وقد بين تعالى حكمة ذلك بقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } وبيان ذلك : أن الزوجة قبل عقد النكاح محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إلا بذلك المهر الذي يدفعه لها ، فإذا دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك ، والتي لم ترض ببذلها إلا بذلك العوض ، فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه العوض .
فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض ؟ هذا من أعظم الظلم والجور ، وكذلك أخذ الله على الأزواج ميثاقا غليظا بالعقد ، والقيام بحقوقها .
ومن ثم لمسة وجدانية عميقة ، وظل من ظلال الحياة الزوجية وريف ، في تعبير موح عجيب :
( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا ؟ ) . .
ويدع الفعل : " أفضى " بلا مفعول محدد . يدع اللفظ مطلقا ، يشع كل معانيه ، ويلقي كل ظلاله ، ويسكب كل إيحاءاته . ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته . بل يشمل العواطف والمشاعر ، والوجدانات والتصورات ، والأسرار والهموم ، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب . يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة إناء الليل وأطراف النهار ، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان . . وفي كل اختلاجة حب إفضاء . وفي كل نظرة ود إفضاء . وفي كل لمسة جسم إفضاء ، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء . وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء . وفي كل شوق إلى خلف إفضاء . وفي كل التقاء في وليد إفضاء . .
كل هذا الحشد من التصورات والظلال والانداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب : ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) . . فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ، ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع ، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي ، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف !
ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملا آخر ، من لون آخر :
( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) . .
هو ميثاق النكاح ، باسم الله ، وعلى سنة الله . . وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن ؛ وهو يخاطب الذين آمنوا ، ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ .
{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } إنكار لاسترداد المهر والحال أنه وصل إليها بالملامسة ودخل بها وتقرر المهر . { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } عهدا وثيقا ، وهو حق الصحبة والممازحة ، أو ما أوثق الله عليهم في شأنهن بقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله .
قوله : وكيف تأخذونه استفهام تعجيبي بعد الإنكار ، أي ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج وعهد متين . والإفضاء الوصول ، مشتقّ من الفضاء ، لأنّ في الوصول قطع الفضاء بين المتواصلين والميثاق الغليظ عقدة النكاح على نيّة إخلاص النيّة ودوام الألفة ، والمعنى أنّكم كنتم على حال مودة وموالاة ، فهي في المعنى كالميثاق على حسن المعاملة .
والغليظ صفة مُشَبَّهة من غَلُظ بضمّ اللام إذا صلب ، والغلظة في الحقيقة صَلابة الذوات ، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدّتها في أنواعها ، قال تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ] . وقد ظهر أنّ مناط التحريم هو كون أخذ المال عند طلب استبدال الزوجة بأخرى ، فليس هذا الحكم منسوخاً بآية البقرة خلافاً لجابر بن زيد إذ لا إبطال لمدلول هذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكيف تأخذونه} تعظيما له، يعني المهر، {وقد أفضى بعضكم إلى بعض}: يعني به الجماع، {وأخذن منكم ميثاقا غليظا}: يعني بالميثاق الغليظ ما أمروا به من قوله تبارك وتعالى فيهن: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} (البقرة: 231)، والغليظ يعني: الشديد، وكل غليظ في القرآن يعني به الشديد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ}: وعلى أيّ وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهنّ من صدقاتهنّ إذا أردتم طلاقهنّ واستبدال غيرهنّ بهنّ أزواجا، وقد أفضى بعضكم إلى بعضكم فتباشرتم وتلامستم. وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ، كما يقول الرجل لآخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به؟ على معنى التهديد والوعيد. وأما الإفضاء إلى الشيء فإنه الوصول إليه بالمباشرة له. والذي عُني به الإفضاء في هذا الموضع: الجماع في الفرج.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه: وكيف تأخذون ما آتيتموهنّ وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع؟.
عن ابن عباس، قال: الإفضاء: المباشرة، ولكن الله كريم يكني عما يشاء.
{وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِيظا}: أي ما وثقتم به لهنّ على أنفسكم من عهد، وإقرار منكم بما أقررتم به على أنفسكم، من إمساكهنّ بمعروف، أو تسريحهنّ بإحسان، وكان في عقد المسلمين النكاح قديما -فيما بلغنا- أن يقال للناكح: آلله عليك لتمسكنّ بمعروف أو لتسرحنّ بإحسان.
واختلف أهل التأويل في الميثاق الذي عنى الله جلّ ثناؤه بقوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِيظا}؛
فقال بعضهم: هو إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وقال آخرون: هو كلمة النكاح التي استحلّ بها الفرج. وقال آخرون: بل عنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أخَذْتُمُوهُنّ بأمانَةِ اللّهِ، واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَةِ اللّهِ».
وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك قول من قال: الميثاق الذي عني به في هذه الآية، هو ما أخذ للمرأة على زوجها عند عقدة النكاح، من عهد على إمساكها بمعروف، أو تسريحها بإحسان، فأقرّ به الرجل، لأن الله جلّ ثناؤه بذلك أوصى الرجال في نساءهم.
واختلف في حكم هذه الآية، أمحكم أم منسوخ؟ فقال بعضهم: محكم، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدة الطلاق.
وقال آخرون: هي محكمة، غير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدة للطلاق أو هو.
وقال آخرون: بل هي منسوخة نسخها قوله: {وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا مما آتيتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا أنْ لا يَقِيما حُدُودَ اللْهِ}.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: إنها محكمة غير منسوخة، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الأحكام، ما نفى خلافه من الأحكام، على ما قد بينا في سائر كتبنا، وليس قوله: {وَإنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ} نفي حكم قوله: {فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ} لأن الذي حرّم الله على الرجل بقوله: {وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها.
وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ} فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه، وهو كاره له ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع، وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يحكم لإحداهما بأنها ناسخة، وللأخرى بأنها منسوخة، إلا بحجة يجب التسليم لها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن للصحبة السالفة حرمة أكيدة، فقفوا عند مراعاة الذمام، وأوفوا بموجب الميثاق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) إنكار آخر لأخذ شيء من مال المرأة مع إيحاشها بالطلاق والرغبة عنها أكد به الإنكار الأول مبالغة في التنفير أو الاستفهام للتعجب من حال من تمتع بامرأته وعاملها معاملة الأزواج وهي أشد صلة حيوية بين البشر ثم رغب عنها وأراد فراقها من غير أن تتوسل إلى ذلك أو تلجئه إليه بارتكاب الفاحشة المبينة أو عدم إقامة حدود الله، ولم يتأثم مع ذلك من أكل شيء من مالها الذي كان آتاها حال الإقبال عليها والرغبة فيها. يقول كيف تأخذون ذلك الشيء من مالهن والحال أنكم قد أفضيتم إليهن أي خلصتم ووصلتم إليهن ذلك الخلوص الخاص بالزوجين الذي يتحقق به معنى الزوجية تمام التحقق فيلابس كل منهما الآخر حتى كأنهما حقيقة واحدة، ولأجله يعبر بها عن كل منهما باللفظ المفرد الدال على التثنية "زوج "وبه يتكون منهما الولد الذي هو واحد نسبته إلى كل منهما واحدة؟ أبعد هذا الإفضاء والملابسة يصح أن يكون الواصل الباذل هو القاطع للصلة العظيمة طامعا في مال الآخر المظلوم.
وقال بعض الفقهاء: إن المراد بالإفضاء هنا الخلوة الصحيحة؛ وإن لم تحصل فيها الملامسة المقصودة، وهم إنما يفسرون بما يوافق قواعدهم وإن لم يتفق مع الأسلوب العربي البليغ فالجملة من باب الكناية وإنما تكون فيما لا يحسن التصريح به. ويؤيده تعدية الإفضاء ب"إلى" الدال على منتهى الاتصال. وهذا من حسن نزاهة القرآن في التعبير وأدبه العالي في الخطاب ومن الدقة فيه ما ذكره الأستاذ الإمام من نكتة التعبير بقوله "بعضكم إلى بعض" أي مع كون الظاهر ان يقول وقد أفضيتم إليهن أو أفضى أحدكم إلى الآخر وهي إشارة إلى كون كل واحد من الزوجين بمنزلة جزء الآخر وبعضه المتمم لوجوده فكأن بعض الحقيقة كان منفصلا عن بعضها الآخر فوصل إليه بهذا الإفضاء واتحد به.
ثم قال: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) أي عهدا شديدا موثقا يربطكم بهن أقوى الربط وأحكمه. وقد روي عن قتادة وغيره أن هذا الميثاق هو ما أخذه الله للنساء على الرجال بقوله: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [البقرة: 229] قال وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال: الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان. وعن مجاهد أنه كلمة النكاح أي صيغة العقد التي حلت به المرأة للرجل وقال بعضهم: هو ما أمر الله تعالى به الرجال من معاشرتهن بالمعروف كما في الآية التي قبل هذه.
إن هذا الميثاق الذي أخذه النساء من الرجال لا بد أن يكون مناسبا لمعنى الإفضاء في كون كل منهما من شؤون الفطرة السليمة وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم: 21] فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمد عليه المرأة في ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والرضا بالاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء، فمن آيات الله تعالى في هذا الإنسان أن تقبل المرأة بالانفصال من أهلها ذوي الغيرة عليها لأجل الاتصال بالغريب تكون زوجا له ويكون زوجا لها تسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة والرحمة أقوى من كل ما يكون بين ذوي القربى، فكأنه يقول: إن المرأة لا تقدم على الزوجية وترضى بأن تترك جميع أنصارها وأحبائها لأجل زوجها إلا وهي واثقة بأن تكون صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، وهذا ميثاق فطري من أغلظ المواثيق وأشدها وإحكاما. وإنما يفقه هذا المعنى الإنسان الذي يحس إحساس الإنسانية، فليتأمل تلك الحالة التي ينشئها الله تعالى بين الرجل وامرأته يجد أن المرأة أضعف من الرجل وأنها تقبل عليه وتسلم نفسها إليه مع علمها بأنه قادر على هضم حقوقها فعلى أي شيء تعتمد في هذا الإقبال والتسليم؟ وما هو الضمان الذي تأخذه عليه والميثاق الذي تواثقه به؟ ماذا يقع في نفس المرأة إذا قيل لها إنك ستكونين زوجا لفلان؟ إن أول شيء يخطر في بالها عند سماع مثل هذا القول أو التفكر فيه وإن لم تسأل عنه هو أنها ستكون عنده على حال أفضل من حالها عند أبيها وأمها وما ذلك إلا لشيء استقر في فطرتها وراء الشهوة، ذلك الشيء هو عقل إلهي وشعور فطري أودع فيها ميلا إلى صلة مخصوصة لم تعهدها من قبل، وثقة مخصوصة لا تجدها في أحد من الأهل، وحنوا مخصوصا لا تجد له موضعا إلا البعل، فمجموع ذلك هو الميثاق الغليظ الذي أخذته من الرجل بمقتضى نظام الفطرة الذي يوثق به ما لا يوثق بالكلام الموثق بالعهود والإيمان، وبه تعتقد المرأة أنها بالزواج قد أقبلت على سعادة ليس وراءها سعادة في هذه الحياة وإن لم تر من رضيت به زوجا، ولم تسمع له من قبل كلاما، فهذا ما علمنا الله تعالى إياه وذكرنا به- وهو مركوز في أعماق نفوسنا بقوله إن النساء قد أخذن من الرجال بالزواج ميثاقا غليظا، فما هي قيمة من لا يفي بهذا الميثاق وما هي مكانته من الإنسانية؟ اه بتصرف ما.
وقد استدل بعض الناس بالآيتين (20-21) على منع الخلع- وهو بضم الخاء- طلاق المرأة على عوض تبذله للرجل كأن تترك له ما كانت أخذت منه من صداق وغيره ولذلك قالوا إن ما هنا ناسخ لآية البقرة: (فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة: 129] وزعم آخرون أن تلك ناسخة لهذه وليس عند أحد الفريقين دليل على أن ما جعله ناسخا هو المتأخر، وإنما أعياهم الجمع بين الحكمين فحكموا بنسخ أحدهما بالآخر، وآية النسخ التنافي، ولا تنافي بين ما هنا وما في سورة البقرة كما علم من التفسير الذي شرحنا آنفا. وقد صرح المحققون بعدم النسخ في الموضعين وقالوا إن المحرم هنا هو أخذ شيء من مال المرأة بغير طيب نفس منها والمباح هناك ما افتدت به نفسها برضاها لتعذر الاتفاق بينها وبين زوجها.
واستدل بعضهم بذكر القنطار هنا على جواز التغالي في المهور والآية ليست نصا في جواز القنطار مهرا لجواز أن يكون إيتاء القنطار بوجوه متعددة كالهدايا والمنح ولكن روى سعيد بن منصور وأبو يعلى بسند جيد عن مسروق أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نهى على المنبر أن يزاد في الصداق على أربع مئة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت الله يقول: (وآتيتم إحداهن قنطارا) فقال "اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر!" ثم رجع فركب المنبر فقال "إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربع مئة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب" وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عند عبد الرزاق وابن المنذر أنه قال: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. وفي الموفقيات للزبير بن بكار عن عبد الله بن مصعب قال: قال عمر "لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية (أي من الفضة) فمن زاد أوقية جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة ما ذاك لك، قال ولم؟ قالت لأن الله يقول: (وآتيتم إحداهن قنطارا) الآية فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ". ونقول نعم إن الشريعة لم تحدد مقدار الصداق للمرأة بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم في الغنى والفقر فيعطي كل بحسب حاله، ولكن ورد في السنة الإرشاد إلى اليسر في ذلك وعده التغالي فيه، ومنه حديث" أن من خير النساء أيسرهن صداقا "رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وحديث" أن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها "رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عائشة. وفي معناهما حديثها عند هؤلاء" أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا "كذا رأيته في بعض كتب التفسير وهو في الجامع الصغير بلفظ" أيسرهن مؤنة "
هذا وإن التغالي في المهور قد صار من أسباب قلة الزواج لأنه يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به، وقلة الزواج تفضي إلى كثرة الزنا والفساد ويكون الغبن في ذلك على النساء أكثر، حتى إنه ربما ينتهي بالسنة الإلهية في الخلق المعبر عنها برد الفعل إلى أن يصير النساء في الإسلام هن اللواتي يعطين المهور للرجال ليتزوجوهن كما هي عادة النصارى. وإنك لترى هذه العادة الضارة متمكنة في بعض الناس تمكنا غريبا حتى إن أحدهم ليمتنع من تزويج ابنته للكفء الصالح الذي لا يطمع في مثله إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقا بمقامه من الصداق وقد يزوجها لمن لا يرضيه دينه ولا خلقه ولا يرجو لها الهناء عنده إذا هو أعطاه المقدار الكثير الذي يخيل إليه جهله أنه لائق بمقامه، وهكذا تتحكم العادات الضارة والتقاليد الفاسدة بالناس حتى يفسد عليهم نظام معيشتهم، وهم لجهلهم أو ضعف عزائمهم ينقادون لها صاغرين!.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} وبيان ذلك: أن الزوجة قبل عقد النكاح محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إلا بذلك المهر الذي يدفعه لها، فإذا دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك، والتي لم ترض ببذلها إلا بذلك العوض، فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه العوض.
فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض؟ هذا من أعظم الظلم والجور، وكذلك أخذ الله على الأزواج ميثاقا غليظا بالعقد، والقيام بحقوقها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وقد أفضى بعضكم إلى بعض).. فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير، ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف! ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملا آخر، من لون آخر: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا).. هو ميثاق النكاح، باسم الله، وعلى سنة الله.. وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن؛ وهو يخاطب الذين آمنوا، ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا، هو النص الأول الموبخ، والنص الثاني هو قوله تعالى:
{وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم على بعض وأخذن منه ميثاقا غليظا} الإفضاء معناه الخلوص، أي يخلص كل واحد الآخر، وفسر بأنه الخلوة بين الرجل وزوجه ليس معهما احد؛ لأن الفضاء هو الذي يكون بينهما. والاستنكار هنا للحال الواقعة، فالأول كان استنكارا لذات الأخذ، وهنا الاستنكار لما أحاط بالأخذ من أحوال. والمؤدى أن الأخذ عند إرادة الاستبدال امر مستنكر في ذاته، ثم هو مستنكر لأجل الأحوال التي كانت بين الزوجين. وقد ذكر سبحانه وتعالى سببين للاستنكار: أحدهما –الإفضاء وخلوص زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة. وثانيهما – الميثاق الغليظ أي الشديد القوي الثابت الذي هو عهد ثقيل لا يصح منه التخلص. وذلك الميثاق، هو الارتباط بين الزوجين أمدا صارت فيه نفس كل واحد قطعة من الآخر، وهو أمر الله تعالى إذ يقول: {...فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان...229} [البقرة]، وليس الأخذ من التسريح بإحسان، وهو المودة التي تظل بين الزوجين في مدة الحياة الزوجية التي صورها الله سبحانه وتعالى: {ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون21} [الروم].
هذا، وقبل نختم الكلام في هذه الآيات نقرر أمرين:
أحدهما – أن الرجل في افتراقه عن زوجه لا يحل له دينا أن يأخذ منها شيئا إذا كان النشوز من جانبه، ولا يحل أن يأخذ أكثر مما أعطى إذا كان النشوز من جانبها، وما أخذ في غير ذلك يكون كسبا خبيثا، وقد اتفق على ذلك العلماء.
ثانيهما – أن قوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا} تدل على انه ليس للمهر حد أعلى، وقد استدلت بذلك امرأة أمام أمير المؤمنين عمر عندما قال: (ألا تغالوا في صدقات النساء، فلها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى اله عليه وسلم؛ ما أمهر قط امرأة من بناته ولا نسائه فوق اثنتي عشرة أوقية). وجعل رضي الله عنه ذلك حدا أعلى، فقالت امرأة (يعطينا الله وتحرمنا)، وتلك الآية، فقال الإمام العادل: (اخطأ عمر وأصابت امرأة)، ولكن عمر كان ينظر بنور الله وروح الإسلام، فإن اخطأ في الحد بمقدار، فإنه لم يخطئ في منع المغالاة في المهور، ولله عاقبة الأمور.