{ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ْ } أي : قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم ، والاستبعاد لإجابتهم له .
ومعنى كلامهم : أنه لا موجب لنهيك لنا ، إلا أنك تصلي لله ، وتتعبد له ، أفإن كنت كذلك ، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ، لقول ليس عليه دليل إلا أنه موافق لك ، فكيف نتبعك ، ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب ؟ !
وكذلك لا يوجب قولك لنا : { أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ْ } ما قلت لنا ، من وفاء الكيل ، والميزان ، وأداء الحقوق الواجبة فيها ، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا ، لأنها أموالنا ، فليس لك فيها تصرف .
ولهذا قالوا في تهكمهم : { إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ْ } أي : أئنك أنت الذي ، الحلم والوقار ، لك خلق ، والرشد لك سجية ، فلا يصدر عنك إلا رشد ، ولا تأمر إلا برشد ، ولا تنهى إلا عن غي ، أي : ليس الأمر كذلك .
وقصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين : بالسفه والغواية ، أي : أن المعنى : كيف تكون أنت الحليم الرشيد ، وآباؤنا هم السفهاء الغاوون ؟ ! !
وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم ، وأن الأمر بعكسه ، ليس كما ظنوه ، بل الأمر كما قالوه . إن صلاته تأمره أن ينهاهم ، عما كان يعبد آباؤهم الضالون ، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأي فحشاء ومنكر ، أكبر من عبادة غير الله ، ومن منع حقوق عباد الله ، أو سرقتها بالمكاييل والموازين ، وهو عليه الصلاة والسلام الحليم الرشيد .
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد ، وسوء الاستغلال :
( قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ إنك لأنت الحليم الرشيد ! ) . .
وهو رد واضح التهكم ، بين السخرية في كل مقطع من مقاطعه . وإن كانت سخرية الجاهل المطموس ، والمعاند بلا معرفة ولا فقه .
( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ ) . .
فهم لا يدركون - أو لا يريدون أن يدركوا - أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة ، ومن صور العبودية والدينونة . وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم ، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل . فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة .
وقبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة . وارتباطهما معا بالمعاملات . . قبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين ، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب . وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكا من الجاهلية الأولى ! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها - بما فيها أولئك الذين يقولون : إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون - فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر . والشريعة والتعامل . فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره ، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله ، ووفق أمر غيره . . وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله . .
وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم - وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف - فلقد قامت أزمة في " الكنيست " مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها - من غير اليهود - أطعمة غير شرعية . وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده - مهما تعرضت للخسارة - فأين من يدعون أنفسهم " مسلمين ! " من هذا الاستمساك بالدين ؟ ! !
إن بيننا اليوم - ممن يقولون : إنهم مسلمون ! - من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق ، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية .
وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم . يتساءلون أولا في استنكار : وما للإسلام وسلوكنا الشخصي ؟ ما للإسلام والعري في الشواطيء ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق ؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل ؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج ؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله " المتحضرون " ؟ ! . . فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين : ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ؟ ) . .
وهم يتساءلون ثانيا . بل ينكرون بشدة وعنف . أن يتدخل الدين في الاقتصاد ، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد ، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد . . فما للدين والمعاملات الربوية ؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي ؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده . وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية - النظرية الأخلاقية مثلا - ويعدونها تخليطا من أيام زمان !
فلا يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى . ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة ، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة ، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله ، والسلوك الشخصي في الحياة ، والمعاملات المادية في السوق . . تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود ! ! !
وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب ، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض . فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد . والشرك ألوان . منه هذا اللون الذي نعيش به الآن . وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان !
ويسخر أهل مدين من شعيب - كما يتوقع بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق - فيقولون :
( إنك لأنت الحليم الرشيد ! ) . .
وهم يعنون عكس معناها . فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير ، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق ! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين ! ! !
قرأ جمهور الناس «أصلواتك » بالجمع ، وقرأ ابن وثاب «أصلاتك » بالإفراد ، وكذلك قرأ في براءة { إن صلاتك }{[6469]} وفي المؤمنين : { على صلاتهم }{[6470]} كل ذلك بالإفراد .
واختلف في معنى «الصلاة » هنا ، فقالت فرقة : أرادوا الصلوات المعروفة ، وروي أن شعيباً عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة ، وقال الحسن : لم يبعث الله نبياً إلا فرض عليه الصلاة والزكاة . وقيل : أرادوا قراءتك . وقيل : أرادوا : أمساجدك ؟ وقيل : أرادوا : أدعواتك .
قال القاضي أبو محمد : وأقرب هذه الأقوال الأول والرابع وجعلوا الأمر من فعل الصلوات على جهة التجوز ، وذلك أن كل من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع : فمعنى هذا : ألما كنت مصلياً تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا ؟ فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك فقيل : أمرته ، كما قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }{[6471]} .
وقوله : { أن نترك ما يعبد آباؤنا } نص في أنهم كانوا يعبدون غير الله تعالى وقرأ جمهور الناس : «نفعل » و «نشاء » بنون الجماعة فيهما ؛ وقرأ الضحاك بن قيس «تفعل » و «تشاء » بتاء المخاطبة فيهما : ورويت عن أبي عبد الرحمن : «نفعل » بالنون . «ما تشاء » بالتاء ، ورويت عن ابن عباس . فأما من قرأ بالنون فيهما ف { أن } الثانية عطف على { ما } لا على { أن } الأولى ، لأن المعنى يصير : أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ وهذا قلب ما قصدوه . وأما من قرأ بالتاء فيهما فيصح عطف { أن } الثانية على { ما } لا على { أن } الأولى ، قال بعض النحويين ، ويصح عطفها على { ما } ويتم المعنى في الوجهين .
قال القاضي أبو محمد : ويجيء { نترك } في الأول بمعنى نرفض ، وفي الثاني بمعنى نقرر ، فيتعذر عندي هذا الوجه لما ذكرته من تنوع الترك على الحكم اللفظي أو على حذف مضاف ، ألا ترى أن الترك في قراءة من قرأ بالنون في الفعلين إنما هو بمعنى الرفض غير متنوع ، وأما من قرأ بالنون في «نفعل » والتاء في «تشاء » ف { أن } معطوفة على الأولى ، ولا يجوز أن تنعطف على { ما } لأن المعنى - أيضاً - ينقلب ، فتدبره .
وظاهر فعلهم هذا الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره ، وروي أن الإشارة هي إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس ، قاله بن كعب وغيره ، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : قطع الدراهم والدنانير من الفساد في الأرض ، فتأول ذلك بهذا المعنى المتقدم ، وتؤول أيضاً بمعنى أنه تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس .
واختلف في قولهم : { إنك لأنت الحليم الرشيد } فقيل : إنما كانت ألفاظهم : إنك لأنت الجاهل السفيه ، فكنى الله عن ذلك وقيل : بل هذا لفظهم بعينه ، إلا أنهم قالوه على جهة الاستهزاء - قاله ابن جريج وابن زيد - وقيل المعنى : إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك . وقيل : بل قالوه على جهة الحقيقة وأنه اعتقادهم فيه ، فكأنهم فندوه{[6472]} ، أي أنه حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تأمرنا بهذه الأوامر ، ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة ، حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا إخوة القردة » ، يا م
حمد ما علمناك جهولاً{[6473]} .
قال القاضي أبو محمد : والشبه بين الأمرين إنما هو المناسبة بين كلام شعيب وتلطفه ، وبين ما بادر به محمد عليه السلام بني قريظة .