{ فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد ، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا { اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل " وجدها ، أو سرقها أخوه " مراعاة للحقيقة الواقعة .
فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده ، على وجه لا يشعر به إخوته ، قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } أي : يسرنا له هذا الكيد ، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق ، وإنما له عندهم ، جزاء آخر ، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك ، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده ، ولكنه جعل الحكم منهم ، ليتم له ما أراد .
قال تعالى : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع ، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها ، كما رفعنا درجات يوسف ، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } فكل عالم ، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة .
كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف . فأمر بالتفتيش . وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه . كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش :
( فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ) !
ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم ، الحالفين ، المتحدين . . فلا يذكر شيئا عن هذا ، بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته . . بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة ، ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه :
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق .
( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . .
فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه ، إنما كان يعاقب السارق على سرقته ، دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم . وهذا هو تدبير الله الدي ألهم يوسف أسبابه . وهو كيد الله له . والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء . وإن كان الشر قد غلب عليه . وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه . وهو سوء - ولو مؤقتا - لأبيه . فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره . وهو من دقائق التعبير .
( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . . ( إلا أن يشاء الله ) . .
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه .
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة :
وإلى ما ناله من علم ، مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى :
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق :
( كذلك كدنا ليوسف . . ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . . . ) . .
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة " الدين " - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا . . إنه يعني : نظام الملك وشرعه . . فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته . إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه . وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم ؛ فطبقها يوسف عليهم عندما وجد صواع الملك في رحل أخيه . . وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها " الدين " . .
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا . سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين !
إنهم يقصرون مدلول " الدين " على الاعتقاد والشعائر . . ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ ويؤدي الشعائر المكتوبة . . . داخلا في " دين الله " مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
الأرض . . بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول " دين الملك " بانه نظام الملك وشريعته . وكذلك " دين الله " فهو نظامه وشريعته . .
إن مدلول " دين الله " قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر . . ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
لقد كان يعني دائما : الدينونة لله وحده ؛ بالتزام ما شرعه ، ورفض ما يشرعه غيره . وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء ؛ وتقرير ربوبيته وحده للناس : أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره . وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين " الله " ومن هم في " دين الملك " أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده ، وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه . أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر ، ويدينون لغير الله في النظام والشرائع !
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة ، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما .
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة " دين الله " وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي " الدين " . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين !
وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين !
إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها . فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها ؟ وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها ؟
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة ، أو يخفف عنهم العذاب فيها ؛ ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها . . ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله ، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل . وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض !
إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم . . إنه ليس دين الله قطعا . فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة . فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في " دين الله " . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في " دين الملك " . ولا جدال في هذا .
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين . لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية . والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به . إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة . . وهذه بديهية . .
وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين الله - ونتلمس لهم المعاذير ، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده ! . .
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول " دين الله " ليدخلوا فيه . . أو يرفضوه . .
هذا خير لنا وللناس أيضا . . خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين ، الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة . . وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملكلا في دين الله - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام ، ومن دين الملك إلى دين الله !
كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان . .
{ فبدأ بأوعيتهم } فبدأ المؤذن . وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر . { قبل وعاء أخيه } بنيامين نفيا للتهمة . { ثم استخرجها } أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث . { من وعاء أخيه } وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة . { كذلك } مثل ذلك الكيد . { كدنا ليوسف } بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه . { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد . { إلا أن يشاء الله } أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك ، فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه . { نرفع درجات من نشاء } بالعلم كما رفعنا درجته . { وفوق كل ذي علم عليم } أرفع درجة منه ، واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه . والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ، ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص .
{ بدأ } أي أمر يوسف عليه السلام بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبلَ وعاء أخيه الشقيق .
وأوعية : جمع وعاء ، وهو الظرف ، . مشتق من الوعي وهو الحفظ . والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يُوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر . وتأنيث ضمير { استخرجها } للسقاية . وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعاً . فهو كردّ العجز على الصدر .
والقول في { كذلك كدنا ليوسف } كالقول في { كذلك نجزي الظالمين } [ سورة يوسف : 75 ] .
والكَيْد : فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي . والكيد : هنا هو إلهام يوسف عليه السلام لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المُصْمَت .
وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه . وجعل الكيد لأجل يوسف عليه السلام لأنه لفائدته .
وجملة { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مَرغوب يوسف عليه السلام من إبقاء أخيه عنده ، ولولا ذلك لمَا كانت شريعة القبط تخوله ذلك ، فقد قيل : إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته . وعن مجاهد { في دين الملك } أي حكمه وهو استرقاق السراق . وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لولا حيلة وضع الصُّواع في متاع أخيه . ولعل ذلك كان حكماً شائعاً في كثير من الأمم ، ألا ترى إلى قولهم : { من وجد في رحله فهو جزاؤه } [ سورة يوسف : 75 ] كما تقدم ، أي أن ملك مصر كان عادلاً فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق . ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين ، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان .
ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف عليه السلام أخذ أخيه عنده .
والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية . وفي الكلام حرف جر محذوف قبل { أن } المصدرية ، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ ، أي أسبابه . فالتقدير : إلا بأن يشاء الله ، أي يُلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف عليه السلام في عَمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم .
وجملة { نرفع درجات من نشاء } تذييل لقصة أخذ يوسف عليه السلام أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف عليه السلام في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله . ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف عليه السلام في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه .
ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف عليه السلام وحنوه عليهم . فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول . وتقدم في قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } في سورة البقرة ( 228 ) ، وقوله : { لهم درجات عند ربهم } في سورة الأنفال ( 4 ) .
وجملة وفوق كل ذي علم عليم } تذييل ثان لجملة { كذلك كدنا ليوسف } الآية .
وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه ، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس .
والفوقية مجاز في شرف الحال ، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع .
وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف { عليم } باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه .
وظاهر تنكير { عليم } أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى . فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه . ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم .
وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم ، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص .
وقرأ الجمهور { درجات من نشاء } بإضافة { درجات } إلى { من نشاء } . وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف بتنوين { درجاتٍ } على أنه تمييز لتعلق فعل { نرفع } بمفعوله وهو { من نشاء } .