ثم ذكر قصتهم مجملة ، وفصلها بعد ذلك فقال : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ } أي : الشباب ، { إِلَى الْكَهْفِ } يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم ، { فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر ، وتوفقنا للخير { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي : يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد ، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا ، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة ، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه ، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم ، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق ،
{ الفتية } فيما روي ، قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقليوس ، ويقال دقينوس ، وروي أنهم كانوا مطوقين بالذهب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى ، وقيل كانوا قبل عيسى ، وأما أسماؤهم فهي أعجمية ، والسند في معرفتها واه ، ولكن التي ذكر الطبري هي هذه ، مكسيليمنيا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومجسيلينيا وتمليخا وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، مرطوس وكشوطونس ، وبيرونس ، ودينموس ، ويطونس{[7753]} ، واختلف الرواة في قصص هؤلاء الفتية وكيف كان اجتماعهم وخروجهم إلى الكهف ؟ وأكثر المؤرخون في ذلك ، ولكن نختصر من حديثهم ونذكر ما لا تستغني الآية عنه ، ونذكر من الخلاف عيونه بحول الله ، روى مجاهد عن ابن عباس أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة فوقع للفتية علم من بعض النحويين حسب ما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم بحسب الخلاف الذي ذكرناه ، فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ، فرفع أمرهم إلى الملك ، وقيل له إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك في مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ، فقالوا له فيما روي { ربنا رب السماوات والأرض } [ الكهف : 14 ] إلى قوله { وإذ اعتزلتموهم } [ الكهف : 16 ] ، وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم ، بل أستأني ، فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلاً ، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم إني أعرف كهفاً في جبل كذا كان أبي يدخل فيه غنمه ، فلنذهب إليه فنختفي فيه حتى يفتح الله لنا ، فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم ، وقيل إنهم كانوا مثقفين فحضر عيد أخرجوا له فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا في اللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك ، وروت فرقة أن أمر أصحاب الكهف إنما كان أنهم كانوا من أبناء الأشراف فحضر عيد لأهل المدينة فرأى الفتيان ما يمتثله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام والذبح لها ، فوقع الإيمان في قلوبهم وأجمعوا على مفارقة الناس لئلا ينالهم العذاب معهم ، فزايلوا الناس ، وذهبوا إلى الكهف ، وروى وهب بن منبه أن أمرهم إنما كان أن حوارياً لعيسى ابن مريم ، جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فآجر نفسه من صاحب الحمام فكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة ، فنشر فيهم الإيمان وعرفهم الله تعالى ، فآمنوا واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ، فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة بغي أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاءه مرة أخرى فنهاه فشتمه وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعاً ، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتله ، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف ، وقال عبيد بن عمير : إن أصحاب الكهف كانوا فتية أبناء العظماء مطوقين مسورين ذوي ذوائب قد داخلهم الإيمان أفذاذاً{[7754]} ، وأزمع واحد منهم الفرار بدينه من بلد الكفر ، فأخرجهم الله في يوم واحد لما أراده بهم ، فخرج أحدهم فجلس في ظل شجرة على بعد من المدينة ، فخرج ثان ، فلما رأى الجالس جلس إليه ، ثم الثالث ثم الباقون حتى كمل جميعهم في ظل الشجرة ، فألقى الله في نفوسهم أن غرضهم واحد ، فتساءلوا ، ففزع بعضهم من بعض وتكتموا ، ثم تراضوا برجلين منهم ، وقالوا لنفرد أو تواثقا وليفش كل واحد منكما سره إلى صاحبه ، فإن اتفقتما كنا معكما ، فنهضا بعيداً وتكلما فأفصحا بالإيمان والهروب بالدين فرجعا وفضحا الأمر وتابعهما الآخرون ونهضوا إلى الكهف ، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعياً له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم ، وذهب الكلب معهم ، واسم الكلب حمران ، وقل قطير ، فدخلوا الغار على جميع هذه الأقوال فروت فرقة أن الله عز وجل «ضرب على آذانهم » عند ذلك لما أراده من سترهم ، وخفي على أهل المملكة مكانهم ، وعجب الناس من غرابة فقدهم ، فأرخوا ذلك ورقموه في لوحين من رصاص أو نحاس ، وجعلوه على باب المدينة فيه اسماؤهم وأسماء آبائهم وذكر شرفهم ، وأنهم فقدوا بصورة كذا في وقت كذا ، وقيل إن الذي كتب هذا وتهمم به رجلان قاضيان مؤمنان يكتمان إيمانهما من أهل بيت المملكة ، وتسترا بذلك ودفنا اللوحين عندهما : وقيل على الرواية بأن الملك أتى باب الغار ، وأنهما دفنا ذلك في بناء الملك على الغار ، وروت فرقة أن الملك لما ذهب الفتية أمر بقص آثارهم ، فانتهى ذلك بمتبعيهم إلى باب الغار ، فعرف الملك ، فركب في جنده حتى وقف عليه ، فأمر بالدخول عليهم فهاب الرجال ذلك ، فقال له بعض وزرائه ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم ، قال نعم ، قال فأي قتلة أبلغ من الجوع والعطش ، ابن عليهم باب الغار ودعهم يموتوا فيه ، ففعل ، وقد «ضرب الله على آذانهم » قبل ذلك لما أراد من تأمينهم ، وأرخ الناس أمرهم في اللوحين ، أو أرخه الرجلان بحسب الخلاف ، واسم أحد الرجلين فيما ذكر الطبري بندروس ، واسم الآخر روناس ، وروي أن هذا الملك الذي فر الفتية من دينه ، كان قد امتحن الله به المؤمنين حيث أحس بهم ، يقتلهم ويعلقهم أشخاصاً ورؤوساً على أسوار مدينته ، وكان يريد أن يذهب فيما ذكر ، دين عيسى ، وكان هو وقومه من الروم ، ثم أخبر الله تعالى عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف أي دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام ، دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة ، وهي الرزق فيما ذكر المفسرون ، وأن يهيىء لهم من أمرهم { رشداً } أي خلاصاً جميلاً ، وقرأ الجمهور «رَشَداً » بفتح الراء والشين ، وقرأ أبو رجاء «رُشْداً » بضم الراء وسكون الشين ، والأولى أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم ، وألفاظه تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط ، فإنها كافية ، ويحتمل ذكر «الرحمة » أن يراد بها أمر الآخرة وقد اختصرت هذا القصص ، ولم أغفل من مهمه شيئاً بحسب اجتهادي ، والله المعين برحمته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبا" حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل، هربا بدينهم إلى الله، فقالوا إذ أووه: "رَبّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً "رغبة منهم إلى ربهم، في أن يرزقهم من عنده رحمة.
وقوله: "وَهَيّئ لَنا مِنْ أمْرِنا رَشَدا" يقول: وقالوا: يسّر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، "رَشَدا" يقول: سَدادا إلى العمل بالذي تحبّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة} (قال الحسن: {آتنا من لدنك رحمة} أي حسنة {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} أي تيسيرا. وهو ما ذكر في قوله: {ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا} (الكهف: 16)...
وقال بعضهم: قوله: {آتنا من لدنك رحمة} أي رزقا... {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} أي احمل جميع أمورنا على الصواب والرشد على ما ذكرنا أنهم عرفوا سعة المفارقة للدين، ولكن لم يعرفوا سعة تلك إذا كان فيها خوف هلاك أنفسهم، فسألوا ربهم أن يحمل أمرهم ذلك على الرشد و الصواب. ويحتمل {آتنا من لدنك رحمة} نعمة وسعة {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} من أمر ديننا صوابا؛ يقول: {آتنا من لدنك رحمة} دينا {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} صوابا...
فيه الدلالة على أن على الإنسان أن يهرب بدينه إذا خاف الفتنة فيه... ويدل على أنه إذا أراد الهرب بدينه خوف الفتنة أن يدعو بالدعاء الذي حكاه الله عنهم؛ لأن الله قد رضي ذلك من فعلهم وأجاب دعاءهم وحكاه لنا على جهة الاستحسان لما كان منهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
آواهم إلى الكهف بظاهرهم، وفي الباطن فهو مُقِيلُهم في ظلِّ إقباله وعنايته، ثم أخذهم عنهم، وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال وهم غائبون عن شواهدهم. وأخبر عن ابتداء أمرهم بقوله. {رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيْئ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَداً}: أي أنهم أَخذُوا في التبرِّي مِنْ حَوْلِهم وقُوَّتِهم، ورجعوا إلى الله بِصِدْق فَاقتِهم، فاستجاب لهم دعوتَهم، ودفع عنهم ضرورتَهم، وبَوَّأَهم في كنف الإيواء مقيلاً حسناً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي رحمة من خزائن رحمتك، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء {وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} الذي نحن عليه من مفارقة الكفار {رَشَدًا} حتى نكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشداً كله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط، فإنها كافية، ويحتمل ذكر «الرحمة» أن يراد بها أمر الآخرة...
{إذ أوى الفتية إلى الكهف}... والتقدير: اذكر إذ أوى...
{ربنا آتنا من لدنك رحمة} أي رحمة من... جلائل... فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر...
{من لدنك} يدل على عظمة تلك الرحمة وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما صغر أمرهم بالنسبة إلى جليل آياته وعظيم بيناته وغريب مصنوعاته، لخص قصتهم التي عدوها عجباً وتركوا الاستبصار على وحدانية الواحد القهار بما هو العجب العجيب، والنبأ الغريب، فقال تعالى: {إذ أوى} أي كانوا على هذه الصفة حين أووا، ولكنه أبرز الضمير لبيان أنهم شبان ليسوا بكثيري العدد فليست لهم أسنان استفادوا بها من التجارب والتعلم ما اهتدوا إليه من الدين والدنيا، ولا كثرة حفظوا بها ممن يؤذيهم أيقاظاً ورقوداً فقال تعالى: {الفتية} وهم أصحاب الكهف المسؤول عنهم، والشبان أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ {إلى الكهف} المقارب لقريتهم المشهور ببلدتهم فراراً بدينهم كما أويت أنت والصديق إلى غار ثور فراراً بدينكما {فقالوا} عقب استقرارهم فيه: {ربنا ءاتنا} ولما كانت الموجودات -كما مضى عن الحرالي في آل عمران- على ثلاث رتب: حكميات جارية على قوانين العادات، وعنديات خارقة للمطردات ولدنيات مستغرقة في الأمور الخارقات، طلبوا أعلاها فقالوا: {من لدنك} أي من مستبطن الأمور التي عندك ومستغربها {رحمة} أي إكراماً تكرمنا به كما يفعل الراحم بالمرحوم {وهيىء لنا} أي جميعاً لا تخيب منا أحداً {من أمرنا رشداً} أي وجهاً ترشدنا فيه إلى الخلاص في الدارين، لا جرم صارت قصتهم على حسب ما أجابهم ربهم بديعة الشأن فردة في الزمان، يتحدث بها في سائر البلدان، في كل حين وأوان...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن، والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره، وفي ذكر {مِن لَّدُنْكَ} إيماءً إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة {رَشَدًا}: إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداءً إليه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق،
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالفتية: أصحاب الكهف، وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أتراباً متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل: إذ أووا إلى الكهف. ودلت الفاء في جملة فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله. ودلت الفاء في جملة فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله. ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة {من لدنك} للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في (من) معنى الابتداء وفي (لدن) معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألماً، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين. ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالاً تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء. و (من) في قوله: {من أمرنا} ابتدائية. والأمر هنا: الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
عرفهم القرآن الكريم بأوصافهم، وأول وصف من هذه الأوصاف أنهم فتية جمع فتى، أي أنهم شبان في باكورة أعمارهم، نفوسهم غضة لم ترهقها الأوهام، ولا العادات والتقاليد، ومورثات الآباء العتيقة التي عششت في رؤوس من قبلهم، بل إنهم على الفطرة السليمة، والشباب دائما أسرع الناس إلى الحق إن لم يكن في توجيههم ما يعوق عنه أو يسدّ الحجاب دونه... هذا هو الوصف الأول الذي وصف الله به أهل الكهف، أما الوصف الثاني، وهي نتيجة لسلام الطوية أنهم اتجهوا إلى الله تعالى بقلب محس بقدرة الله ومعجزته، وبأنه سبحانه وتعالى المنعم الهادي دون غيره فقالوا: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا} نادوا ربهم قائلين، {ربنا}، أي الذي خلقتنا وكونتنا وطهّرت قلوبنا، وخلّصت نفوسنا من الشرك وأوهامه، {آتنا من لدنك}، من حضرتك القدسية، وخزائنك التي لا تنفد، {رحمة} وإنعاما وتوفيقا، وسلوكا مستقيما ودواما للتوفيق. ورحمة الله وسعت كل شيء وهي تعم كل حياة الإنسان، والدعوة الثانية المنبعثة من إيمان عميق موجه، وإذعان صادق يملأ القلب نورا، {وهيئ لنا من أمرنا رشدا}، أي الأمر الذي اخترناه لأنفسنا من الإيمان في وسط الوثنية، والرشد هو إدراك الأمور إدراكا مستقيما لا عوج فيه، وهذا الطريق المستقيم يقتضي تجنب الشرك وطلب الحق، والابتعاد عن كل مهاوي الرذيلة، والاتجاه إلى طريق الفضيلة ومحاسن الأخلاق، وألا يكون شطط ولا إفراط، ولا تفريط، إلا أن يدفع إلى ذلك الحق وتجنب الهوى...
يظهر أن أولئك الفتية طوردوا حتى أووا إلى الكهف، فالإيواء لا يكون إلا عن منازعة يحسون فيها بأنهم لا قبل لهم بمن يريدون أن يفتنوهم عن دينهم، وقد كان ذلك واقعا في عهد اضطهاد النصارى، كما أشرنا وكما بينا في غير هذا الكتاب...
(أوى) من المأوى، وهو المكان الذي يأوي الهي الإنسان ويلجأ إليه (الفتية) جمع فتى، وهو الشاب في مقتبل العمر، والشباب هم معقد الآمال في حمل الأعباء والنهوض بكل أمر صعب، وهؤلاء شباب مؤمن وقفوا يحملون راية عقيدتهم وإيمانهم أمام جبروت الكفر وطغيان الشرك، فالفتاء فيهم فتاء إيمان وعقيدة. لذلك لجأوا إلى الكهف مخلفين وراءهم أموالهم وأهلهم وكل ما يملكون، وفروا بدينهم إلى هذا المكان الضيق الخالي من أي مقوم من مقومات الحياة؛ لأنهم لا يشغلون أنفسهم بهذه المقومات، بل يعلمون أن لهم رباً سيتولى أمرهم؛ لذلك ضرعوا إليه قائلين: {ربنا آتنا من لدنك رحمة}: أي: رحمة من عندك، أنت ترحم بها ما نحن فيه من انقطاع عن كل مقومات الحياة، فالرحمة في فجوة الجبل لن تكون من البشر، الرحمن هنا لا تكون إلا من الله: {وهيئ لنا من أمرنا رشداً}: أي: يسر لنا طريقاً سديداً للخير وللحق. إن هؤلاء الفتية المؤمنين حينما ألجأهم الكفر إلى ضيق الكهف تضرعوا واتجهوا إلى ربهم، فهو وحده القادر على أن يوسع عليهم هذا الضيق، كما قال تعالى: {فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا "43 "} (سورة الأنعام).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} وهذا ما قد يحتاج العاملون في سبيل الله إلى استلهامه في أوقات الشدّة ومواضع الحيرة، عندما تضغط عليهم القوى الكافرة والطاغية بضغوطها الوحشية والهمجية، ويتحيّرون في مفترق الطرق، فلا يعرفون إلى أين يسيرون. إن الرجوع إلى الله في طلب الرحمة، وتهيئة سبيل الرشاد، يمنح المؤمنين العاملين قدراً كبيراً من الاستقرار الروحي، والطمأنينة النفسية، والهدوء الفكري، والثقة بالمستقبل... من خلال الثقة بالله، والاطمئنان إليه، والركون إلى ساحته الحصينة... وبذلك يمكنهم مواصلة الطريق نحو الهدف الكبير، بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي تحيط بهم من كل جانب.