ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه الإله المعبود وأن عبادته هي الحق وعبادة [ ما ] سواه هي الباطل فقال : { 60 } { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }
أي : أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والملائكة والأرض وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك .
ومن ثم يعدل عنه إلى سؤال آخر ، مستمد من واقع هذا الكون حولهم ، ومن مشاهده التي يرونها بأعينهم :
( أم من خلق السماوات والأرض ، وأنزل لكم من السماء ماء ، فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ? أإله مع الله ? بل هم قوم يعدلون ) . .
والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها ، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها . . وهي أصنام أو أوثان ، أو ملائكة وشياطين ، أو شمس أو قمر . . فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء . ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه ، مخلوق بذاته ، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة ! فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض ، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها ، كفيلا بإلزام الحجة ، ودحض الشرك ، وإفحام المشركين . وما يزال هذا السؤال قائما فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد ، ويتضح فيه التدبير ، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة ، ملجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد ، الذي تتضح وحدانيته بآثاره . ناطق بأن هناك تصميما واحدا متناسقا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه . فلا بد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة . إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير .
( أم من خلق السماوات والأرض ) . . ( وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ? ) . .
والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر ، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر ، بهذا القدر ، الذي توجد به الحياة ، على النحو الذي وجدت به ، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة ، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق ، وبهذا التقدير المضبوط . المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان . هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله : ( وأنزل لكم . . . )والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم ، منظورا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم . يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية القائمة حيالهم وهم عنها غافلون :
( فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ) . .
حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة . . ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية . وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب . وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب . وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر . وان تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث . فضلا على معجزة الحياة النامية في الشجر - وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر - : ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها )وسر الحياة كان وما يزال مستغلقا على الناس . سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الأنسان . فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول : كيف جاءت هذه الحياة ، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان . ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور .
وعندما يصل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير ، يهجم عليهم بسؤال :
ولا مجال لمثل هذا الادعاء ؛ ولا مفر من الإقرار والإذعان . . وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا ، وهم يسوون آلهتهم المدعاة بالله ، فيعبدونها عبادة الله : ( بل هم قوم يعدلون ) . .
ويعدلون . إما أن يكون معناها يسوون . أي يسوون آلهتهم بالله في العبادة . وإما أن يكون معناها : يحيدون . أي يحيدون عن الحق الواضح المبين . بإشراك أحد مع الله في العبادة ؛ وهو وحده الخالق الذي لم يشاركه أحد في الخلق . وكلا الأمرين تصرف عجيب لا يليق !
{ أم } منقطعة بمعنى ( بل ) للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض مع مراعاة وجود معنى الاستفهام أو لفظه بعدها لأن ( أم ) لا تفارق معنى الاستفهام . انتقل بهذا الإضراب من الاستفهام الحقيقي التهكمي إلى الاستفهام التقريري ، ومن المقدمة الإجمالية وهي قوله { ءالله خير أم ما تشركون } [ النمل : 59 ] ، إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال . عدد الله الخيرات والمنافع من آثار رحمته ومن آثار قدرته . فهو استدلال مشوب بامتنان لأنه ذكرهم بخلق السموات والأرض فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتوي عليها الأرض من الناس والعجماوات ، فهو امتنان بنعمة إيجادهم وإيجاد ما به قوام شؤونهم في الحياة ، وبسابق رحمته ، كما عددها في موضع آخر عليهم بقوله { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الروم : 40 ] .
و { من } للاستفهام . وهي مبتدأ والخبر جملة { خلق السموات . . } الخ وهو استفهام تقريري على أن الله إله واحد لا شريك له ، ولا تقدير في الكلام . وذهب الزمخشري وجميع متابعيه إلى أن ( من ) موصولة وأن خبرها محذوف دل عليه قوله فيما تقدم { ءالله خير } [ النمل : 59 ] وأن بعد ( أم ) همزة استفهام محذوفة ، والتقدير : بل أمّن خلق السموات الخ خير أم ما تشركون . وهو تفسير لا داعي إليه ولا يناسب معنى الإضراب لأنه يكون من جملة الغرض الأول على ما فسر به في « الكشاف » فلا يجدر به إضراب الانتقال .
فالاستفهام تقرير كما دل عليه قوله في نهايته في { أإله مع الله } فهو تقرير لإثبات أن الخالق والمنبت والرازق هو الله ، وهو مشوب بتوبيخ ، فلذلك ذيل بقوله { بل هم قوم يعدلون } كما سيأتي ، أي من غرض الدليل الإجمالي إلى التفصيل .
والخطاب ب { لكم } موجه إلى المشركين للتعريض بأنهم ما شكروا نعمة الله .
وذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلقه الله ، ولقطع شبهة أن يقولوا : إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء ، اغتراراً بالسبب فبودروا بالتذكير بأن الله خلق الأسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب ، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب ، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما ، ولذلك جمع بين قوله { وأنزل } وقوله { فأنبتنا } تنبيهاً على إزالة الشبهة .
ونون الجمع في { أنبتنا } إلتفات من الغيبة إلى الحضور . ومن لطائفه هنا التنصيص على أن المقصود إسناد الإنبات إليه لئلا ينصرف ضمير الغائب إلى الماء لأن التذكير بالمنبت الحقيقي الذي خلق الأسباب أليق بمقام التوبيخ على عدم رعايتهم نعمه .
والحدائق : جمع حديقة وهي البستان والجنة التي فيها نخل وعنب . سميت حديقة لأنهم كانوا يحدقون بها حائطاً يمنع الداخل إليها صوناً للعنب لأنه ليس كالنخل الذي يعسر اجتناء ثمره لارتفاع شجره فهي بمعنى : محدق بها .
ولا تطلق الحديقة إلا على ذلك .
والبهجة : حسن المنظر لأن الناظر يبتهج به .
ومعنى { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } ليس في ملككم أن تنبتوا شجر تلك الحدائق ، فاللام في { لكم } للملك و { أن تنبتوا } اسم { كان } و { لكم } خبرها . وقدم الخبر على الاسم للاهتمام بنفي ملك ذلك .
وجملة { أإله مع الله } استئناف هو كالنتيجة للجملة قبلها لأن إثبات الخلق والرزق والإنعام لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه .
والاستفهام إنكاري . و { بل } للإضراب عن الاستفهام الإنكاري تفيد معنى ( لكن ) باعتبار ما تضمنه الإنكار من انتفاء أن يكون مع الله إله فكان حق الناس أن لا يشركوا معه في الإلهية غيره فجيء بالاستدراك لأن المخاطبين بقوله { وأنزل لكم } وقوله { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } لم ينتفعوا بالدليل مع أنه دليل ظاهر مكشوف ، فهم مكابرون في إعراضهم عن الاهتداء بهذا الدليل ، فهم يعدلون بالله غيره ، أي يجعلون غيره عديلاً مثيلاً له في الإلهية مع أن غيره عاجز عن ذلك فيكون { يعدلون } من عدل الذي يتعدى بالباء ، أو يعدلون عن الحق من عدل الذي يعدّى ب ( عن ) .
وسُئل بعض العرب عن الحجاج فقال : « قاسط عادل » ، فظنوه أثنى عليه فبلغت كلمته للحجاج ، فقال : أراد قوله تعالى { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } [ الجن : 15 ] أي وذلك قرينة على أن المرار ب ( عادل ) أنه عادل عن الحق .
وأيَّاً مَّا كان فالمقصود توبيخهم على الإشراك مع وضوح دلالة خلق السموات والأرض وما ينزل من السماء إلى الأرض من الماء .
ولما كانت تلك الدلالة أوضح الدلالات المحسوسة الدالة على انفراد الله بالخلق وصف الذين أشركوا مع الله غيره بأنهم في إشراكهم معرضون إعراض مكابرة عدولاً عن الحق الواضح قال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] .
والإخبار عنهم بالمضارع لإفادة أنهم مستمرون على شركهم لم يستنيروا بدليل العقل ولا أقلعوا بعد التذكير بالدلائل . وفي الإخبار عنهم بأنهم قوم إيماء إلى تمكن صفة العدول عن الحق منهم حتى كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم غير مرة .