ثم ذكر وصفهم فقال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } أي : يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات ، التي يكون تركها من كبائر الذنوب ، ويتركون المحرمات الكبار ، كالزنا ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، والقتل ، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة ، { إِلَّا اللَّمَمَ } وهي الذنوب الصغار ، التي لا يصر صاحبها عليها ، أو التي يلم بها العبد ، المرة بعد المرة ، على وجه الندرة والقلة ، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين ، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء ، ولهذا قال : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد ، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر " [ وقوله : ] { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي : هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها ، وما جبلكم عليه ، من الضعف والخور ، عن كثير مما أمركم الله به ، ومن كثرة الدواعي إلى بعض{[902]} المحرمات ، وكثرة الجواذب إليها ، وعدم الموانع القوية ، والضعف موجود مشاهد منكم حين أنشاكم{[903]} الله من الأرض ، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم ، ولم يزل موجودا فيكم ، وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به ، ولكن الضعف لم يزل ، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه ، ناسبت الحكمة الإلهية والجود الرباني ، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه ، ويغمركم بإحسانه ، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم ، خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات ، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات ، وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند مولاه ، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة ، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين{[904]} أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، فلا بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيبا ، ولهذا قال تعالى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح{[905]} .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ فإن التقوى ، محلها القلب ، والله هو المطلع عليه ، المجازي على ما فيه من بر وتقوى ، وأما الناس ، فلا يغنون عنكم من الله شيئا ] .
ثم يحدد الذين أحسنوا هؤلاء ، والذين يجزيهم بالحسنى . . فهم :
( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا اللمم ) . .
وكبائر الإثم هي كبار المعاصي . والفواحش كل ما عظم من الذنب وفحش . واللمم تختلف الأقوال فيه . فابن كثير يقول : وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغار الذنوب ومحقرات الأعمال . قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة . فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن ثور ، حدثنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال : زنا العين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي . ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه . فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم . وكذا قال مسروق والشعبي .
وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي ، قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : إلا اللمم قال : القبلة والنظرة والغمزة والمباشرة . فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل . وهو الزنا .
فهذه أقوال متقاربة في تعريف اللمم .
قال علي بن طلحة عن ابن عباس : إلا اللمم إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن منصور ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الآية : إلا اللمم قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه .
وقال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . . قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب . وقال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ?
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل . ثم قال : هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيع . حدثنا يزيد بن زريع . حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - [ اراه رفعه ] في ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . قال : اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود . واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود . واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود . قال : فذلك الإلمام . .
وروي مثل هذا موقوفا على الحسن .
فهذه طائفة أخرى من الأقوال تحدد معنى اللمم تحديدا غير الأول .
والذي نراه أن هذا القول الأخير أكثر تناسبا مع قوله تعالى بعد ذلك : ( إن ربك واسع المغفرة ) . . فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش ، ثم التوبة . ويكون الاستثناء غير منقطع . ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعا ولا يلجوا ولا يصروا . كما قال الله سبحانه : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وسمى هؤلاء [ المتقين ] ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض . . فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة .
وختم الآية بأن هذا الجزاء بالسوءى وبالحسنى مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس في أطوارهم كلها .
( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) . .
فهو العلم السابق على ظاهر أعمالهم . العلم المتعلق بحقيقتهم الثابتة ، التي لا يعلمونها هم ، ولا يعرفها إلا الذي خلقهم . علم كان وهو ينشيء أصلهم من الأرض وهم بعد في عالم الغيب . وكان وهم أجنة في بطون أمهاتهم لم يروا النور بعد . علم بالحقيقة قبل الظاهر . وبالطبيعة قبل العمل .
ومن كانت هذه طبيعة علمه يكون من اللغو - بل من سوء الأدب - أن يعرفه إنسان بنفسه ، وأن يعلمه - سبحانه - بحقيقته ! وأن يثني على نفسه أمامه يقول له : أنا كذا وأنا كذا :
( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) . .
فما هو بحاجة إلى أن تدلوه على أنفسكم ، ولا أن تزنوا له أعمالكم ؛ فعنده العلم الكامل . وعنده الميزان الدقيق . وجزاؤه العدل . وقوله الفصل . وإليه يرجع الأمر كله .
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم } ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه . وقيل ما أوجب الحد . وقرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإثم على إرادة الجنس أو الشرك . { والفواحش } ما فحش من الكبائر خصوصا . { إلا اللمم } إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر ، والاستثناء منقطع ومحل { الذين } النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف . { إن ربك واسع المغفرة } حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى . { هو أعلم بكم } أعلم بأحوالكم منكم . { إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام . { فلا تزكوا أنفسكم } فلا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير ، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل . { هو أعلم بمن اتقى } فإنه يعلم التقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام .
قوله : { الذين } نعت ل { الذين } [ النجم : 31 ] المتقدم قبله ، و : { يجتنبون } معناه : يدعون جانباً . وقرأ جمهور القراء والناس : «كبائر الإثم » وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وحمزة والكسائي : «كبير الإثم » على الإفراد الذي يراد به الجمع وهذا كقوله : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }{[10710]} [ الشعراء : 100 ] ، وكقوله : { وحسن أولئك رفيقاً }{[10711]} [ النساء : 69 ] ونحو هذا .
واختلف الناس في الكبائر ما هي ؟ فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في الأحاديث وقد مضى القول في ذكرها واختلاف الأحاديث فيها في سورة النساء . وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا ، أو توعد بنار في الآخرة ، أو لعنة ونحو هذا خاصاً بها فهي كثيرة العدد ، ولهذا قال ابن عباس حين قيل له أسبع هي ؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وقال زيد بن أسلم : «كبير الإثم » هنا يراد به : الكفر . و { الفواحش } هي المعاصي المذكورة .
وقوله : { إلا اللمم } هو استثناء يصح أن يكون متصلاً ، وإن قدرته منقطعاً ساغ ذلك ، واختلف في معنى { اللمم } فقال ابن عباس وابن زيد معناه : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام . قال الثعلبي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : إن سبب الآية أن الكفار قالوا للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت الآية وهي مثل قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف }{[10712]} [ النساء : 23 ] وقال ابن عباس وغيره : ما ألموا من المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه ، ذكر الطبري عن الحسن أنه قال في اللمة : من الزنا والسرقة والخمر ثم لا يعود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كالذي قبله ، فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى ، إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي ، وعلى هذا أنشدوا وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم : [ الرجز ]
إن تغفر اللهم تغفر جما*** وأي عبد لك لا ألما{[10713]}
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي وغيرهم : { اللمم } صغار الذنوب التي بين الحدين الدنيا والآخرة وهي ما لا حد فيه ولا وعيد مختصاً بها مذكوراً لها ، وإنما يقال صغار بالإضافة إلى غيرها ، وإلا فهي بالإضافة إلى الناهي عنها كبائر كلها ، ويعضد هذا القول ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فإن تقدم فرجه فهو زان ، وإلا فهو اللمم »{[10714]} وروي أن هذه الآية نزلت في نبهان التمار{[10715]} فالناس لا يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر ولهم مع ذلك الحسنى إذا اجتنبوا التي هي في نفسها كبائر .
وتظاهر العلماء في هذا القول ، وكثر المائل إليه . وذكر الطبري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال : { اللمم } ما دون الشرك ، وهذا عندي لا يصح عن عبد الله بن عمرو . وذكر المهدوي عن ابن عباس والشعبي : { اللمم } ما دون الزنا . وقال نفطويه : { اللمم } ما ليس بمعتاد . وقال الرماني : { اللمم } الهم بالذنب وحديث النفس به دون أن يواقع . وحكى الثعلبي عن سعيد بن المسيب : أنه ما خطر على القلب ، وذلك هو لمة الشيطان . قال الزهراوي وقيل : { اللمم } نظرة الفجأة ، وقاله الحسين بن الفضل . ثم أنس تعالى بعد هذا بقوله : { إن ربك واسع المغفرة } .
وقوله تعالى : { هو أعلم بكم } الآية ، روي عن عائشة أنها نزلت بسبب قوم من اليهود كانوا يعظمون أنفسهم ويقولون للطفل إذا مات لهم هذا صديق عند الله ، ونحو هذا من الأقاويل المتوهمة ، فنزلت الآية فيهم{[10716]} ، ثم هي بالمعنى عامة جميع البشر ، وحكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، وقوله : { أعلم بكم } قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه : هو عالم بكم . وقال جمهور أهل المعاني : بل هو التفضيل بالإطلاق ، أي هو أعلم من الموجودين جملة ، والعامل في { إذ } { أعلم } ، وقال بعض النحاة العامل فيه فعل مضمر تقديره : اذكروا إذ ، والمعنى الأول أبين ، لأن تقديره : فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى أن يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون ، والإنشاء من الأرض : يراد به خلق آدم عليه السلام ، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء . و : { أجنة } جمع جنين .
وقوله : { فلا تزكوا أنفسكم } ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه ، ويحتمل أن يكون نهياً عن أن يزكي بعض الناس بعضاً وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية ، ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته{[10717]} . وأما تزكية الإمام والقدرة أحداً ليؤتم به أوليتهم الناس بالخير فجائز ، وقد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أبا بكر وغيره ، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها ، وأصل التزكية إنما هو التقوى ، والله تعالى هو أعلم بتقوى الناس منكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت المتقين. فقال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم} يعني كل ذنب يختم بالنار {والفواحش} يعني كل ذنب فيه حد {إلا اللمم} يعني ما بين الحدين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلِلّهِ "مُلك "ما في السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ" من شيء، وهو يضلّ من يشاء، وهو أعلم بهم "لِيَجْزِيَ الّذِينَ أساءُوا بِمَا عَمِلُوا" يقول: ليجزي الذين عَصَوْه من خلقه، فأساءوا بمعصيتهم إياه، فيثيبهم بها النار "وَيجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بالحُسْنَى" يقول: وليجزيَ الذين أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة، فيثيبهم بها.
وقيل: عُنِي بذلك أهل الشرك والإيمان. وقوله: "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ" يقول: الذين يبتعدون عن كبائر الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها، وذلك الشرك بالله، وما قد بيّناه في قوله: "إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نَكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ".
وقوله: "وَالفَواحِشَ" وهي الزنا وما أشبهه، مما أوجب الله فيه حدّا.
وقوله: "إلاّ اللّمَمَ" اختلف أهل التأويل في معنى «إلا» في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: هي بمعنى الاستثناء المنقطع، وقالوا: معنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا اللمم الذي ألمّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام، فإن الله قد عفا لهم عنه، فلا يؤاخذهم به... وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل «إلا» في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك: لم يؤذن لهم في اللمم، وليس هو من الفواحش، ولا من كبائر الإثم، وقد يُستثنى الشيء من الشيء، وليس منه على ضمير قد كفّ عنه فمجازه، إلا أن يلمّ بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر... عن أبي الضحى، أن ابن مسعود قال: زنى العينين: النظر، وزنى الشفتين: التقبيل، وزنى اليدين: البطش، وزنى الرجلين: المشي، ويصدّق ذلك الفرْج أو يكذّبه، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللمم...
وقال آخرون: بل ذلك استثناء صحيح، ومعنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إلا أن يلمّ بها ثم يتوب...
وقال آخرون ممن وجه معنى «إلا» إلى الاستثناء المنقطع: اللمم: هو دون حدّ الدنيا وحدّ الآخرة، قد تجاوز الله عنه... عن ابن عباس، قوله: "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ" قال: كلّ شيء بين الحدّين، حدّ الدنيا وحدّ الآخرة، تكفّره الصلوات، وهو اللمم، وهو دون كل موجب فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حدّ الآخرة فكلّ شيء ختمه الله بالنار، وأخّر عقوبته إلى الآخرة...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال «إلا» بمعنى الاستثناء المنقطع، ووجّه معنى الكلام إلى "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ" بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فإن ذلك معفوّ لهم عنه، وذلك عندي نظير قوله جلّ ثناؤه: "إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَنُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما" فوعد جلّ ثناؤه باجتناب الكبائر، العفو عما دونها من السيئات، وهو اللمم الذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «العَيْنانِ تَزْنِيانِ، وَاليَدَانِ تَزْنِيانِ، وَالرّجْلانِ تَزْنِيانِ وَيُصَدّقُ ذلكَ الفَرْجُ أوْ يُكَذّبُهُ»، وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج، وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه، والله جلّ ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه، كما رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. واللمم في كلام العرب: المقاربة للشيء، ذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: ضربه ما لمم القتل، يريدون ضربا مقاربا للقتل. قال: وسمعت من آخر: ألمّ يفعل في معنى: كاد يفعل.
["إنّ رَبّكَ يا محمد وَاسِعُ المَغْفِرَةِ"] يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "إنّ رَبّكَ يا محمد وَاسِعُ المَغْفِرَةِ": واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم. وإنما أعلم جلّ ثناؤه بقوله هذا عباده أنه يغفر اللمم بما وصفنا من الذنوب لمن اجتنب كبائر الإثم والفواحش...
وقوله: "هُوَ أعْلَمُ بِكُمْ إذْ أنشأَكُمْ مِنَ الأرْضِ" يقول تعالى ذكره: ربكم أعلم بالمؤمن منكم من الكافر، والمحسن منكم من المسيء، والمطيع من العاصي، حين ابتدعكم من الأرض، فأحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها، وحين أنتم "أجنة في بطون أمهاتكم"، يقول: وحين أنتم حمل لم تولدوا منكم، وأنفسكم بعدما، صرتم رجالاً ونساء...
وقوله: "فَلا تُزَكّوا أنْفُسَكُمْ" يقول جل ثناؤه: فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصيّ...
وقوله: "هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَى" يقول جلّ ثناؤه: ربك يا محمد أعلم بمن خاف عقوبة الله فاجتنب معاصيه من عباده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم} ثم يحتمل أن تكون الكبائر ما يعرفها كل أحد أنها كبيرة، والفواحش ما يعرفها كل أحد أنها فاحشة، واللّمم على هذا يجيء أن تكون من تلك الكبائر والفواحش لأنه استثناها منها فيجب أن تكون من جنسها، لكنه استثناها، وعفا عنها، لما يقعون فيها عن غفلة وسهو أو عن غلبة شهوة ونحوها، وهو الأشبه بتأويل الآية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة...
{إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة} حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، والكبائر بالتوبة...
{والفواحش} ما فحش من الكبائر، كأنه قال: والفواحش منها خاصة ولا يخلو قوله تعالى: {إِلاَّ اللمم} من أن يكون استثناء منقطعاً أو صفة، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله} [الأنبياء: 22] كأنه قيل: كبائر الإثم غير اللمم، وآلهة غير الله.
{فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء: فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح لم يكن من المزكين أنفسهم، لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الذين} نعت ل {الذين} [النجم: 31] المتقدم قبله، و: {يجتنبون} معناه: يدعون جانباً. واختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في الأحاديث ....
...وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا، أو توعد بنار في الآخرة، أو لعنة ونحو هذا خاصاً بها فهي كثيرة العدد،وقال زيد بن أسلم: «كبير الإثم» هنا يراد به: الكفر.
وقوله: {أعلم بكم} قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه: هو عالم بكم. وقال جمهور أهل المعاني: بل هو التفضيل بالإطلاق، أي هو أعلم من الموجودين جملة...
.فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى أن يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون، والإنشاء من الأرض: يراد به خلق آدم عليه السلام، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء.وقوله: {فلا تزكوا أنفسكم} ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه، ويحتمل أن يكون نهياً عن أن يزكي بعض الناس بعضاً وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية...
{الذين يجتنبون} أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة وقدموا عليها أخرى.
المسألة الثانية: الكبائر جمع كبيرة وهي صفة فما الموصوف؟ نقول: هي صفة الفعلة كأنه يقول: الفعلات الكبائر من الإثم.
المسألة الثالثة: إذا ذكر الكبائر فما الفواحش بعدها؟ نقول: الكبائر إشارة إلى ما فيها من مقدار السيئة، والفواحش إشارة إلى ما فيها من وصف القبح كأنه قال: عظيمة المقادير قبيحة الصور، والفاحش في اللغة مختص بالقبيح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التقاليب يدل عليه فإنك إذا قلبتها وقلت: حشف كان فيه معنى الرداءة الخارجة عن الحد، ويقال: فشحت الناقة إذا وقفت على هيئة مخصوصة للبول فالفحش يلازمه القبح، ولهذا لم يقل: الفواحش من الإثم وقال في الكبائر: {كبائر الإثم} لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة إلى الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش. المسألة الخامسة: في اللمم وفيه أقوال: (أحدها) ما يقصده المؤمن ولا يحققه وهو على هذا القول من لم يلم إذا جمع فكأنه جمع عزمه وأجمع عليه (وثانيها): ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال وهو من اللمم الذي هو مس من الجنون كأنه مسه وفارقه...
.والمغفرة من الستر، وهو لا يكون إلا على قبيح، وكل من خلقه الله إذا نظرت في فعله، ونسبته إلى نعم الله تجده مقصرا مسيئا، فإن من جازى المنعم بنعم لا تحصى مع استغنائه الظاهر، وعظمته الواضحة بدرهم أو أقل منه يحتاج إلى ستر ما فعله...
{هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}...ليس عملكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم، والله عالم بتلك الأحوال (ثانيها): هو إشارة إلى الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله، فإن الحق علم أحوالهم وهم في بطون الأمهات، فكتب على البعض أنه ضال، والبعض أنه مهتد (ثالثها): تأكيد وبيان للجزاء، وذلك لأنه لما قال: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} قال الكافرون: هذا الجزاء لا يتحقق إلا بالحشر، وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط غير ممكن، فقال تعالى: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم} فيجمعها بقدرته على وفق علمه كما أنشأكم.
المسألة السادسة: الخطاب مع من؟ فيه ثلاثة احتمالات؛
(الأول): مع الكفار، وهذا على قولنا إنهم قالوا كيف يعلمه الله، فرد عليهم قولهم.
(الثاني) كل من كان زمان الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار.
.هو أعلم بكم أيها المؤمنون، علم ما لكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم، فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء، ولا تقولوا لآخر أنا خير منك وأنا أزكى منك وأتقى، فإن الأمر عند الله، ووجه آخر وهو إشارة إلى وجوب الخوف من العاقبة، أي لا تقطعوا بخلاصكم أيها المؤمنون، فإن الله يعلم عاقبة من يكون على التقي، وهذا يؤيد قول من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله للصرف إلى العاقبة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والفواحش} والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسّه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إن ربك واسع المغفرة} أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإِثم والفواحش، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات، وذلك جامع التقوى... فالاستثناء بمعنى الاستدراك. ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر منها في الدين، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإِثم فلذلك حق الاستدراك، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة: أما العامة فلكي لا يعامِل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يَفل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم، ولينصرف اهتمامه إلى تجنب الكبائر. فهذا الاستدراك بشارة لهم، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم... وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر بالكبائر. فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة. سمي: اللمم، وهو اسم مصدر أَلمَّ بالمكان إلماماً إذا حلّ به والواسع: الكثير المغفرة، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحلّ فيه...
والمعنى: لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولاً تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها، أو إظهارها للناس... وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخِبرة واتهام القرائن والبوارق...
أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها...
فمن صفات الذين أحسنوا أنهم {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ..} أي: يتركون بالكلية الكبائر من الذنوب ولا يقتربون من هذه المنطقة المحرمة {إِلاَّ ٱللَّمَمَ..} وهو صغائر الذنوب.
فكأنَّ الله تعالى من رحمته بخلقه تكفّل لنا بالصغائر أنْ يمحوها، وجعل لها ممحاة تزيلها وهي الصلوات الخمس، شريطة أنْ نجتنب الكبائر.
وفي الحديث: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَتْ الكبائر " فمَنْ فعل ذلك وسار على هذا المنهج كانت له الحسنى، وكان من أهل الإحسان.
إذن: الإثم والفواحش هي الذنوب الكبيرة التي توعَّد الله مرتكبيها، والفواحش ما فَحُش من الكبائر وعظم، وقد جعل الله له عقوبة وحَداً.
أما (اللمم) الذي استثناه الله وعفا عنه فهو لمم. يعني: صغائر هيِّنة لا يترتب عليها كبيرُ ضرر، وهذه أيضاً مشروطة بعدم الاجتراء عليها أو المبالغة فيها حتى تصير لك عادة.
وإذا عاملك الله تعالى بهذه المنطق فاستح منه سبحانه أنْ تتجرأ عليه ولو بالصغائر، لأن الصغيرة إذا أضيفت إلى الصغيرة وكان في الأمر مداومة وإصرار صارتْ كبيرة، ثم للعاقل أنْ ينظر في حَقِّ مَنْ هذه الصغيرة، إنها في حق الله، إذن: فاقصر.