{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ } على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام . { فِيهَا هُدًى } يهدي إلى الإيمان والحق ، ويعصم من الضلالة { وَنُورٌ } يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك ، والشبهات والشهوات ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } { يَحْكُمُ بِهَا } بين الذين هادوا ، أي : اليهود في القضايا والفتاوى { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } لله وانقادوا لأوامره ، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم ، وهم صفوة الله من العباد . فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها ، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء بها ؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن ، إلا بتلك العقيدة ؟ هل لهم إمام في ذلك ؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف ، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس ، والتأكل بكتمان الحق ، وإظهار الباطل ، أولئك أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار .
وقوله : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } أي : وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادواأئمة الدين من الربانيين ، أي : العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية ، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين .
والأحبار أي : العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم ، وترمق آثارهم ، ولهم لسان الصدق بين أممهم .
وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } أي : بسبب أن الله استحفظهم على كتابه ، وجعلهم أمناء عليه ، وهو أمانة عندهم ، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان ، وتعليمه لمن لا يعلمه .
وهم شهداء عليه ، بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه ، وفيما اشتبه على الناس منه ، فالله تعالى قد حمل أهل العلم ، ما لم يحمله الجهال ، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا .
وأن لا يقتدوا بالجهال ، بالإخلاد إلى البطالة والكسل ، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة ، من أنواع الذكر ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، ونحو ذلك من الأمور ، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا .
وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم ، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم ، ولهذا قال : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } فتكتمون الحق ، وتظهرون الباطل ، لأجل متاع الدنيا القليل ، وهذه الآفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته ، بأن يكون همه الاجتهاد في العلم والتعليم ، ويعلم أن الله قد استحفظه ما{[266]} أودعه من العلم واستشهده عليه ، وأن يكون خائفا من ربه ، ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم من القيام بما هو لازم له ، وأن لا يؤثر الدنيا على الدين .
كما أن علامة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة ، غير قائم بما أمر به ، ولا مبال بما استحفظ عليه ، قد أهمله وأضاعه ، قد باع الدين بالدنيا ، قد ارتشى في أحكامه ، وأخذ المال على فتاويه ، ولم يعلم عباد الله إلا بأجرة وجعالة .
فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة ، كفرها ودفع حظا جسيما ، محروما منه غيره ، فنسألك اللهم علما نافعا ، وعملا متقبلا ، وأن ترزقنا العفو والعافية من كل بلاء يا كريم .
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } من الحق المبين ، وحكم بالباطل الذي يعلمه ، لغرض من أغراضه الفاسدة { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه . وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد .
ذلك كان حكم الله على المحكومين الذين لا يقبلون حكم شريعة الله في حياتهم . . فالآن يجيء حكمه - تعالى - على الحاكمين ، الذين لا يحكمون بما أنزل الله . الحكم الذي تتوافى جميع الديانات التي جاءت من عند الله عليه :
( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور . يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار ، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ؛ فلا تخشوا الناس واخشون ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص . فمن تصدق به فهو كفارة له . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . .
لقد جاء كل دين من عندالله ليكون منهج حياة . منهج حياة واقعية . جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية ، وتنظيمها ، وتوجيهها ، وصيانتها . ولم يجيء دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير ؛ ولا ليكون كذلك مجرد شعائر تعبدية تؤدي في الهيكل والمحراب . فهذه وتلك - على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتهما في تربية الضمير البشري - لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها ؛ ما لم يقم على أساسهما منهج ونظام وشريعة تطبق عمليا في حياة الناس ؛ ويؤخذ الناس بها بحكم القانون والسلطان ؛ ويؤاخذ الناس على مخالفتها ، ويؤخذون بالعقوبات .
والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد ؛ يملك السلطان على الضمائر والسرائر ، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك . ويجزي الناس وفق شرائعة في الحياة الدنيا ، كما يجزيهم وفق حسابة في الحياة الآخرة .
فأما حين تتوزع السلطة ، وتتعدد مصادر التلقي . . حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطة لغيره في الانظمة والشرائع . . وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا . . حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين ، وبين اتجاهين مختلفين ، وبين منهجين مختلفين . . وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . . ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) . . ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) . .
من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة . وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى ، أو لأمة من الأمم ، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها ، فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة ، إلى جانب العقيدة التي تنشى ء التصور الصحيح للحياة ، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله . . وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله . حيثما جاء دين من عند الله . لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة .
وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى ، التي ربما جاءت لقرية من القرى ، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل ، في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة . . وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى . . اليهودية ، والنصرانية ، والإسلام . .
ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة :
( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ) :
فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل ، وإنارة طريقهم إلى الله . وطريقهم في الحياة . . وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد . وتحمل شعائر تعبدية شتى . وتحمل كذلك شريعة :
( يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار ، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) .
أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونورا للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب . ولكن كذلك لتكون هدى ونورا بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله ، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج . ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله ؛ فليس لهم في أنفسهم شيء ؛ إنما هي كلها لله ؛ وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية - وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل - يحكمون بها للذين هادوا - فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه - كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار ؛ وهم قضاتهم وعلماؤهم . وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله ، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء ، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم ، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته ، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم .
وقبل أن ينتهي السياق من الحديث عن التوراة ، يلتفت إلى الجماعة المسلمة ، ليوجهها في شأن الحكم بكتابالله عامة ، وما قد يعترض هذا الحكم من شهوات الناس وعنادهم وحربهم وكفاحهم ، وواجب كل من استحفظ على كتاب الله في مثل هذا الموقف ، وجزاء نكوله أو مخالفته :
( فلا تخشوا الناس واخشون ؛ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) . .
ولقد علم الله - سبحانه - أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه - في كل زمان وفي كل أمة - معارضة من بعض الناس ؛ ولن تتقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام . . ستواجهه معارضة الكبراء والطغاة وأصحاب السلطان الموروث . ذلك أنه سينزع عنهم رداء الألوهية الذي يدعونه ؛ ويرد الألوهية لله خالصة ، حين ينزع عنهم حق الحاكمية والتشريع والحكم بما يشرعونه هم للناس مما لم يأذن به الله . . وستواجهة معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت . ذلك أن شريعة الله العادلة لن تبقي على مصالحهم الظالمة . . وستواجهه معارضة ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال . ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها وسيأخذهم بالعقوبة عليها . . وستواجهه معارضة جهات شتى غير هذه وتيك وتلك ؛ ممن لا يرضون أن يسود الخير والعدل والصلاح في الأرض .
علم الله - سبحانه - أن الحكم بما أنزل ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات ؛ وأنه لا بد للمستحفظين عليه والشهداء أن يواجهوا هذه المقاومة ؛ وأن يصمدوا لها ، وإن يحتملوا تكاليفها في النفس والمال . . فهو يناديهم :
( فلا تخشوا الناس واخشون ) . .
فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله . سواء من الناس أولئك الطغاة الذين يأبون الاستسلام لشريعة الله ، ويرفضون الإقرار - من ثم - يتفرد الله - سبحانه - بالألوهية . أو أولئك المستغلون الذين تحول شريعة الله بينهم وبين الاستغلال وقد مردوا عليه . أو تلك الجموع المضللة او المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل أحكام شريعة الله وتشغب عليها . . لا تقف خشيتهم لهؤلاء جميعا ولغيرهم من الناس دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة . فالله - وحده - هو الذي يستحق أن يخشوة . والخشية لا تكون إلا لله . .
كذلك علم الله - سبحانه - أن بعض المستحفظين على كتاب الله المستشهدين ؛ قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا ؛ وهم يجدون أصحاب السلطان ، وأصحاب المال ، وأصحاب الشهوات ، لا يريدون حكم الله فيملقون شهوات هؤلاء جميعا ، طمعا في عرض الحياة الدنيا - كما يقع من رجال الدين المحترفين في كل زمان وفي كل قبيل ؛ وكما كان ذلك واقعا في علماء بني إسرائيل .
( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلًا ) . .
وذلك لقاء السكوت ، أو لقاء التحريف ، أو لقاء الفتاوي المدخولة !
وكل ثمن هو في حقيقته قليل . ولو كان ملك الحياة الدنيا . . فكيف وهو لا يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقابا ومصالح صغيرة ؛ يباع بها الدين ، وتشترى بها جهنم عن يقين ؟ !
إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن ؛ وليس أبشع من تفريط المستحفظ ؛ وليس أخس من تدليس المستشهد . والذين يحملون عنوان : " رجال الدين " يخونون ويفرطون ويدلسون ، فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، لموافأة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله . .
بهذا الحسم الصارم الجازم . وبهذا التعميم الذي تحمله ( من ) الشرطية وجملة الجواب . بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان ، وينطلق حكما عاما ، على كل من لم يحكم بما أنزل الله ، في أي جيل ، ومن أي قبيل . .
والعلة هي التي أسلفنا . . هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله ، إنما يرفض ألوهية الله . فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية . ومن يحكم بغير ما أنزل الله ، يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب ، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر . . وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك ؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان ، والعمل - وهو أقوى تعبيرا من الكلام - ينطق بالكفر أفصح من اللسان ؟ !
إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل ، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة . والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكم عن مواضعه . . وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد .
ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران ، فقال : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } أي : لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } أي : وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء ، والأحبار وهم العلماء{[9865]} { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } أي : بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } أي : لا تخافوا منهم وخافوني{[9866]} { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فيه قولان سيأتي بيانهما . سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة . {[9867]}
وكذا رواه هُشَيْم والثوري ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس{[9868]} عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ [ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ] }{[9869]} قال : هي به كفر - قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
وقال الثوري ، عن ابن جُرَيْج{[9870]} عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .
وقال وَكِيع عن سفيان ، عن سعيد المكي ، عن طاوس : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : ليس بكفر ينقل عن الملة . {[9871]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حُجَير ، عن طاوس ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه .
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن حديث سفيان بن عيينة ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . {[9872]}
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } يهدي إلى الحق . { ونور } يكشف عما استبهم من الأحكام . { يحكم بها النبيون } يعني أنبياء بني إسرائيل ، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ، وبهذه الآية تمسك القائل به . { الذين أسلموا } صفة أجريت على النبيين مدحا لهم وتنويها بشأن المسلمين . وتعريضا باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم . { للذين هادوا } متعلق بأنزل ، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم . { والربانيون والأحبار } زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون { بما استحفظوا من كتاب الله } بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف ، والراجع إلى ما محذوف ومن للنبيين . { وكانوا عليه شهداء } رقباء لا يتركون أن يغير ، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا . { فلا تخشوا الناس واخشون } نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير . { ولا تشتروا بآياتي } ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها . { ثمنا قليلا } هو الرشوة والجاه { ومن لم يحكم بما أنزل الله } مستهينا به منكرا له . { فأولئك هم الكافرون } لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ، ولذلك وصفهم بقوله { الكافرون } و{ الظالمون } و{ الفاسقون } ، فكفرهم لإنكاره ، وظلمهم بالحكم على خلافه ، وفسقهم بالخروج عنه . ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها ، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى .
وقوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة } الآية ، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية ، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان{[4555]} . و «الهدى » : الإرشاد في المعتقد والشرائع ، و «النور » : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها ، و { النبيون الذين أسلموا } هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية و { أسلموا } معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى . وقوله تعالى : { للذين هادوا } متعلق ب { يحكم } أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم . وقوله تعالى : { الربانيون } عطف على «النبيين » أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء ، وفي البخاري قال «الرباني » الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقيل «الرباني » منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه ، وزيدت النون في «رباني » مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني ، والأحبار أيضاً العلماء واحدهم حِبر بكسر الحاء ، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به . وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار » الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانياً والآخر حبراً .
وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما .
قال القاضي ابو محمد : وفي هذا نظر ، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا{[4556]} وغيرهم جحدوا أمر الرجم وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبراً ولا ربانياً . وقوله تعالى : { بما استحفظوا } أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه ، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة ، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى : { وإنا له لحافظون }{[4557]} والحمد لله . وقوله تعالى : { فلا تخشوا الناسَ واخشون } حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل . وقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين . وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطاباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فقالت جماعة : المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين ، وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب{[4558]} .
وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم : الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله . ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان{[4559]} .
وقيل لحذيفة بن اليمان :أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، ان كان لكم كل حلوة ، ولهم كل ُمَّرة ، لتسلكن طريقهم قدر الشراك{[4560]} .
وقال الشعبي : نزلت { الكافرون } في المسلمين و { الظالمون } في اليهود و { الفاسقون } في النصارى{[4561]} .
قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم بهذا التخصيص وجهاً إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة ، فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله : { فلا تخشوا الناس } وقال إبراهيم النخعي : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها{[4562]} .
لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها . ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله ، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيءٍ من لدن عظيم ، والعظيم يتخيّل عَالياً ، كما تقدّم غير مرّة .
والنّور استعارة للبيان والحقّ ، ولذلك عطف على الهُدى ، فأحكامها هادية وواضحة ، والظرفية . حقيقية ، والهدى والنّور دلائلهما . ولك أن تجعل النّور هنا مستعاراً للإيمان والحكمة ، كقوله : { يخرجهم من الظلمات إلى النّور } [ البقرة : 132 ] ، فيكون بينَه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق ، فالنّور أعمّ ، والعطفُ لأجل تلك المغايرة بالعموم .
والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل ، موسى والأنبياءُ الّذين جاءوا من بعده . فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء ، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام ، وهي الحنيفية الحقّ ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة ، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط ، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء . ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله : { فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] كما تقدّم هنالك . وقد قال يوسف عليه السّلام في دعائه : { توفَّنِي مُسلماً وألْحقني بالصّالحين } [ يوسف : 101 ] . والمقصود من الوصف بقوله : { الّذين أسلموا } على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء . ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيماً له .
واللام في قوله : { للّذين هادوا } للأجل وليست لتعدية فعل { يحكم } إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم . والّذين هادوا هم اليهود ، وهو اسم يرادف معنى الإسرائليين ، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم ، فغلب عليهم من بعد ، كما قدّمناه عند قوله تعالى : { إنُّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصابئين } الآية في سورة البقرة ( 62 ) .
والرّبّانيون جمع ربّاني ، وهو العالم المنسوب إلى الربّ ، أي إلى الله تعالى . فعلى هذا يكون الربّاني نَسباً للربّ على غير قياس ، كما قالوا : شعراني لكثير الشعَر ، ولحياني لعظيم اللّحية . وقيل : الربّاني العالم المُربي ، وهوَ الّذي يبتدىء النّاس بصغار العلم قبل كباره . ووقع هذا التّفسير في صحيح البخاري . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولكن كونوا رَبَّانيّين } في سورة آل عمران ( 79 ) .
والأحبار جمع حَبْر ، وهو العالم في الملّة الإسرائليّة ، وهو بفتح الحاء وكسرها ، لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المِداد الّذي يكتب به . وعطف { الربّانيّون والأحبار } على { النّبيئون } لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين .
والاستحفاظ : الاستئمان ، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته .
استعير الاستحفاظ الّذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتّبليغ للأمّة على ما هو عليه .
فالباء في قوله { بما استحفظوا } للملابسة ، أي حكماً ملابساً للحقّ متّصلاً به غير مبدّل ولا مغيّر ولا مؤوّل تأويلاً لأجل الهوى . ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان . ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد ما حكاه عياض في « المدارك » ، عن أبي الحسن بن المنتاب ، قال : كنت عند إسماعيل يوماً فسئل : لم جاز التّبديل على أهل التّوراة ولم يجز على أهل القرآن ، فقال : لأنّ الله تعالى قال في أهل التّوراة { بما استحفظوا من كتاب الله } فوكل الحفظ إليهم . وقال في القرآن : { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] . فتعهّد الله بحفظه فلم يجز التّبديل على أهل القرآن . قال : فذكرت ذلك للمُحاملي ، فقال : لا أحْسَنَ من هذا الكلام .
و { من } مبيّنة لإبهام ( ما ) في قوله : { بما استحفظوا } . و { كتاب الله } هو التّوراة ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار ، ليتأتّى التّعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التّوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى .
وضميرُ { وكانوا } للنبيئين والربانيّين والأحبار ، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله ، أي شهداء على حفظه من التّبديل ، فحرف ( على ) هنا دالّ على معنى التمكّن وليس هو ( على ) الّذي يتعدّى به فعل شَهِد ، إلى المحقوق كما يتعدّى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له ، أي المحِقّ ، بل هو هنا مثل الّذي يتعدّى به فعل ( حفظ ورقب ) ونحوهما ، أي وكانوا حفَظَة على كتاب الله وحُرّاساً له من سوء الفهو وسوء التّأويل ويحملون أتباعه على حَقّ فهمِه وحقّ العمل به .
ولذلك عقّبه بجملة { فلا تخشوا النّاس واخْشَوْن } المتفرّعة بالفاء على قوله : { وكانوا عليه شهداء } ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حقّ الأمانة لا يخشى أحداً في القيام بوجه أمانته ولكنّه يخشى الّذي استأمنه . فيجوز أن يكون الخطاب بقوله : { فلا تخشوا النّاس } ليهود زمان نزول الآية ، والفاء للتفريع عمّا حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين ، والجملة على هذا الوجه معترضة ؛ ويجوز أن يكون الخطاب للنّبيئين والربّانيّين والأحبار فهيَ على تقدير القَول ، أي قلنا لهم : فلا تخشوا النّاس . والتّفريع ناشىء عن مضمون قوله : { بما استحفظوا من كتاب الله } ، لأنّ تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالنّاس رضُوا أم سخطوا ، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى .
وتقدّم الكلام في معنى { ولا تَشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } في سورة البقرة ( 41 ) .
وقولُه { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله : { فلا تخشوا النّاس واخشون } ، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تُخالَف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس ، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً عقّبت به تلك العظات الجليلة .
وعلى الوجهين فالمقصود اليهودُ وتحذير المسلمين من مثل صنعهم .
و ( مَن ) الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } ، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم ؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومَة عندهم . والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق . ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر . وقد اقتضى هذا قضيتين :
إحداهما : كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافراً ، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافراً ؛ والثّانية : قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله .
فأمَّا القضيةُ الأولى : فالّذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا . لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم . وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر ، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة . وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مُجملة ، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة ؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب ، ومساق الآية يبيّن إجمالها . ولذلك قال جمهور العلماء : المراد بمن لم يحكم هنا خصوصَ اليهود ، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجَه مسلم في « صحيحه » . فعلى هذا تكون ( مَنْ ) موصولة ، وهي بمعنى لام العهد . والمعنى عليه : ومن ترك الحكم بما أنزل الله تَركا مثل هذا التّرك ، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته . وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى ؛ فيكون القَصر إدّعائياً وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلاً لها ؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلاً للخبر . وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له ، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إنْ سألتَ عن الكافرين فهم هُم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع .
وقال جماعة : المراد من لم يحكم بما أنزل الله مَن ترك الحكم به جحداً له ، أو استخفافاً به ، أو طعناً في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله ، سمِعه المكلّف بنفسه . وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، ف { من } شرطية وتركُ الحكم مُجمَل بيانُه في أدلّة أخر . وتحت هذا حالة أخرى ، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تُقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخلُ تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات ، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية .
وأعظمُ منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمورِ ، وهو مراتب متفاوتة ، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله . ٍ
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكُفر فقيل عُبّر بالكفر عن المعصيّة ، كما قالت زوجة ثابت بن قيس « أكره الكُفر في الإسلام » أي الزّنى ، أي قد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين ، وروى هذا عن ابن عبّاس . وقال طاووس « هو كفر دونَ كفر وليس كفراً ينقل عن الإيمان » . وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى ، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصيّة ، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعاً في دلالته على الحكم ، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير .
وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين . وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى : { فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّمون فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ] الآية وبيّنّا وجوهه ، وسيأتي في قوله تعالى : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } إلى قوله { بل أولئك هم الظّالمون } في سورة النّور ( 48 50 ) .
وأمّا القضيّة الثّانية : فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم المعبّر عنه مجازاً بالكفر ، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر ، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام .
واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما ، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله . وهذا تأويل ثالث في الآية ، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره ، بأنّ ترك الحكم بين النّاس ، أو دَعا إلى الصلح ، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم ، وإلاّ للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم ، وكفرُ كلّ من ليس بحاكم . فالمعنى : ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله .