{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } أي : اذكرها بقلبك ولسانك ، وقم بواجبها شكرا لربك ، حيث أنعم عليك نعما ما أنعم بها على غيرك .
{ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي : إذ قويتك بالروح والوحي ، الذي طهرك وزكاك ، وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله . وقيل : إن المراد " بروح القدس " جبريل عليه السلام ، وأن الله أعانه به وبملازمته له ، وتثبيته في المواطن المشقة .
{ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا } المراد بالتكليم هنا ، غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام ، وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب ، وهو الدعوة إلى الله .
ولعيسى عليه السلام من ذلك ، ما لإخوانه من أولي العزم من المرسلين ، من التكليم في حال الكهولة ، بالرسالة والدعوة إلى الخير ، والنهي عن الشر ، وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد ، فقال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } الآية .
{ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالكتاب يشمل الكتب السابقة ، وخصوصا التوراة ، فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل -بعد موسى- بها . ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه .
والحكمة هي : معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه ، وحسن الدعوة والتعليم ، ومراعاة ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي .
{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } أي : طيرا مصورا لا روح فيه . فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وتبرئ الأكمه الذي لا بصر له ولا عين . { وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } فهذه آيات بيِّنَات ، ومعجزات باهرات ، يعجز عنها الأطباء وغيرهم ، أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته . { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به . { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهموا بعيسى أن يقتلوه ، وسعوا في ذلك ، فكفَّ الله أيديهم عنه ، وحفظه منهم وعصمه .
فهذه مِنَنٌ امتَنَّ الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، ودعاه إلى شكرها والقيام بها ، فقام بها عليه السلام أتم القيام ، وصبر كما صبر إخوانه من أولي العزم .
فأما سائر الرسل - غير عيسى عليه السلام - فقد صدق بهم من صدق ، وقد كفر بهم من كفر ؛ ولقد انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل ، الذي يدع العلم كله لله ، ويدع الأمر كله بين يديه . سبحانه . . فما يزيد السياق شيئا في هذا المشهد عنهم . . إنما يلتفت بالخطاب إلى عيسى بن مريم وحده ، لأن عيسى بن مريم هو الذي فتن قومه فيه ، وهو الذي غام الجو حوله بالشبهات ، وهو الذي خاض ناس في الأوهام والأساطير حول ذاته ، وحول صفاته ، وحول نشأته ومنتهاه .
يلتفت الخطاب إلى عيسى بن مريم - على الملأ ممن ألهوه وعبدوه وصاغوا حوله وحول أمه - مريم - التهاويل . . يلتفت إليه يذكره نعمة الله عليه وعلى والدته ؛ ويستعرض المعجزات التي آتاها الله إياه ليصدق الناس برسالته ، فكذبه من كذبه منهم أشد التكذيب وأقبحه ؛ وفتن به وبالآيات التي جاءت معه من فتن ؛ وألهوه مع الله من أجل هذه الآيات ، وهي كلها من صنع الله الذي خلقه وأرسله وأيده بالمعجزات :
( إذ قال الله : يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك . إذ أيدتك بروح القدس ، تكلم الناس في المهد وكهلا . وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل . وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ، فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني . وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني . وإذ تخرج الموتى بإذني . وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم : إن هذا إلا سحر مبين . وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، قالوا : آمنا واشهد بأننا مسلمون ) . .
إنها المواجهة بما كان من نعم الله على عيسى بن مريم وأمه . . من تأييده بروح القدس في مهده ، وهو يكلم الناس في غير موعد الكلام ؛ يبرى ء أمه من الشبهة التي أثارتها ولادته على غير مثال ؛ ثم وهو يكلمهم في الكهولة يدعوهم إلى الله . . وروح القدس جبريل - عليه السلام - يؤيده هنا وهناك . . ومن تعليمه الكتاب والحكمة ؛ وقد جاء إلى هذه الأرض لا يعلم شيئا ، فعلمه الكتابة وعلمه كيف يحسن تصريف الأمور ، كما علمه التوراة التي جاء فوجدها في بني إسرائيل ، والإنجيل الذي آتاه إياه مصدقا لما بين يديه من التوراة . ثم من إيتائه خارق المعجزات التي لا يقدر عليها بشر إلا بإذن الله . فإذا هو يصور من الطين كهيئة الطير بإذن الله ؛ فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله - لا ندري كيف لأننا لا ندري إلى اليوم كيف خلق الله الحياة ، وكيف يبث الحياة في الأحياء - وإذا هو يبرى ء المولود أعمى - بإذن الله - حيث لا يعرف الطب كيف يرد إليه البصر - ولكن الله الذي يهب البصر أصلا قادر على أن يفتح عينيه للنور - ويبرى ء الأبرص بإذن الله ، لا بدواء - والدواء وسيلة لتحقيق إذن الله في الشفاء ، وصاحب الإذن قادر على تغيير الوسيلة ، وعلى تحقيق الغاية بلا وسيلة - وإذا هو يحيي الموتى بإذن الله - وواهب الحياة أول مرة قادر على رجعها حين يشاء - ثم يذكره بنعمة الله عليه في حمايته من بني إسرائيل إذ جاءهم بهذه البينات كلها فكذبوه وزعموا أن معجزاته هذه الخارقة سحر مبين ! ذلك أنهم لم يستطيعوا إنكار وقوعها - وقد شهدتها الألوف - ولم يريدوا التسليم بدلالتها عنادا وكبرا . . حمايته منهم فلم يقتلوه - كما أرادوا ولم يصلبوه . بل توفاه الله ورفعه إليه . .
{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } بدل من يوم يجمع وهو على طريقة { ونادى أصحاب الجنة } والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة ، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة . أو نصب بإضمار اذكر . { إذ أيدتك } قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ " آيدتك " . { بروح القدس } بجبريل عليه الصلاة والسلام ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله : { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي كائنا في المهد وكهلا ، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء ، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم ، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتمل . { وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } سبق تفسيره في سورة " آل عمران " . وقرأ نافع ويعقوب " طائرا " ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر . { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } يعني اليهود حين هموا بقتله . { إذ جئتهم بالبينات } ظرف لكففت . { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين . وقرأ حمزة والكسائي إلا " ساحر " فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام .