تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

{ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

أي : لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله ، ففيه الحث على الخروج للجهاد ، والترغيب في ذلك ، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر .

وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به ، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر ، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا [ وجود ] المانع ، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك ، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر .

ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه ، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد ، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل .

ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة ، أي : الرفعة ، وهذا تفضيل على وجه الإجمال ، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل ، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم ، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير ، واندفاع كل شر .

والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في " الصحيحين " أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله .

وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد ، نظير الذي في سورة الصف في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } إلى آخر السورة .

وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها ، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره ، ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة ، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات .

وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح ، أو النزول من حالة إلى ما دونها ، عند القدح والذم - أحسن لفظا وأوقع في النفس .

وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء ، وكل منهما له فضل ، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }

وكما [ قال تعالى ] في الآيات المذكورة في الصف في قوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وكما في قوله تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي : ممن لم يكن كذلك .

ثم قال : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وكما قال تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة .

وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض ، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال . كما إذا قيل : النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك : وكل منهما كافر .

والقتل أشنع من الزنا ، وكل منهما معصية كبيرة ، حرمها الله ورسوله وزجر عنها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

95

( لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) . .

ولا يتركها هكذا مبهمة ، بل يوضحها ويقررها ، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين :

( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) . .

وهذه الدرجة يمثلها رسول الله [ ص ] في مقامهم في الجنة .

في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله [ ص ] قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله . وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . .

وقال الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبى عبيدة ، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله [ ص ] : " من رمى بسهم فله أجره درجة " . . فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال :

" أما إنها ليست بعتبة أمك . ما بين الدرجتين مائة عام " .

وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله [ ص ] ، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها ؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون . حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية وقد كان الذين يسمعون رسول الله [ ص ] يصدقونه بما يقول . ولكنا - كما قلت - ربما كنا أقدر - فوق الإيمان - على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب !

ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين - غير اولي الضرر - والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى :

( وكلا وعد الله الحسنى ) . .

فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال ؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان ؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس . . وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين . إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة ؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب ؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير ؛ والخير مرجو فيها ، والأمل قائم في أن تستجيب .

فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى ؛ مؤكدا لها ، متوسعا في عرضها ؛ ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم :

وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيمًا .

وهذا التوكيد . . وهذه الوعود . . وهذا التمجيد للمجاهدين . . والتفضيل على القاعدين . . والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم . ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير . .

هذا كله يشي بحقيقتين هامتين :

الحقيقة الأولى : هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها . وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية ، ولطبيعة الجماعات البشرية ، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائما في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف ، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس ، مع خلوص النفس لله ، وفي سبيل الله . وظهور هذه الخصائص البشرية - من الضعف والحرص والشح والتقصير - لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة ، ولا إلى نفض اليد منها ، وازدرائها ؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها . . ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير ؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح ، باعتبار أن هذا كله جزء من " واقعها " ! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . بكل ألوان الهتاف والحداء . . كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم .

والحقيقة الثانية : هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام . لما يعلمه الله - سبحانه - من طبيعة الطريق ؛ وطبيعة البشر ؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين .

إن " الجهاد " ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة . إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة ! وليست المسألة - كما توهم بعض المخلصين - أن الإسلام نشأ في عصر اللإمبراطوريات ؛ فاندس في تصوراتأهله - اقتباسا مما حولهم - أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن !

هذه المقررات تشهد - على الأقل - بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصلية لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون .

لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله ؛ في مثل هذا الأسلوب ! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله [ ص ] وفي مثل هذا الأسلوب . .

لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله [ ص ] تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " .

ولئن كان [ ص ] رد في حالات فردية بعض المجاهدين ، لظروف عائلية لهم خاصة ، كالذي جاء في الصحيح أن رجلا قال للنبي [ ص ] أجاهد . قال : " لك أبوان ؟ " قال : نعم . قال ، " ففيهما جاهد " . . لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة ؛ وفرد واحد لا ينقض المجاهدين الكثيرين . ولعله [ ص ] على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا ، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه ، ما جعله يوجهه هذا التوجيه . .

فلا يقولن أحد - بسبب ذلك - إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف . وقد تغيرت هذه الظروف !

وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس ! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين !

إن الله - سبحانه - يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك ! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه . لأنه طريق غير طريقهم ، ومنهج غير منهجهم . ليس بالأمس فقط . ولكن اليوم وغدا . وفي كل أرض ، وفي كل جيل !

وإن الله - سبحانه - يعلم أن الشر متبجح ، ولا يمكن أن يكون منصفا . ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة ! - فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر . ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل . ولا بد أن يجنح الشر : إلى العدوان ؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة !

هذه جبلة ! وليست ملابسة وقتية . . .

هذه فطرة ! وليست حالة طارئة . . .

ومن ثم لا بد من الجهاد . . لابد منه في كل صورة . . ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير . ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود . ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح . ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة . . وإلا كان الأمر انتحارا . أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين !

ولا بد من بذل الأموال والأنفس . كما طلب الله من المؤمنين . وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . . فأما أن يقدر لهم الغلب ؛ أو يقدر لهم الاستشهاد ؛ فذلك شأنه - سبحانه - وذلك قدره المصحوب بحكمته . . أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم . . والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل . . والشهداء وحدهمهم الذين يستشهدون . .

هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة ، وفي منهجها الواقعي ، وفي خط سيرها المرسوم ، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية ، التي لا علاقة لها بتغير الظروف .

وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين - تحت أي ظرف من الظروف . ومن هذه النقط . . الجهاد . . الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث . . الجهاد في سبيل الله وحده . وتحت رايته وحدها . . وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه " شهداء " ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

ولمّا لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمّق في الغاية من الجهاد ، عقَّب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيْلا يكون ذلك اللومُ موهِماً انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم ، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعاً لليأس من الرحمة عن أنفُس المسلمين .

يقول العرب « لا يستوي وليس سواءً » بمعنى أنّ أحد المذكورين أفضل من الآخر . ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالّة على تعيين المفضّل لأنّ من شأنه أن يكون أفضل . قال السموأل أو غيره :

فليس سواءً عالم وجهول

وقال تعالى : { ليسوا سواء } [ آل عمران : 113 ] ، وقد يُتبعونه بما يصرّح بوجه نفي السوائية : إمّا لخفائه كقوله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } [ الحديد : 10 ] ، وقد يكون التصريح لمجرّد التأكيد كقوله : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } [ الحشر : 20 ] . وإذ قد كان وجه التفاضل معلوماً في أكثر مواقع أمْثال هذا التركيب ، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية ، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه وزُهده فيما هو خير مع المكنة منه ، وكذلك هو هنا لظهور أنّ القَاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين ، ولا في ثوابه على ذلك ، فتعيّن التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم . وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله : { غيرَ أولي الضرر } كيلا يحسِبَ أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيَخرجوا مع المسلمين ، فيكلفّوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى ، أو يظنّوا أنّهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم ، زيادة على انكسارها بعجزهم ، ولأنّ في استثنائهم إنصافاً لهم وعذراً بأنّهم لو كانوا قادرين لما قعدوا ، فذلك الظنّ بالمؤمن ، ولو كان المقصود صريحَ المعنى لما كان للاستثناء موقع . فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود ، وله موقع من البلاغة لايضاع ، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلومات في سياق الكلام فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ . ويدلّ لهذا ما في « الصحيحين » ، عن زيد بن ثابت . أنّه قال : نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سريّ عنه فقال : اكتُب ، فكتبت في كَتف ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) ، وخَلْفَ النبي ابنُ أمّ مكتوم فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، فنزلت مكانها { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرَ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } الآية . فابن أمّ مكتوم فَهم المقصود من نفي الاستواء فظنّ أنّ التعريض يشمله وأمثاله ، فإنّه من القاعدين ، ولأجل هذا الظنّ عُدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام ، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء ، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي ، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة ، ولكنها معوّضته بنظيره لأنّ السامعين أصناف كثيرة .

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وخلف : { غيرَ } بنصب الراء على الحال من { القاعدون } ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب بالرفع على النعت ل { القاعدون } .

وجاز في « غير » الرفعُ على النعت ، والنصب على الحال ، لأنّ ( القاعدون ) تعريفهُ للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى .

والضرر : المرض والعاهة من عمّى أو عرج أو زَمانةٍ ، لأنّ هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها ، وأشهر استعماله في العمى ، ولذلك يقال للأعمى : ضرير ، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن ، وأحسب أنّ المراد في هذه الآية خصوص العمى وأنّ غيره مقيس عليه .

والضرر مصدر ضرِر بكسر الراء مثل مرض ، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها ، مثل عَمي وعَرج وحَصر ، ومصدرها مفتوح العين مثل العَرج ، ولأجل خفّته بفتح العين امتنع إدغام المثلين فيه ، فقيل : ضَرَر بالفكّ ، وبخلاف الضُرّ الذي هو مصدر ضَرّه فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفكّ . ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العَاهات الضارّة ؛ وأمّا ما روي من حديث " لا ضَرر ولا ضِرار " فهو نادرٌ أوْ جرى على الإتْباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ ضِرَار وهو مفكّك . وزعم الجوهري أنّ ضرر اسم مصدر الضرّ ، وفيه نظر ؛ ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه .

وقوله : { بأموالهم وأنفسهم } لأنّ الجهاد يقتضي الأمرين : بذل النفس وبذل المال ، إلاّ أنّ الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم يتفق شيئاً ، بل ولو كان كَلاًّ على المؤمنين ، كما أنّ من بَذل المال لإعانة الغزاة ، ولم يجاهد بنفسه ، لا يسمّى مجاهداً وإن كان له أجر عظيم ، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنّى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين ، له فضل عظيم ، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين .

وجملة : { فضّل الله المجاهدين } بيان لجملة : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } .

وحقيقة الدرجة أنّها جزء من مكان يكون أعلى من جزء أخرَ متّصل به ، بحيث تتخطّى القدَم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود ، وذلك مثل درجة العُلَيّة ودرجة السلَّم .

والدرجة هنا مستعارة للعلوّ المعنوي كما في قوله تعالى : { وللرجال عليهنّ درجة } [ البقرة : 228 ] والعلوّ المراد هنا علوّ الفضل ووفرة الأجر .

وجيء ب ( درجة ) بصيغة الإفراد ، وليس إفرادُها للوحدة ، لأنّ درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له ، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيداً لها بصيغة الجمع بقوله : { درَجاتٍ منه } لأنّ الجمع أقوى من المفرد .

وتنوين { درجة } للتعظيم . وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي { درجات منه } .

وانتصب { درجة } بالنيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع في فعل { فَضْل } إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل ، فالتقدير : فَضْل الله المجاهدين فَضْلاً هو درجة ، أي درجةً فضلاً .

وجملة { وكُلاً وعد الله الحسنى } معترضة . وتنوين « كلاً » تنوين عوض عن مضاف إليه ، والتقدير : وكلُّ المجاهدين والقاعدين .

وعُطف { وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً } على جملة { فضّل الله المجاهدين } ، وإن كان معنى الجملتين واحداً باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة { أجراً عظيماً } فبذلك غايرت الجملةُ المعطوفة الجملةَ المعطوفَ عليها مغايرة سوّغت العطف ، مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها .

والمراد بقوله : { المجاهدين } المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستُغني عن ذكر القيد بما تقدّم من ذكره في نظيره السابق . وانتصَب { أجراً عظيماً } على النيابة عن المفعول المطلق المبيِّن للنوع لأنّ الأجر هو ذلك التفضيل ، ووصف بأنّه عظيم .