{ 99 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وهذا من أعظم مننه العظيمة ، التي يضطر إليها الخلق ، من الآدميين وغيرهم ، وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس إليه ، فأنبت الله به كل شيء ، مما يأكل الناس والأنعام ، فرتع الخلق بفضل الله ، وانبسطوا برزقه ، وفرحوا بإحسانه ، وزال عنهم الجدب واليأس والقحط ، ففرحت القلوب ، وأسفرت الوجوه ، وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم ، ما به يتمتعون وبه يرتعون ، مما يوجب لهم ، أن يبذلوا جهدهم في شكر من أسدى النعم ، وعبادته والإنابة إليه ، والمحبة له .
ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء ، من أنواع الأشجار والنبات ، ذكر الزرع والنخل ، لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لأكثر الناس فقال : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ } أي : من ذلك النبات الخضر ، { حَبًّا مُتَرَاكِبًا } بعضه فوق بعض ، من بر ، وشعير ، وذرة ، وأرز ، وغير ذلك ، من أصناف الزروع ، وفي وصفه بأنه متراكب ، إشارة إلى أن حبوبه متعددة ، وجميعها تستمد من مادة واحدة ، وهي لا تختلط ، بل هي متفرقة الحبوب ، مجتمعة الأصول ، وإشارة أيضا إلى كثرتها ، وشمول ريعها وغلتها ، ليبقى أصل البذر ، ويبقى بقية كثيرة للأكل والادخار .
{ وَمِنَ النَّخْلِ } أخرج الله { مِنْ طَلْعِهَا } وهو الكفرى ، والوعاء قبل ظهور القنو منه ، فيخرج من ذلك الوعاء { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } أي : قريبة سهلة التناول ، متدلية على من أرادها ، بحيث لا يعسر التناول من النخل وإن طالت ، فإنه يوجد فيها كرب ومراقي ، يسهل صعودها .
{ و } أخرج تعالى بالماء { جنات مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } فهذه من الأشجار الكثيرة النفع ، العظيمة الوقع ، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع الأشجار والنوابت .
وقوله { مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون ، أي : مشتبها في شجره وورقه ، غير متشابه في ثمره .
ويحتمل أن يرجع ذلك ، إلى سائر الأشجار والفواكه ، وأن بعضها مشتبه ، يشبه بعضه بعضا ، ويتقارب في بعض أوصافه ، وبعضها لا مشابهة بينه وبين غيره ، والكل ينتفع به العباد ، ويتفكهون ، ويقتاتون ، ويعتبرون ، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به ، فقال : { انْظُرُوا } نظر فكر واعتبار { إِلَى ثَمَرِهِ } أي : الأشجار كلها ، خصوصا : النخل { إذا أثمر }
{ وَيَنْعِهِ } أي : انظروا إليه ، وقت إطلاعه ، ووقت نضجه وإيناعه ، فإن في ذلك عبرا وآيات ، يستدل بها على رحمة الله ، وسعة إحسانه وجوده ، وكمال اقتداره وعنايته بعباده .
ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر ، أدرك المعنى المقصود ، ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقال : { إِنَّ فِي ذَلِكَم لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان ، على العمل بمقتضياته ولوازمه ، التي منها التفكر في آيات الله ، والاستنتاج منها ما يراد منها ، وما تدل عليه ، عقلا ، وفطرة ، وشرعا .
ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنيات الأرض . تراها الأعين ، وتستجليها الحواس ، وتتدبرها القلوب . وترى فيها بدائع صنع الله . . والسياق يعرضها - كما هي في صفحة الكون - ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها ، وشتى أشكالها ، وشتى أنواعها ؛ ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية ، ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة ؛ كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال :
( وهو الذي أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به نبات كل شيء . فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب والزيتون والرمان ، مشتبها وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه . إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) . .
والماء كثيرا ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات .
( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ) . .
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر ، ويعرفه الجاهل والعالم . . ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة . فقد شارك الماء ابتداء - بتقدير الله - في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات [ إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهبا ، ثم صلبا لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع ، ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة ] ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة ، وذلك بإسقاط [ النتروجين - الأزوت ] من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية ، التي تقع في الجو ، النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر ، ليعيد الخصوبة إلى الأرض . . وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه ، فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة ! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة !
( فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب . والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ) . .
وكل نبت يبدأ أخضر . واللفظ ( خضر ) أرق ضلا ، وأعمق ألفة من لفظ " أخضر " . . هذا النبت الخضر ( يخرج منه حبا متراكبًا ) . . كالسنابل وأمثالها . ( ومن النخل من طلعها قنوان دانية ) . . وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير . وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر . ولفظة ( قنوان ) ووصفها( دانية ) يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف . وظل المشهد كله ظل وديع حبيب . . ( وجنات من أعناب ) . . ( والزيتون والرمان ) . هذا النبات كله بفصائله وسلالاته – ( مشتبها وغير متشابه )- ( انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه ) . . انظروا بالحس البصير ، والقلب اليقظ . . انظروا إليه في ازدهاره ، وازدهائه ، عند كمال نضجه . انظروا إليه واستمتعوا بجماله . . لا يقول هنا ، كلوا من ثمره إذا أثمر ، ولكن يقول : ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ) لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع ، كما أنه مجال تدبر في آيات الله ، وبدائع صنعته في مجالي الحياة .
( إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) . .
فالإيمان هو الذي يفتح القلب ، وينير البصيرة ، وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة ، ويصل الكائن الإنساني بالوجود ، ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع . . وإلا فإن هناك قلوبا مغلقة ، وبصائر مطموسة ، وفطرا منتكسة ، تمر بهذا الإبداع كله ، وبهذه الآيات كلها ، فلا تحس بها ولا تستجيب . . ( إنما يستجيب الذين يسمعون ) ، وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون !
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي بقدر مباركًا ، رزقًا للعباد وغياثًا{[10988]} للخلائق ، رحمة من الله لخلقه { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } كَمَا قَالَ { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ]{ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا } أي : زرعًا وشجرًا أخضر ، ثم بعد ذلك يخلق فيه الحب والثمر ؛ ولهذا قال : { نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا } أي : يركب بعضه بعضا ، كالسنابل ونحوها { وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } أي : جمع قِنو وهي عُذُوق الرّطب { دَانِيَةٌ } أي : قريبة من المتناول ، كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي ، عن ابن عباس : { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } يعني بالقنوان الدانية : قصار النخل اللاصقة عذوقها{[10989]} بالأرض . رواه ابن جرير .
قال ابن جرير : وأهل الحجاز يقولون : قِنْوان ، وقيس يقولون : قُنْوان ، وقال امرؤ القيس :
فَأَثَّت أعاليه وآدت أصولهُ *** ومَالَ بقنْوانٍ من البُسر أحْمَرَا
قال : وتميم يقولون{[10990]} قُنْيَان بالياء - قال : وهي جمع قنو ، كما أن صنوان جمع صنو{[10991]}
وقوله : { وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ } أي : ونخرج منه جنات من أعناب ، وهذان النوعان هما أشرف عند أهل الحجاز ، وربما كانا{[10992]} خيار الثمار في الدنيا ، كما امتن تعالى بهما على عباده ، في قوله : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [ النحل : 67 ] ، وكان ذلك قبل تحريم الخمر .
وقال : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [ يس : 34 ] .
وقوله : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } قال قتادة وغيره : يتشابه في الورق ، قريب الشكل بعضه من بعض ، ويتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا .
وقوله : { انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } أي : نضجه ، قاله البراء بن عازب ، وابن عباس ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وغيرهم . أي : فكروا في قُدْرة خالقه من العدم إلى الوجود ، بعد أن كان حَطَبًا صار عِنبًا ورطبًا وغير ذلك ، مما خلق تعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح ، كما قال تعالى : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ [ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ]{[10993]} } [ الرعد : 4 ] ولهذا قال هاهنا { إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ } أي : دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون به ، ويتبعون رسله .
القول في صيغة القصر من قوله : { وهو الذي أنزل } إلخ كالقول في نظيره السّابق . و ( مِن ) في قوله : { مِن السّماء } ابتدائية لأنّ ماء المطر يتكوّن في طبقات الجوّ العُليا الزمهريرية عند تصاعد البخار الأرضي إليها فيصير البخار كثيفاً وهو السّحاب ثمّ يستحيل ماء . فالسّماء اسم لأعلى طبقات الجوّ حيث تتكوّن الأمطار . وتقدّم في قوله تعالى : { أو كَصيّب من السّماء } في سورة البقرة . وعُدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلّم في قوله : { فأخرجْنا } على طريقة الإلتفات . والباء للسّببيّة جَعل الله الماء سبباً لخروج النّبات ، والضّمير المجرور بالباء عائد إلى الماء .
والنّباتُ اسم لما يَنبت ، وهو اسم مصدر نَبَتَ ، سمّي به النّابت على طريقة المجاز الّذي صار حقيقة شائعة فصار النَّبات اسماً مشتركاً مع المصدر .
و { شيء } مراد به صِنف من النّبات بقرينة إضافة { نباتَ } إليه . والمعنى : فأخرجنا بالماء ما ينبت من أصناف النّبت . فإنّ النبت جنس له أنواع كثيرة ؛ فمنه زرع وهو ما له ساق ليّنة كالقَصَب ؛ ومنه شجر وهو ما له ساق غليظة كالنّخل ، والعنب ؛ ومنه نَجْم وأبّ وهو ما ينبت لاصِقاً بالتّراب ، وهذا التّعميم يشير إلى أنّها مختلفة الصّفات والثّمرات والطبائع والخصوصيات والمذاق ، وهي كلّها نابتة من ماء السّماء الّذي هو واحد ، وذلك آية على عظم القدرة ، قال تعالى : { تُسقَى بماء واحد ونُفضّل بعضَها على بعضضٍ في الأكل } [ الرعد : 4 ] وهو تنبيه للنّاس ليعتبروا بدقائق ما أودعه الله فيها من مختلف القوى الّتي سبّبتْ اختلاف أحوالها .
والفاء في قوله : { فأخرجنا به نبات كلّ شيء } فاء التّفريع .
وقوله : { فأخرجنا منه خضراً } تفصيل لمضمون جملة { فأخرجْنا به نبات كلّ شيء } ، فالفاء للتّفصيل ، و ( من ) ابتدائية أو تبعيضيّة ، والضّمير المجرور بها عائد إلى النّبات ، أي فكان من النبت خضر ونَخْل وجنّات وشجر ، وهذا تقسيم الجنس إلى أنواعه .
والخَضِر : الشّيء الّذي لونه أخضر ، يقال : أخْضر وخَضِر كما يقال : أعور وعَور ، ويطلق الخضر اسماً للنّبت الرّطب الّذي ليس بشجر كالقصيل والقضب . وفي الحديث : « وإنّ ممّا يُنبت الرّبيعُ لَمَا يَقْتُل حَبَطا أو يُلِمّ إلاّ آكِلَةَ الخَضِر أكلتْ حتّى إذا امتَدّتْ خاصرتاها » الحديث . وهذا هو المراد هنا لقوله في وصفه { نخرج منه حبّاً متراكباً } ، فإنّ الحبّ يخرج من النّبت الرّطب .
وجملة : { نخرج منه } صفة لقوله { خضرا } لأنّه صار اسماً ، و ( من ) اتِّصاليّة أو ابتدائيّة ، والضّمير المجرور بها عائد إلى { خَضِرا } .
والحَبّ : هو ثمر النّبات ، كالبُرّ والشّعير والزّراريع كلّها .
والمتراكب : الملتصق بعضه على بعض في السنبلة ، مثل القَمح وغيره ، والتّفاعل للمبالغة في ركوب بعضه بعضاً .
وجملة : { ومن النّخل من طلعها قنوان دانية } عطف على { فأخرجنا منه خضراً } . ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضيّة ، وقوله : { من النّخل } خبر مقدّم و { قنوان } مبتدأ مؤخّر .
والمقصود بالإخبار هنا التّعجيب من خروج القنوان من الطلع وما فيه من بهجةٍ ، وبهذا يظهر وجه تغيير أسلوب هذه الجملة عن أساليب ما قبلها وما بعدها إذ لم تعطف أجزاؤها عطف المفردات ، على أنّ موقع الجملة بين أخواتها يفيد ما أفادته أخواتها من العبرة والمنّة .
والتّعريف في { النّخل } تعريف العهد الجنسي ، وإنّما جيء بالتّعريف فيه للإشارة إلى أنّه الجنس المألوف المعهود للعرب ، فإنّ النّخل شجرهم وثَمره قُوتُهم وحوائطه منبَسَط نفوسهم ، ولك أن تجعله حالاً من { النّخل } اعتداداً بالتّعريف اللّفظي كقوله { والزّيتونَ والرّمَّان مشتبهاً } ، ويجوز أن يكون { من طلعها } بدل بعض من { النّخل } بإعادة حرف الجرّ الدّاخل على المبدل منه .
و { قِنوان } بكسر القاف جمع قِنو بكسر القاف أيضاً على المشهور فيه عند العرب غيرَ لغة قيس وأهل الحجاز فإنّهم يضمّون القاف . فقنوان بالكسر جمع تكسير . وهذه الصّيغة نادرة ، غير جمع فُعَل ( بضمّ ففتح ) وفُعْل ( بضمّ فسكون ) وفَعْل ( بفتح فسكون ) إذا كانا واويي العين وفُعال .
والقِنو : عرجون التّمر ، كالعنقود للعنب ، ويسمّى العِذق بكسر العين ويسمّى الكِبَاسة بكسر الكاف .
والطَّلْع : وعاء عرجون التّمر الّذي يبدو في أوّل خروجه يكون كشكل الأترُجَّة العظيمة مغلقاً على العرجون ، ثمّ ينفتح كصورة نعلين فيخرج منه العنقود مجتمعاً ، ويسمّى حينئذٍ الإغريض ، ثمّ يصير قِنوا .
و { دانية } قريبة . والمراد قريبة التّناول كقوله تعالى : { قطوفها دانية } [ الحاقة : 23 ] . والقنوان الدانية بعض قنوان النّخل خصّت بالذّكر هنا إدماجاً للمنّة في خلال التّذكير بإتّقان الصنعة فإنّ المنّة بالقنوان الدّانية أتمّ ، والدّانية هي الّتي تكون نخلتها قصيرة لم تتجاوز طول قامة المتناول ، ولا حاجة لذكر البعيدة التّناول لأنّ الذّكرى قد حصلت بالدّانية وزادت بالمنّة التّامّة .
و{ جنّاتٍ } بالنّصب عطف على { خِضرا } . وما نسب إلى أبي بكر عن عاصم من رفْع { جنّات } لم يصحّ .
وقوله : { من أعناب } تمييز مجرور ب { مِن } البيانيّة لأنّ الجنّات للأعناب بمنزلة المقادير كما يقال جريت تَمراً ، وبهذا الاعتبار عُدّي فعل الإخراج إلى الجنّات دون الأعناب ، فلم يقل وأعناباً في جنّات . والأعناب جمع عِنَب ، وهو جمع عِنَبَة ، وهو في الأصل ثمر شجر الكَرْم . ويطلق على شجرة الكرم عِنب على تقدير مضاف ، أي شجرة عنب ، وشاع ذلك فتنوسي المضاف . قال الرّاغب : « العِنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه » اه . ولا يعرف إطلاق المفرد على شجرة الكرم ، فلم أر في كلامهم إطلاق العنبة بالإفراد على شجرة الكرم ولكن يطلق بالجمع ، يقال : عنب ، مراد به الكرم ، كما في قوله تعالى : { فأنبتنا فيها حَبّاً وعنباً } [ عبس : 27 ، 28 ] ، ويقال : أعناب كذلك ، كما هنا ، وظاهر كلام الرّاغب أنّه يقال : عِنبة لشجرة الكرم ، فإنّه قال : « العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه الواحدة عنبة » .
{ والزّيتون والرمّان } بالنّصب عطف على { جنّات } والتّعريف فيهما الجنس كالتّعريف في قوله : { ومن النّخل } .
والمراد بالزّيتون والرمّان شجرهما . وهما في الأصل اسمان للثمرتين ثمّ أطلقا على شجرتيهما كما تقدّم في الأعناب . وهاتان الشّجرتان وإن لم تكونا مثل النّخل في الأهميّة عند العرب إلاّ أنّهما لعزّة وجودهما في بلاد العرب ولتنافس العرب في التّفكّه بثمرهما والإعجاب باقتنائهما ذُكرا في مقام التّذكير بعجيب صنع الله تعالى ومنّته . وكانت شجرة الزّيتون موجودة بالشّام وفي سينا ، وشجرة الرمّان موجودة بالطّائف .
وقوله : { مشتبهاً وغير متشابه } حال ومعطوف عليه ، والواو للتّقسيم بقرينة أنّ الشيء الواحد لا يكون مشتبهاً وغير متشابه ، أي بعضه مشتبه وبعضه غير متشابه . وهما حالان من « الزّيتون والرمّان » معاً ، وإنّما أفرد ولم يجمع اعتباراً بإفراد اللّفظ . والتّشابه والاشتباه مترادفان كالتساوي والاستواء ، وهما مشتقّان من الشبَه . والجمع بينهما في الآية للتّفنّن كراهيّة إعادة اللّفظ ، ولأنّ اسم الفاعل من التّشابه أسعد بالوقف لما فيه من مدّ الصّوت بخلاف { مُشتبه } . وهذا من بديع الفصاحة .
والتّشابه : التماثل في حالة مع الاختلاف في غيرها من الأحوال ، أي بعض شجره يشبه بعضاً وبعضه لا يشبه بعضاً ، أو بعض ثمره يشبه بعضاً وبعضه لا يشبه بعضاً ، فالتّشابه ممّا تقارب لونه أو طعمه أو شكله ممّا يتطلّبه النّاس من أحواله على اختلاف أميالهم ، وعدم التّشابه ما اختلف بعضه عن البعض الآخر فيما يتطلّبه النّاس من الصّفات على اختلاف شهواتهم ، فمن أعواد الشّجر غليظ ودقيق ، ومن ألوان ورقه قاتم وداكن ، ومن ألوان ثمره مختلف ومن طعمه كذلك ، وهذا كقوله تعالى : { ونفضّل بعضها على بعض الأكل } [ الرعد : 4 ] . والمقصود من التّقييد بهذه الحال التّنبيه على أنّها مخلوقة بالقصد والاختيار لا بالصدفة .
ويجوز أن تجعل هذه الحال من جميع ما تقدّم من قوله : { نخرج منه حبّاً متراكباً } ، فإنّ جميع ذلك مشتبه وغير متشابه . وجعله الزمخشري حالاً من { الزّيتون } لأنّه المعطوف عليه وقدّر ل { الرمّان } حالاً أخرى تدلّ عليها الأولى ، بتقدير : والرمّان كذلك . وإنّما دعاه إلى ذلك أنّه لا يَرى تعدّدَ صاحب الحال الواحدة ولا التّنازع في الحال ونظره بإفراد الخبر بعد مبتدأ ومعطوففٍ في قول الأزرق بن طَرفة الباهلي ، جواباً لبعض بني قشير وقد اختصما في بئر فقال القُشيري : أنتَ لِصّ ابنُ لِصّ :
رَمَاني بأمر كنتُ منه ووالدي *** بَريئاً ومن أجللِ الطَّوِي رَماني
ولا ضير في هذا الإعراب من جهة المعنى لأنّ التّنبيه إلى ما في بعض النّبات من دلائل الاختيار يوجّه العقول إلى ما في مماثله من أمثالها .
وجملة : { انظروا إلى ثمره } بيان للجمل الّتي قبلها المقصودِ منها الوصول إلى معرفة صنع الله تعالى وقدرته ، والضّمير المضاف إليه في { ثمره } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { مشتبهاً } من تخصيص أو تعميم . والمأمور به هو نظر الاستبصار والاعتبار بأطواره .
والثَمَر : الجَنَى الّذي يُخرجه الشّجر . وهو بفتح الثّاء والميم في قراءة الأكثر ، جمع ثَمَرة بفتح الثّاء والميم وقرأه حمزة والكسائي وخلَف بضمّ الثّاء والميم وهو جمع تَكسير ، كما جمعت : خَشبة على خُشُب ، وناقة على نُوق .
واليَنْعُ : الطِّيبُ والنّضج . يقال : يَنَع بفتح النّون يَيْنع بفتح النّون وكسرها ويقال : أيْنَع يُونِع يَنْعا بفتح التّحتيّة بعدها نون ساكنة .
و { إذا } ظرف لحدوث الفعل ، فهي بمعنى الوقت الّذي يبتدىء فيه مضمون الجملة المضاف إليها ، أي حين ابتداء أثماره . وقوله : { وينعه } لم يقيّد بإذا أينع لأنّه إذَا ينع فقد تمّ تطوّره وحان قطافه فلم تبق للنّظر فيه عبرة لأنّه قد انتهت أطواره .
وجملة : { إنّ في ذلكم لآيات } علّة للأمر بالنّظر . وموقع ( إنّ ) فيه موقع لام التّعليل ، كقول بشّار :
إنّ ذاك النّجَاحَ في التّبْكير
والإشارة ب { ذلكم } إلى المذكور كلّه من قوله { وهو الّذي أنزل من السّماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء إلى قوله ويَنْعه } فتوحيد اسم الإشارة بتأويل المذكور ، كما تقدّم في قوله تعالى : { عوان بين ذلك } في سورة [ البقرة : 68 ] .
و{ لقوم يؤمنون } وصف للآيات . واللاّم للتّعليل ، والمعلّل هو ما في مدلول الآيات من مضمّن معنى الدّلالة والنّفع . وقد صرّح في هذا بأنّ الآيات إنّما تنفع المؤمنين تصريحاً بأنّهم المقصود في الآيتين الأخريين بقوله : { لقوم يعلمون } [ الأنعام : 97 ] وقوله { لقوم يفقهون } [ الأنعام : 98 ] ، وإتماماً للتّعريض بأنّ غير العالمين وغير الفاقهين هم غير المؤمنين يعني المشركين .