غيرهم؛ لأن كل واحد منها سيدفع، وبذلك يحدث التوازن في المجتمع...
{فتحرير رقبة مؤمنة} وهنا قد نسأل: وماذا يستفيد أهل المجنى عليه بالقتل من تحرير رقبة مؤمنة؟. هل يعود ذلك على أهل القتيل ببسط في النفعية؟. قد لا تفيدهم في شيء، لكنها تفيد المجتمع؛ لأن مملوك الرقبة وهو العبد أو الأمة هو مملوك لسيده، والسيد يملك حركة العبد، ولكن عندما يكون العبد حرا فهو حر الحركة؛ فحركة العبد مع السيد محدودة، وفي حريته حركة مفيدة للمجتمع...
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربب إشاعة المودة والصفاء والنفعية. فإذا ما حزن واحد لفقدان إنسان بالقتل الخطأ قد يأخذ الدية فينتفع، وإن لم يأخذها فهو ينتفع أكثر؛ لذلك يقول الحق: {ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا}...
{توبة من الله}... وتشريع التوبة هو تضييق شديد لنوازع الشر، فلو لم يشرع الله التوبة لكان كل من ارتكب ذنبا يعيث في الأرض بالفساد. فحين شرع الله التوبة عصم المجتمع من الأشرار. فلأنه شرع التوبة، فهو سبحانه يتوب... ومادام الله قد شرع التوبة فالمذنب يتوب... وساعة شرع الله التوبة ويتوب المذنب فالله يقبل التوبة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لقد أعطى الإسلام للإنسان أهمية كبيرة في مفاهيمه وتشريعاته، فاعتبر الحياة الإنسانية قيمة عظيمة في وعي الإنسان المسلم ووجدانه، مما ولّد في داخله شعوراً باحترامها على مستوى وجوب الاحتياط في حفظها وسلامتها، لكونها ملكاً لله الذي لا يبيح لأحد التصرف فيها بالقتل إلا بإذن الله،... وعلى هذا الأساس تكون المعادلة الإسلامية التشريعية أن الإنسان كلما ازداد إيماناً، كلما ازداد بُعداً عن الاعتداء على أرواح الناس واحتراماً لحياتهم؛ مما يجعل من الإيمان عنصر ضمانٍ للحياة العامة، كما هو عنصر ضمان للحياة الخاصة...