{ 61 ْ } { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ }
يخبر تعالى عن منته على عباده ، وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ْ } أي : ليس على هؤلاء جناح ، في ترك الأمور الواجبة ، التي تتوقف على واحد منها ، وذلك كالجهاد ونحوه ، مما يتوقف على بصر الأعمى ، أو سلامة الأعرج ، أو صحة للمريض ، ولهذا المعنى العام الذي ذكرناه ، أطلق الكلام في ذلك ، ولم يقيد ، كما قيد قوله : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ } أي : حرج { أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ } أي : بيوت أولادكم ، وهذا موافق للحديث الثابت : " أنت ومالك لأبيك " والحديث الآخر : " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم " وليس المراد من قوله : { مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ } بيت الإنسان نفسه ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ، الذي ينزه عنه كلام الله ، ولأنه نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الإثم من هؤلاء المذكورين ، وأما بيت الإنسان نفسه فليس فيه أدنى توهم .
{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ ْ } وهؤلاء معروفون ، { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ْ } أي : البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة ، أو ولاية ونحو ذلك ، وأما تفسيرها بالمملوك ، فليس بوجيه ، لوجهين : أحدهما : أن المملوك لا يقال فيه " ملكت مفاتحه " بل يقال : " ما ملكتموه " أو " ما ملكت أيمانكم " لأنهم مالكون له جملة ، لا لمفاتحه فقط .
والثاني : أن بيوت المماليك ، غير خارجة عن بيت الإنسان نفسه ، لأن المملوك وما ملكه لسيده ، فلا وجه لنفي الحرج عنه .
{ أَوْ صَدِيقِكُمْ ْ } وهذا الحرج المنفي عن الأكل{[572]} من هذه البيوت كل ذلك ، إذا كان بدون إذن ، والحكمة فيه معلومة من السياق ، فإن هؤلاء المسمين{[573]} قد جرت العادة والعرف ، بالمسامحة في الأكل منها ، لأجل القرابة القريبة ، أو التصرف التام ، أو الصداقة ، فلو قدر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة والشح في الأكل المذكور ، لم يجز الأكل ، ولم يرتفع الحرج ، نظرا للحكمة والمعنى .
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ْ } فكل ذلك جائز ، أكل أهل البيت الواحد جميعا ، أو أكل كل واحد منهم وحده ، وهذا نفي للحرج ، لا نفي للفضيلة وإلا فالأفضل الاجتماع على الطعام .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا ْ } نكرة في سياق الشرط ، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره ، سواء كان في البيت ساكن أم لا ، فإذا دخلها الإنسان { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ } أي : فليسلم بعضكم على بعض ، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد ، من تواددهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت ، من غير فرق بين بيت وبيت ، والاستئذان تقدم أن فيه تفصيلا في أحكامه ، ثم مدح هذا السلام فقال : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ْ } أي : سلامكم بقولكم : " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " أو " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " إذ تدخلون البيوت ، { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ْ } أي : قد شرعها لكم ، وجعلها تحيتكم ، { مُبَارَكَةً ْ } لاشتمالها على السلامة من النقص ، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة ، { طَيِّبَةً ْ } لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله ، الذي فيه طيبة نفس للمحيا ، ومحبة وجلب مودة .
لما بين لنا هذه الأحكام الجليلة قال :
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ ْ } الدالات على أحكامه الشرعية وحكمها ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ } عنه فتفهمونها ، وتعقلونها بقلوبكم ، ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرزينة ، فإن معرفة أحكامه الشرعية على وجهها ، يزيد في العقل ، وينمو به اللب ، لكون معانيها أجل المعاني ، وآدابها أجل الآداب ، ولأن الجزاء من جنس العمل ، فكما استعمل عقله للعقل عن ربه ، وللتفكر في آياته التي دعاه إليها ، زاده من ذلك .
وفي هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية وهي : أن " العرف والعادة مخصص للألفاظ ، كتخصيص اللفظ للفظ " فإن الأصل ، أن الإنسان ممنوع من تناول طعام غيره ، مع أن الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء ، للعرف والعادة ، فكل مسألة تتوقف على الإذن من مالك الشيء ، إذا علم إذنه بالقول أو العرف ، جاز الإقدام عليه .
وفيها دليل على أن الأب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ، لأن الله سمى بيته بيتا للإنسان .
وفيها دليل على أن المتصرف في بيت الإنسان ، كزوجته ، وأخته ونحوهما ، يجوز لهما الأكل عادة ، وإطعام السائل المعتاد .
وفيها دليل ، على جواز المشاركة في الطعام ، سواء أكلوا مجتمعين ، أو متفرقين ، ولو أفضى ذلك إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض .
ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء :
ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ، ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ، أو بيوت آبائكم ، أو بيوت أمهاتكم ، أو بيوت أخوانكم ، أو بيوت أخواتكم ، أو بيوت أعمامكم ، أو بيوت عماتكم ، أو بيوت أخوالكم ، أو بيوت خالاتكم ؛ أو ما ملكتم مفاتحه ، أو صديقكم . ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا . فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ، تحية من عند الله مباركة طيبة . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون . .
روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة - دون استئذان - ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم . . الفقراء منهم . . فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن . ذلك حين نزلت : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )فقد كانت حساسيتهم مرهفة . فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه ، ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد . فأنزل الله هذه الآية ، ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج ، وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرى ء مسلم إلا بطيب نفس " .
ولآن الآية آية تشريع ، فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي ، والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول ( من بيوتكم )فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج ، فبيت الابن بيت لأبيه ، وبيت الزوج بيت لزوجته ، وتليها بيوت الآباء ، فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة ، فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام ، فبيوت العمات ، فبيوت الأخوال ، فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .
فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها ، بين الحالة التي يجوز عليها الأكل : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا )فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد ، وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات .
فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ) . . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح ، وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . .
وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة :
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ) . . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير . .
اختلف المفسرون - رحمهم الله - في المعنى الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا ، فقال عطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في الجهاد .
وجعلوا هذه الآية هاهنا كالتي في سورة الفتح{[21357]} وتلك في الجهاد لا محالة ، أي : أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد ؛ لضعفهم وعجزهم ، وكما قال تعالى في سورة براءة : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [ التوبة : 91 ، 92 ] .
وقيل : المراد [ هاهنا ]{[21358]} أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى ؛ لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات ، فربما سبقه غيره إلى ذلك . ولا مع الأعرج ؛ لأنه لا يتمكن من الجلوس ، فيفتات عليه جليسُه ، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره ، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم ، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك . وهذا قول سعيد بن جبير ، ومِقْسَم .
وقال الضحاك : كانوا قبل المبعث يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرًا وتَقَزُّزًا ، ولئلا يتفضلوا عليهم ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } الآية قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه ، أو بيت أخته ، أو بيت عمته ، أو بيت خالته . فكان الزَّمنى يتحرجون{[21359]} من ذلك ، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم{[21360]} . فنزلت هذه الآية رخصةً لهم{[21361]} .
وقال السُّدّي : كان الرجل يدخل بيت أبيه ، أو أخيه أو ابنه ، فتُتْحفه المرأة بالشيء من الطعام ، فلا يأكل من أجل أن رَبَّ البيت ليس ثَمّ . فقال الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } إلى قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
وقوله تعالى : { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } ، إنما ذَكَر هذا - وهو معلوم - ليعطفَ عليه غيره في اللفظ ، وليستأديه{[21362]} ما بعده في الحكم . وتضمن هذا بيوت الأبناء ؛ لأنه لم ينص عليهم . ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أنَّ مال الولد بمنزلة مال أبيه ، وقد جاء في المسند والسنن ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنت ومالك لأبيك " {[21363]} وقوله : { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } ، إلى قوله { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } ، هذا ظاهر . وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، كما هو مذهب[ الإمام ]{[21364]} أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل ، في المشهور عنهما .
وأما قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } فقال سعيد بن جُبَير ، والسُّدِّي : هو خادم الرجل من عبد وقَهْرَمان ، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف .
وقال الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدفعون مفاتحهم إلى ضُمَنائهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه . فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل ؛ إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم ، وإنما نحن أمناء . فأنزل الله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } .
وقوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي : بيوت أصدقائكم وأصحابكم ، فلا جناح عليكم في الأكل منها ، إذا علمتم أن ذلك لا يَشُقُّ عليهم ولا يكرهون ذلك .
وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه .
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : وذلك لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ النساء : 29 ] قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل من الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد . فكف الناسُ عن ذلك ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى }{[21365]} إلى قوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } {[21366]} ، وكانوا أيضًا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، حتى يكون معه غيره ، فرخص الله لهم في ذلك ، فقال : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
وقال قتادة : وكان هذا الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية ، حتى إن كان الرجلُ لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ، ومع الجماعة ، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك ، كما رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وَحْشيّ بن حَرْب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا نأكلُ ولا نشبَع . قال : " فلعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يُبَاركْ لكم فيه " .
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث الوليد بن مسلم ، به{[21367]} وقد رَوَى ابن ماجه أيضًا ، من حديث عمرو بن دينار القهرماني ، عن سالم ، عن أبيه ، عن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كلوا جميعًا ولا تَفَرّقُوا ؛ فإن البركة مع الجماعة " . {[21368]} وقوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } قال سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وقتادة ، والزهري : فليسلم بعضكم على بعض .
وقال ابن جُرَيْج : حدثنا أبو الزبير : سمعتُ جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلتَ على أهلك ، فسَلِّمْ عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة . قال : ما رأيته إلا يوجبه .
قال ابن جريج : وأخبرني زياد ، عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخلَ أحدكم بيته ، فليسلم .
قال ابن جُرَيْج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلِّم عليهم ؟ قال : لا ولا آثر وجوبه عن أحد ، ولكن هو أحبُّ إلي ، وما أدعه إلا نابيًا{[21369]} وقال مجاهد : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله . وإذا دخلت على أهلك فسلِّمْ عليهم ، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وروى الثوري ، عن عبد الكريم الجَزَريّ ، عن مجاهد : إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل : بسم الله ، والحمد لله ، السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وقال قتادة : [ إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ]{[21370]} فإنه كان يؤمر بذلك ، وحُدّثنا أن الملائكة ترد عليه . وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عَوْبَدُ بن أبي عمران الجوني ، عن أبيه ، عن أنس قال : أوصاني النبيّ{[21371]} صلى الله عليه وسلم بخمس خصال ، قال : " يا أنس ، أسبغ الوضوء يُزَد في عمرك ، وسَلّم على من لقيك من أمتي تكْثُر حسناتك ، وإذا دخلت - يعني : بيتك - فسلم على أهل بيتك ، يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضُّحى فإنها صلاة الأوابين قبلك . يا أنس ، ارحم الصغير ، ووقِّر الكبير ، تَكُنْ من رفقائي يوم القيامة " . {[21372]}
وقوله : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } قال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهدَ إلا من كتاب الله ، سمعت الله يقول : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } ، فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . ثم يدعو لنفسه ويسلم .
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن إسحاق .
والذي في صحيح مسلم ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا{[21373]} ، والله أعلم .
{ لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } .
اختلف في أن قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج } الخ منفصل عن قوله { ولا على أنفسكم } وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت ، أي فيكون من تمام آية الاستيذان ، أو هو متصل بما بعده في غرض واحد .
فقال بالأول الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان . وقال ابن عطية : إنه ظاهر الآية . وهو الذي نختاره تفادياً من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة ، ولأن في قوله : { أن تأكلوا من بيوتكم } إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض ، فتكون هذه الآية نفياً للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال ، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم ، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم . فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب ، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو . ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجِبهِ . ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجاً وإتماماً لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى .
وقال بالثاني جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عدّ هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية .
والجملة : على كلا الوجهين مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .
{ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } .
مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى ، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين ، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان لغرض الطعام فيها أو كان للزيارة ونحوها لاشتراك الكل في رفع الحرج ، وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور فاقتران الجميع في الحكم هو الرخصة للجميع في الأكل ، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا البيوت للأكل لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب وكان التكسب زمانئذٍ بعمل الأبدان فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم .
هذا أظهر الوجوه في توجيه عد هؤلاء الثلاثة مع من عطف عليهم . وقد ذكر المفسرون وجوهاً أخر أنهاها أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » إلى ثمانية ليس منها واحد ينثلج له الصدر .
وأعيد حرف ( لا ) مع المعطوف على المنفي قبله تأكيداً لمعنى النفي وهو استعمال كثير .
والمقصود بالأكل هنا الأكل بدون دعوة وذلك إذا كان الطعام محضراً دون المختزن .
والمراد بالأنفس ذوات المخاطبين بعلامات الخطاب فكأنه قيل : ولا عليكم جناح أن تأكلوا إلى آخره ، فالخطاب للأمة .
والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد ، أي أن يأكل أكلاً لا يشاركه فيه بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجه غائبة ، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها .
وعطف على بيوت أنفسهم بيوتُ آبائهم ، ولم يذكر بيوت أولادهم مع أنهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم . قيل : لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم ، ولا يصح ، فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتاً كما في خبر عبد الله بن عمر . فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم « أنت ومالك لأبيك » .
وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القرابة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالباً .
و ( ما ) في قوله : { ما ملكْتُم مفاتحه } موصولة صادقة على المكان أو الطعام ، عطف على { بيوت خالاتكم } لا على { أخوالكم } ولهذا جيء ب ( ما ) الغالب استعمالها في غير العاقل .
ومِلك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط . والمفاتح : جمع مَفْتح وهو اسم آلة الفتح . ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح .
وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل كل منهم مما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه وذلك للعرف بأن ذلك كالإجارة فلذلك قال الفقهاء : إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده .
و ( صديق ) هنا مراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين ، وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفاً أو خبراً في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل ، والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى : { فما لنا منْ شافعين ولا صديق حميم } [ الشعراء : 100 ، 101 ] ومثله الخليط والقطين .
والصديق : فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة . وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء . وسئل بعض الحكماء : أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : إنما أحب أخي إذا كان صديقي .
وأعيدت جملة : { ليس عليكم جُناح } تأكيداً للأولى في قوله : { ولا على أنفسكم } إذ الجناح والحرج كالمترادفين .
وحسّن هذا التأكيد بُعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله : { أن تأكلوا من بيوتكم } ، ولأجل كونها تأكيداً فصلت بلا عطف .
والأشتات : الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه ، قال تعالى : { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } [ الحشر : 14 ] .
والأشتات : جمع شَتّ ، وهو مصدر شتّ إذا تفرق . وأما شتّى فجمع شتيت .
والمعنى : لا جناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله ؛ أو أن يأكل وحده متفرقاً عن مشارك ، لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه ، أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت . أو أن يأكل وحده .
وتقدم قراءة { بيوت } بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم } في هذه السورة ( 27 ) .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الايات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكَّرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } [ النور : 27 ] لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنَّه قول الناس : إذا استوى الحب سقط الأدب .
ومعنى { فسلموا على أنفسكم } فليسلم بعضكم على بعض ، كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] .
ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب . وأما ما ورد في التشهد من قول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضاً عما كانوا يقولون : السلام على الله ، السلام على النبي ، السلام على جبريل ومكائيل ، السلام على فلان وفلان . فقال لهم رسول الله : « إن الله هو السلام ، إبطالاً لقولهم السلام على الله » ثم قال لهم : « قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض » .
وأما السلام في هذه الآية فهو التحية كما فسره بقوله : { تحية من عند الله مباركة طيبة } ولا يؤمر أحد بأن يسلم على نفسه .
والتحية : أصلها مصدر حيّاه تحية ثم أدغمت الياءان تخفيفاً وهي قول : حياك الله . وقد تقدم في قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } في سورة النساء ( 86 ) .
فالتحية مصدر فعل مشتق من الجملة المشتملة على فعل ( حيّا ) مثل قولهم : جزّاه . إذا قال له : جزاك الله خيراً ، كما تقدم في فعل { وتسلموا على أهلها } [ النور : 27 ] آنفاً .
وكان هذا اللفظ تحية العرب قبل الإسلام تحية العامة قال النابغة :
حيّاكِ ربي فإنا لا يحل لنا *** لهو النساء وإن الدين قد عزَما
وكانت تحية الملوك « عم صباحاً » فجعل الإسلام التحية كلمة « السلام عليكم » ، وهي جائية من الحنيفية { قالوا سلاماً قال سلام } [ هود : 69 ] وسماها تحية الإسلام ، وهي من جوامع الكلم لأن المقصود من التحية تأنيس الداخل بتأمينه إن كان لا يعرفه وباللطف له إن كان معروفاً .
ولفظ « السلام » يجمع المعنيين لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة وتأمين بالسلام لأنه إذا دعا له بالسلامة فهو مسالم له فكان الخبر كناية عن التأمين ، وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير لأن السلامة لا تجامع شيئاً من الشر في ذات السالم ، والأمان لا يجامع شيئاً من الشر يأتي من قِبل المعتدي فكانت دعاء ترجى إجابته وعهداً بالأمن يجب الوفاء به . وفي كلمة { عليكم } معنى التمكن ، أي السلامة مستقرة عليكم .
ولكون كلمة ( السلام ) جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله إذ هو الذي علّمها رسوله بالوحي .
وانتصب { تحية } على الحال من التسليم الذي يتضمنه { فسلّموا } نظير عود الضمير على المصدر في قوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
والمباركة : المجعولة فيها البركة . والبركة : وفرة الخير . وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية .
والطيِّبة : ذات الطيِّب ، وهو طِيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس ووجه طِيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة . ووزن { طيبة } فيعلة مبالغة في الوصف مثل : الفيصل . وتقدم في قوله تعالى : { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } في آل عمران ( 38 ) وفي قوله : { وجَرَيْن بِهِمْ بريح طيبة } في سورة يونس ( 22 ) .
والمعنى أن كلمة « السلام عليكم » تحية خيرٌ من تحية أهل الجاهلية . وهذا كقوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] أي تحيتهم هذا اللفظ .
وجملة { كذلك يبين الله لكم الآيات } تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بياناً لآيات القرآن اتضحت به الأحكام التي تضمنتها وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم والعلم بما فيه كمال شأنكم .