تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

ثم قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحة ما جاء به ، فقال : { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول ، الرادين دعوته ، الزاعمين كذبه في شك واشتباه ، مما نزلنا على عبدنا ، هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف ، فيه الفيصلة بينكم وبينه ، وهو أنه بشر مثلكم ، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم{[67]}  وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ، لا يكتب ولا يقرأ ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله ، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه ، فإن كان الأمر كما تقولون ، فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم ، فإن هذا أمر يسير عليكم ، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة ، والعداوة العظيمة للرسول ، فإن جئتم بسورة من مثله ، فهو كما زعمتم ، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ، ولن تأتوا بسورة من مثله ، ولكن هذا التقييم{[68]}  على وجه الإنصاف والتنزل معكم ، فهذا آية كبرى ، ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به ، فيتعين عليكم اتباعه ، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] ، أن كانت وقودها الناس والحجارة ، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب ، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله . فاحذروا الكفر برسوله ، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله .

وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي ، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

وكيف يقدر المخلوق من تراب ، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب ؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه ، أن يأتي بكلام ككلام الكامل ، الذي له الكمال المطلق ، والغنى الواسع من كل الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ، ولا في قدرة الإنسان ، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام ، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ، ظهر له الفرق العظيم .

وفي قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره ، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة : [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال ، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق{[69]}  إن كان صادقا في طلب الحق .

وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه ، فهذا لا يمكن رجوعه ، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له ، لم يتركه عن جهل ، فلا حيلة فيه .

وكذلك الشاك غير الصادق{[70]}  في طلب الحق ، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه ، فهذا في الغالب أنه لا يوفق .

وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم ، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم ، قيامه بالعبودية ، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين .

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال ، فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }


[67]:- هكذا في أ، وفي ب: شطب قوله (بأفصحكم ولا بأعلمكم) وفي هامش النسخة بخط المؤلف جملة أخرى هي (من جنس آخر) فتكون الجملة هكذا (ليس من جنس آخر).
[68]:- هكذا وردت الكلمة في هامش أ، وهي ليست في ب، ويبدو أن المراد وهذا العرض.
[69]:- في ب: باتباعه.
[70]:- في ب: الذي ليس بصادق.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

1

ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي [ ص ] وكان المنافقون يرتابون فيها - كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها - فهنا يتحدى القرآن الجميع . إذ كان الخطاب إلى " الناس " جميعا . يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة :

( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) .

ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال . . يصف الرسول [ ص ] بالعبودية لله : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) . . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة : فهو أولا تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى ؛ دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك . وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية ، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده ، واطراح الأنداد كلها من دونه . فها هو ذا النبي في مقام الوحي - وهو أعلى مقام - يدعى بالعبودية لله ، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام .

أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة . . فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم ، فإن كانوا يرتابون في تنزيله ، فدونهم فليأتوا بسورة من مثله ؛ وليدعوا من يشهد لهم بهذا - من دون الله - فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة } لما قرر وحدانيته تعالى وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ، ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي بذت فصاحة كل منطق وإفحامه ، من طولب بمعارضته من مصاقع الخطباء من العرب العرباء مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة ، وتهالكهم على المعازة والمعارة ، وعرف ما يتعرف به إعجازه ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه . وإنما قال : { مما نزلنا } لأن نزوله نجما منجما بحسب الوقائع على ما ترى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم ، كما حكى الله عنهم فقال { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } . فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاما للحجة ، وأضاف العبد إلى نفسه تعالى تنويها بذكره ، وتنبيها على أنه مختص به منقاد لحكمه تعالى ، وقرئ " عبادنا " يريد محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته . والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات ، وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها ، أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السورة التي هي الرتبة ، قال النابغة :

ولرهط حراب وقد سورة *** في المجد ليس غرابها بمطار

لأن السور كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ ، أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة . وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشيء . والحكمة في تقطيع القرآن سورا : إفراد الأنواع ، وتلاحق الأشكال ، وتجاوب النظم ، وتنشيط القارئ وتسهيل الحفظ ، والترغيب فيه . فإنه إذا ختم سورة نفس ذلك عنه ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى بريدا ، والحافظ متى حذفها اعتقد أنه أخذ من القرآن حظا تاما ، وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها ، فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غير ذلك من الفوائد .

{ من مثله } صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا ، و{ من } للتبعيض أو للتبيين . وزائدة عند الأخفش أي بسورة مماثلة للقرآن العظيم في البلاغة وحسن النظم . أو لعبدنا ، و{ من } للابتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله عليه الصلاة والسلام من كونه بشرا أميا لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم . أو صلة { فأتوا } ، والضمير للعبد صلى الله عليه وسلم ، والرد إلى المنزل أوجه لأنه المطابق لقوله تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } ولسائر آيات التحدي ، ولأن الكلام فيه لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم ، ولأن مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جلدتهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أوتي به هذا آخر مثله ، ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } . ولأن رده إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ، ولا يلائمه قوله تعالى .

{ وادعوا شهداءكم من دون الله } فإنه أمر بأن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم . والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر ، أو الإمام . وكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور ، إذ التركيب للحضور إما بالذات أو بالتصور ، ومنه قيل : للمقتول في سبيل الله شهيد لأنه حضر ما كان يرجوه ، أو الملائكة حضروه . ومعنى { دون } أدنى مكان من الشيء ومنه تدوين الكتب ، لأنه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطي أمر إلى آخر ، قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين . قال أمية :

يا نفس مالك دون الله من واق *** . . .

أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره ، و{ من } متعلقة ب{ ادعوا } . والمعنى { وادعوا } للمعارضة من حضركم ، أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى ، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله . أو { وادعوا } من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ، ولا تستشهدوا بالله فإنه من ديدن المبهوت العاجز عن إقامة الحجة . أو ب{ شهدائكم } أي الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء وآلهة ، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة . أو الذين يشهدون لكم بين يدي الله تعالى على زعمكم من قول الأعشى :

تريك القذى من دونها وهي دونه *** . . .

ليعينوكم وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد في معارضة القرآن العزيز غاية التبكيت والتهكم بهم . وقيل : { من دون الله } أي من دون أوليائه ، يعني فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله ، فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده وبان اختلاله .

{ إن كنتم صادقين } أنه من كلام البشر ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله . والصدق : الإخبار المطابق ، وقيل : مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة ، لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم : { إنك لرسول الله } ، لما لم يعتقدوا مطابقته ، ورد بصرف التكذيب إلى قولهم { نشهد } ، لأن الشهادة إخبار عما علمه وهم ما كانوا عالمين به .