تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

{ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ْ } فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به ، والاتفاق عليه ، فهؤلاء سبقت لهم ، سابقة السعادة ، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي .

وأما من عداهم ، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم .

وقوله : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ْ } أي : اقتضت حكمته ، أنه خلقهم ، ليكون منهم السعداء والأشقياء ، والمتفقون والمختلفون ، والفريق الذين هدى الله ، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة ، ليتبين للعباد ، عدله وحكمته ، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر ، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء .

{ وَ ْ } لأنه { تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ْ } فلا بد أن ييسر للنار أهلا ، يعملون بأعمالها الموصلة إليها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

100

شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة . فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين . وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة - إلا الذين أدركتهم رحمة الله - الذين اهتدوا إلى الحق - والحق لا يتعدد - فاتفقوا عليه . وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال .

ومن المقابل الذي ذكره النص :

( وتمت كلمة ربك : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . .

يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتليء بهم كما تمتليء جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق ، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

وقوله : { ولذلك خلقهم } اختلف فيه المتأولون ، فقالت فرقة : ولشهود اليوم المشهود - المتقدم ذكره- خلقهم ، وقالت فرقة : ذلك إشارة إلى قوله - قبل - { فمنهم شقي وسعيد } [ هود : 105 ] أي لهذا خلقهم .

قال القاضي أبو محمد : وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد ؛ وروى أشهب عن مالك أنه قال : ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير .

قال القاضي أبو محمد : فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين : الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ، ويجيء - عليه - الضمير في { خلقهم } للصنفين ، وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله : { إلا من رحم } ، أي وللرحمة خلق المرحومين ، قال الحسن ، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله : { ولا يزالون مختلفين } .

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا بأن يقال : كيف خلقهم للاختلاف ؟ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم ؟ فالوجه في الانفصال أن نقول : إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقاً للسعادة وخلقاً للشقاوة ، ثم يسر كلاًّ لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح{[6540]} وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب ، فيصح أن يحمل قوله هنا{[6541]} وللاختلاف خلقهم : أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة . ويصح أن يجعل اللام في قوله : { ولذلك } لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك ، وإن لم يقصد بهم الاختلاف .

قال القاضي أبو محمد : ومعنى قوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[6542]} أي لآمرهم بالعبادة ، وأوجبها عليهم{[6543]} ، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه .

وقوله ، { وتمت كلمة ربك } أي نفذ قضاؤه وحق أمره ، واللام في { لأملأن } لام قسم إذ «الكلمة » تتضمن القسم{[6544]} . و «الجن » جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر و «الهاء » في { بالجنة } للمبالغة . وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه{[6545]} .


[6540]:- مص الحديث كما رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس، وعن عمران بن حصين (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، وهو حديث صحيح، قال ذلك الإمام السيوطي في "الجامع الصغير"، هذا وقد رواه البخاري في تفسيره سورة (الليل) وفي أماكن أخرى كثيرة، ومسلم في القدر، وابن ماجه في المقدمة، والترمذي في القدر، والإمام أحمد في أكثر من موضع مسنده، واللفظ كما جاء في البخاري عن علي رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار)، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتّكل؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر)، ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} إلى قوله: {للعسرى}.
[6541]:- أي قول الحسن رضي الله عنه، لأن الكلام في دفع اعتراض ورد على رأيه.
[6542]:- من الآية (56) من سورة (الذاريات).
[6543]:- يريد أن يقول: إنه لا تعارض بين كون اللام في قوله: (ولذلك) للصيرورة وبين قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، لأن هذه الآية يراد بها الأمر بالعبادة.
[6544]:- فهي كقوله تعالى: {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين} ثم قوله: {لتؤمنن به}.
[6545]:- وهذا مما يكون فيه الواحد بغير هاء والجمع بالهاء كقول بعض العرب: (كمؤ) للواحد و(كمأة) للجمع. قاله في "البحر المحيط".